منذ اندلاع الحرب في السودان في 15 أبريل/ نيسان 2023، شكّلت مناطق كردفان ودارفور مسرحًا رئيسيًا للقتال بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع. ومع مرور أكثر من عامين على النزاع، برزت مدينة بابنوسة بولاية غرب كردفان بوصفها إحدى النقاط الحساسة في خريطة الحرب، لما تمثله من موقع استراتيجي يربط بين دارفور وكردفان، ويعد شريانًا حيويًا لخطوط الإمداد والتواصل العسكري بين المنطقتين.
ورغم أن المدينة ظلت لفترات طويلة بعيدة نسبيًا عن جبهات المواجهة المباشرة، فإنها تحولت منذ مطلع عام 2024 إلى بؤرة اشتباك متكرر ومحور حصار مستمر، بعد أن حاولت مليشيا الدعم السريع السيطرة على الفرقة 22 مشاة، ولكنها فشلت في اختراق خطوط الجيش، ومع ذلك أدت إلى نزوح واسع للسكان وتحويل المدينة إلى منطقة شبه خالية، يعيش فيها الجنود في عزلة تامة وسط حصار خانق.
وفيما يعتقد مراقبون أن المعركة المقبلة حول بابنوسة قد تكون الأكبر منذ سقوط الفاشر في دارفور، تتصاعد المؤشرات على استعداد الطرفين لجولة حاسمة؛ فالمليشيا حشدت قواتها القادمة من الفاشر ونقلت منظومات دفاع جوي إلى أطراف المدينة، بينما يصرّ الجيش على التمسك بمواقعه داخل الفرقة 22.
وبينما تتداخل الحسابات العسكرية مع المعادلات السياسية الجارية في الجهود الساعية الى اقرار هدنة انسانية، تبدو بابنوسة اليوم على حافة مواجهة قد تعيد رسم موازين الحرب غربي السودان، فالمعركة المحتملة لا تتعلق بموقع عسكري فحسب، بل تختزل في جوهرها صراع الإرادة بين طرفين يسعيان إلى فرض وقائع ميدانية تُترجم لاحقًا على طاولة التفاوض.
الأهمية الاستراتيجية لمدينة بابنوسة
تُعد بابنوسة واحدة من أكثر المدن أهمية في ولاية غرب كردفان، ليس فقط بحكم موقعها الجغرافي، بل أيضًا بسبب دورها التاريخي في ربط إقليم دارفور ببقية السودان، فالمدينة تقع على مفترق طرق يربط بين المجلد والفولة والنهود من جهة، ونيالا والضعين من جهة أخرى، ما يجعلها نقطة ارتكاز حيوية لأي قوة عسكرية تسعى للسيطرة على الممر البري الذي يصل بين كردفان ودارفور.
من الناحية الجغرافية، تتميز بابنوسة ببيئة منبسطة تسهّل الحركة العسكرية، وتضم شبكة طرق ترابية وإسفلتية كانت قبل الحرب تُعد من أكثر الطرق حيوية لحركة البضائع والوقود القادمة من الأبيض نحو دارفور، ما جعلها أشبه بعقدة لوجستية في الإمداد التجاري والعسكري، ومن يسيطر عليها يملك القدرة على التحكم في تدفق الإمدادات بين المنطقتين الغربيتين من السودان.
هذه الجغرافيا المتشابكة تمنح بابنوسة أهمية مضاعفة؛ فهي تقع في نطاق اقتصادي حساس مرتبط مباشرة بموارد النفط، وتمثل في الوقت ذاته خط تماس عسكري وجغرافي بين مناطق نفوذ الطرفين، محددة ممرات الحركة بين الشمال والجنوب والغرب. اقتصاديًا، تمر بالقرب منها خطوط أنابيب النفط التي تنقل الخام من مناطق الإنتاج في غرب كردفان إلى ميناء بورتسودان شرقًا، ما يجعلها موقعًا حساسًا في أوقات الحرب والسلم على حد سواء، إذ أي اضطراب فيها قد يؤثر مباشرة على أمن الإمدادات النفطية ويجعل مراقبة التطورات العسكرية في محيطها أمرًا إقليميًا بالغ الأهمية.
