ترجمة وتحرير: نون بوست
تغيّر شيء ما في نيويورك.
في مدينة اعتادت أن تحدد فيها القوة المالية وإجماع وسائل الإعلام حدود الإمكانات السياسية، استطاع شاب اشتراكي ديمقراطي مسلم أن يحقق انتصاراً ساحقاً على حاكم سابق يحظى بدعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وشبكات المانحين الذين اعتادوا صناعة النتائج الانتخابية قبل صناديق الاقتراع.
واجه ممداني حملة تشويه منظمة في كبرى وسائل وسائل الإعلام، حيث حاولوا وصمه بـ”التطرف” و”الشيوعية” و”معاداة السامية“، لكن كل هذه الاتهامات فشلت، وفاز ممداني.
حقق انتصاره رغم تحالف قوى المؤسسة الحاكمة ضده. فقد أعلن ترامب دعمه العلني للحاكم السابق أندرو كومو، بينما امتنعت شخصيات ديمقراطية بارزة عن تأييد ممداني حتى الأيام الأخيرة من الحملة، وحتى عندما قدمت دعمها، جاء ذلك بشكل متردد ومتأخر.
لم يكن السباق مجرد مواجهة مع اليمين الجمهوري، بل أيضاً مع قيادة الحزب الديمقراطي الوسطية التي هيمنت على توجهاته لعقود.
تداعيات الانتصار على مشروع ترامب
يُشكّل فوز ممداني اختراقاً للتيار اليساري داخل حزب ظل لسنوات خاضعاً لسياسات المانحين والمناورات السياسية.
كانت هذه انتخابات محلية – تركزت على النقل والإسكان والخدمات العامة – وليست انتخابات رئاسية. ومع ذلك، تعكس انتخابات مدينة نيويورك اتجاهات بدأت تترسخ على مستوى الولايات المتحدة. إنها تكشف عن مسار التيار الحالي قبل أن يصبح ذلك مرئيًا.
وقد تغير المسار فعليا.
في فرجينيا، تمكنت أبيغيل سبانبرغر من الفوز بمنصب الحاكم بعد أربع سنوات من حكم الجمهوريين. وفي نيو جيرسي، حققت ميكي شيريل فوزا كاسحا على منافسها جاك سياتاريلي.
أما في كاليفورنيا، فقد أيد ما يقرب من ثلثي الناخبين المقترح 50، في خطوة قوضت استراتيجيات إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية على النمط الجمهوري المستورد من تكساس.
تُشير هذه النتائج مجتمعة إلى تراجع مشروع ترامب السياسي، القائم على استغلال الخوف من المهاجرين والإسلاموفوبيا، وتوظيف السخط العام، والقوة السياسية لرأس المال.
تباطأ زخم مشروع ترامب، وهو يُواجه الآن فاعلا سياسيا جديدا: شباب مهاجرون من أعراق متعددة ينتمون للطبقة العاملة.
ولم تعتمد حملة ممداني على دعم النخب، بل اعتمدت تنظيم أفقي يضم طلابًا ومستأجرين وشبابًا من الطبقة العاملة ومنظمين لا يملكون وثائق ثبوتية وعائلات من الأقليات السوداء والملونة، وشبابًا بيضًا خاب أملهم في الليبرالية الإدارية.
واعتمدت الحملة في تمويلها على التبرعات الصغيرة، واستمرت من خلال التواصل المباشر، لتفوق تنظيميًا تمويلات بعشرات الملايين من نخب الأعمال وجماعة الضغط المؤيدة لإسرائيل (أيباك).
كما حصد ممداني أكثر من ثلث أصوات الناخبين اليهود، وهو ما يدحض عمليا – وليس نظريا – الادعاء بأن التضامن مع فلسطين يعني معاداة السامية.
لكن هذا التحول ليس حكرًا على الولايات المتحدة.
ففي هولندا، نجح ائتلاف من أحزاب الوسط واليسار في كسر هيمنة خيرت فيلدرز.
وفي المملكة المتحدة، قفز عدد أعضاء حزب الخضر إلى أكثر من 150 ألف عضو، بعدما وصف ما يحدث في غزة بأنه إبادة جماعية، حيث تحدث زعيمه الشاب اليهودي زاك بولانسكي عن ذلك بوضوح، وهو ما لم يفعله حزب العمال.