من حيث الثقل السياسي والاجتماعي، تقع بابنوسة في منطقة ذات تنوع قبلي معقد يضم المسيرية ولاجئين من دولة جنوب السودان وقبائل محلية أخرى، ما يجعلها جزءًا من شبكة النفوذ التقليدية التي يُبنى عليها توازن السلطة في غرب كردفان. وقد شكل استقرار المدينة دائمًا ركيزة للتعايش الأهلي والتجارة البينية بين هذه القبائل، لذلك فإن أي اضطراب فيها يُنذر بامتداد التوتر إلى محليات مجاورة، بما في ذلك المجلد وهبيلا والفولة.
وبالنظر إلى كل تلك العوامل مجتمعة، يمكن القول إن بابنوسة تختصر الصراع السوداني في رمزيته الأوسع؛ صراع على الأرض والموارد والنفوذ، يمتد من الحقول النفطية إلى خطوط الإمداد ومن القبائل إلى الطاولة السياسية. لذا، فإن أي معركة قادمة فيها لن تكون مجرد مواجهة عسكرية محدودة، وإنما اختبار لتوازن القوى بين الطرفين، ولقدرة الدولة السودانية على حماية مراكزها الحيوية.
المعادلة الميدانية وتوازن القوة
تشير المعطيات الميدانية إلى أن بابنوسة تقف على أعتاب معركة حاسمة بين الفرقة 22 مشاة التابعة للجيش ومليشيا الدعم السريع التي حشدت قواتها استعدادًا للهجوم، في مواجهة تتجاوز السيطرة الميدانية إلى ترسيخ معادلة جديدة في غرب كردفان بعد تمدد المليشيا من دارفور نحو الشرق عقب سيطرتها على الفاشر.
وقد شكّل الهجوم الأخير للمليشيا باستخدام منظومة الدفاع الجوي الصينية (FK-2000) التي نُقلت إليها عبر الإمارات – نقطة تحول نوعية، إذ تمكنت من إسقاط طائرة نقل عسكرية من طراز (IL-76) كانت تؤدي مهام الإمداد الجوي المنتظم للفرقة 22. وبينما قال الجيش إن سقوط الطائرة كان نتيجة عطل فني، يرى مراقبون أنها أُصيبت بصاروخ موجّه أطلقته المليشيا ضمن كمين جوي معدّ مسبقًا.
ويُضاف إلى المشهد بعدٌ قبلي واجتماعي بالغ التعقيد، حيث دخلت مجموعات من زعماء قبيلة المسيرية والناظر الصادق عزالدين حريكة على خط الأزمة، في محاولة لإقناع قيادة الفرقة بالانسحاب أو التسليم لتجنب القتال، إلا أن هذه الوساطات تُفسَّر بأنها جزء من استراتيجية ضغط نفسي تنتهجها المليشيا لاستقطاب عناصر الجيش تحت ذريعة “الولاء القبلي”، مستفيدة من خطاب عاطفي موجَّه لأبناء المنطقة، لا سيما بعد موجات التجنيد التي شملت قيادات محلية انضمت إلى صفوفها.
في المقابل، ترى القيادة العسكرية داخل الفرقة أن الاستسلام يعني نهاية وجود الجيش في غرب كردفان، ما دفعها إلى التمسك بالثبات رغم الحصار الخانق ومحاولات الاختراق المتكررة. ويشير المراقبون إلى أن الجيش يدرك خطورة خسارة بابنوسة، ليس فقط من الناحية العسكرية، بل لما ستترتب عليه من انعكاسات سياسية ومعنوية، إذ تبقى الفرقة الأخيرة المنظمة في الولاية، وصمودها يمثل اختبارًا لإرادة الجيش وقدرته على الصمود في واحدة من أكثر المناطق عزلة وصعوبة ميدانيًا.
ومع استمرار تبادل القصف المدفعي والجوي، تتحول بابنوسة تدريجيًا إلى مختبر لموازين القوة الجديدة غربي السودان، وقدرة الدولة على الاحتفاظ بموطئ قدم صامد رغم الانقطاع اللوجستي والضغط السياسي. وبذلك، تصبح بابنوسة اليوم أكثر من مجرد مدينة محاصرة؛ وتعتبر رمز لمرحلة مفصلية في الحرب السودانية.
الضغوطات الدولية حول مقترح الهدنة
تصاعد التوتر حول بابنوسة مرتبط مباشرة بجهود الآلية الرباعية التي تضم الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات، والتي تحاول دفع طرفي النزاع نحو هدنة إنسانية مؤقتة، لكن الحكومة السودانية ترفض مشاركة الإمارات، معتبرة دعمها لمليشيا الدعم السريع سببًا في تعقيد الحلول السياسية، وتقول بأنها ستسلم ردها حول مقترح الهدنة لأمريكا، بينما يقود مستشار ترامب مسعد بولس الضغوط الدولية لتسريع اتفاق هدنة.