اختبار الشرعية
في ويلز، دان حزب “بليد كامري” بأشد العبارات ما وصفه بـ”الإبادة الجماعية” في غزة، دون أي تردد، مطالباً بفرض حظر على توريد الأسلحة، ومؤيداً الاعتراف بدولة فلسطين من على منبر البرلمان الويلزي. كما انضم إلى صفوف المتظاهرين في مسيرات احتجاجية، وهو موقف لم يؤدِ إلى تراجع شعبيته.
وأعاد الخطاب الحازم لحزب “شين فين” القومي البارز في أيرلندا بشأن العدوان على غزة، تأكيد مكانته كحزب مناهض للاستعمار، مما عزز شعبيته في صفوف أبناء الطبقة العاملة والشباب والجمهوريين الأكبر سناً.
وفي إيرلندا أيضاً، جاء فوز كاثرين كونولي الساحق في 24 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، حيث حصدت 63.4 بالمئة من الأصوات، و914,143 بطاقة تفضيل أول، وهو الأعلى في تاريخ المنصب، ليؤكد أن الناخبين يكافئون الوضوح الأخلاقي في المواقف السياسية.
وشهدت فرنسا صعوداً ملحوظاً لحزب “فرنسا الأبية” لتصبح القوة المعارضة الرئيسية في المشهد السياسي، مستقطبا دعماً قوياً من فئة الشباب، والجالية المسلمة، وسكان الأحياء الشعبية.
عبر هذه الأمثلة، يبرز نمط واضح: تحول الوضوح الأخلاقي في قضية غزة إلى معيار جديد لقياس شرعية القوى السياسية، بينما أصبح التردد في نظر الناخبين مرادفاً للضعف، والعبارات الملطفة قرينة للتواطؤ.
السبب وراء هذا التحول جلي: حطمت غزة آلة الصمت.
فضلاً عن كشفها عنف دولة إسرائيل – القصف المتواصل والحصار الشامل والتهجير القسري – فإن هذه الحرب كشفت أيضاً عن المنظومة التي كانت تحمي هذا العنف: انضباط إعلامي، ترهيب المانحين، واستخدام تهمة معاداة السامية كاستراتيجية لتكميم أي صوت معارض.
سقوط المحظورات
لما يقرب من عقد من الزمن، هيمنت الشعبوية اليمينية على المشهد السياسي العالمي. انزاح يمين الوسط أكثر نحو اليمين، وحذا حذوه يسار الوسط.
تبنّت أجنحة واسعة من اليسار مشاريع معدّلة من برامجها الأصلية – حذر في ملف الهجرة، خطاب تطمين ثقافي، وقيود تكنوقراطية.
ثم جاءت حرب غزة.
انطلق الملايين إلى الشوارع في عواصم ومدن عالمية مثل لندن، ونيويورك، وبرلين، وشيكاغو، وجوهانسبرغ، وساو باولو، وجاكرتا، وباريس.
عندها عاد اليسار إلى الواجهة، ليس كخطاب نظري، بل حركة جماهيرية فاعلة. استعاد روح التضامن الحقيقي، وإحساسه بالتاريخ، وهدفه الأصلي: تحقيق العدالة.
برز فوز ممداني الانتخابي في ظل هذه الصحوة. لم يكن هو من صاغها، لكنه أول تعبير انتخابي ملموس عنها.
وصل الأمر إلى أن تتجرأ أطراف من اليمين الأمريكي على التعبير عما كان من المسكوت عنه: أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة قد لا تكون محكومة بالمصلحة الوطنية في المقام الأول، بل بولاء غير مشروط لدولة أجنبية.
لم يعد هذا السؤال مجرد استفهام بلاغي، بل أصبح يُطرح علناً وبصوت عال. لقد سقط المحظور.
شهدت غزة دماراً شاملاً، لكنها لم تكن صامتة سياسيا. لقد حطمت الإجماعات المصطنعة، وأيقظت الضمائر، وأعادت فتح صفحات التاريخ.
فوز ممداني لا يعلن عن نظام عالمي جديد، بل يكشف عن وهن النظام القديم.
لقد تغيرت معادلات اللعبة السياسية. لم يعد الجمهور مجرد متلقٍ أو متفرج، ولم تعد السلطة تُرتّب وراء الكواليس.
الحركة القادمة، والفصل التالي من التاريخ، سيكون من صنع أولئك الذين أدركوا هذه الحقيقة.
المصدر: ميدل إيست آي