في المقابل، وافقت مليشيا الدعم السريع بقيادة حميدتي على الهدنة المعلنة كوسيلة لتثبيت مكاسبها في الميدان، مستخدمة الاتفاقية تكتيكيًا لإعادة التموضع والتحشيد، وفي الوقت نفسه استمرت في قصف المدنيين بالتدوين والمسيرات في عدة مدن، ما يوضح أنها لا تنوي التقيّد فعليًا بالوقف الكامل للعمليات العسكرية.
وتستفيد المليشيا من الحصار والتحشيد العسكري لخلق واقع ميداني يضع الوسطاء أمام تحديات كبيرة، إذ يصبح من الصعب الفصل بين الضغوط السياسية وبين التصعيد العسكري على الأرض. وتشير المصادر إلى أن المليشيا تراهن على الضغط النفسي على الفرقة 22 مشاة لإظهار قدرتها على فرض واقع جديد، ما يزيد صعوبة تنفيذ أي هدنة حقيقية.
بالإضافة إلى ذلك، تستخدم المليشيا خطاب الولاء القبلي والتحشيد المحلي للتأثير على الرأي العام، محليًا ودوليًا، لإضفاء شرعية على تحركاتها، وفي الوقت نفسه لإضعاف موقف الجيش في المفاوضات، بما يعكس استراتيجية مزدوجة عسكرية-سياسية تهدف إلى السيطرة على بابنوسة قبل أي توافق على هدنة.
في المجمل، فإن تصعيد الدعم السريع حول بابنوسة يمثل اليوم مسرحًا مزدوج الأبعاد، يتمثل بتهديد عسكري مباشر للفرقة 22 مشاة، وفي الوقت نفسه أداة ضغط على المفاوضات الدولية التي تقودها الآلية الرباعية، ما يجعل المدينة نقطة محورية في صياغة مستقبل ولاية غرب كردفان ضمن أي اتفاق محتمل.
نزوح جماعي
المدينة التي كانت تضم نحو 177,000 نسمة قبل اندلاع الحرب أصبحت اليوم مدينة مفرغة تقريبًا، بعد أن أعلنت غرفة طوارئ بابنوسة عن نزوح جميع سكانها نتيجة الاشتباكات والحصار المتواصل، ما يجعل المدينة واحدة من أخطر بؤر الأزمة الإنسانية في ولاية غرب كردفان، إذ لم يعد فيها أي حضور مدني تقريبًا، ما يزيد من هشاشة الوضع الإنساني.
فالمعاناة لا تقتصر على مجرد النزوح، وإنما تشمل انقطاع الخدمات الأساسية بالكامل تقريبًا؛ لا مياه صالحة للشرب، لا خدمات صحية، ولا تعليم نظامي، فقد أوضحت تقارير صحفية أن النازحين من بابنوسة يعيشون في ظروف قاسية، بعضهم تحت الأشجار، يعاني من الجوع، والأمراض مثل الملاريا والتهاب الجهاز التنفسي.
يضاف إلى ذلك أن مدينة بابنوسة كانت محاطة بحصار فعلي، ما أعاق دخول المساعدات وتوزيع الغذاء والدواء بشكل منتظم، في حين أن التهديدات الجوية والمدفعيات جعلت من العودة إلى المدينة أمراً شبه مستحيل حتى الآن. بالتالي، فإن نزوح السكان لم يكن مجرد خيار، وإنما كان استجابة إجبارية للواقع الميداني المتدهور.
من جهة أخرى، النزوح الشامل لسكّان بابنوسة يشكّل عبئًا كبيرًا على مدن ومراكز إيواء في المناطق المجاورة، مثل الأبيض التي تستقبل أعدادًا متزايدة من النازحين دون وجود بنية تحتية كافية، ما يؤدي ذلك إلى تفاقم الأزمات، واكتظاظ مخيمات الإيواء، ونقص المياه، وانعدام فرص العمل، وانتشار الأمراض.
وبالنظر إلى هذا الواقع، فإن أي معركة مقبلة في بابنوسة لن تكون مجرد اختبار عسكري، بل كارثة إنسانية محتملة، حيث إن استعادة المدينة أو سقوطها سيحدد مصير مئات الآلاف من المدنيين من سكانها الأصليين الذين ينتظرون العودة.
