في لقاءٍ اعتُبر من أكثر المحطات حساسية في مسار العلاقات السورية-الأميركية مؤخرًا، التقى الرئيس السوري أحمد الشرع بعضو مجلس النواب الأميركي براين ماست، المعروف بمواقفه الصهيونية الصريحة ومعارضته الشديدة لأي توجه لتخفيف العقوبات المفروضة على دمشق. اللقاء الذي جرى بعيدًا عن عدسات الإعلام لم يكن مجرد حدثٍ بروتوكولي، بل مناسبة لإعادة طرح الأسئلة حول طبيعة الدور الذي يلعبه ماست في الملفات الشرق أوسطية، ولا سيما في ما يتعلق بسوريا وغزة.
ماست، الجندي السابق الذي خسر ساقيه في الحرب على أفغانستان، حوّل تجربته العسكرية إلى أيديولوجيا سياسية قائمة على فكرة “القوة المبررة”، مقدّمًا نفسه كمدافع شرس عن “إسرائيل” ومروّجٍ لنهجها الدموي في غزة بوصفه “حقًا في الدفاع عن النفس”، وهو من الأصوات القليلة داخل الكونغرس التي ترفض أي محاولات لوقف إطلاق النار أو مساءلة تل أبيب عن جرائمها، معتبرًا أن الشرق الأوسط ليس ساحة للتفاهم بل ميدانًا لتأكيد التفوق الأميركي.
من هذا المنطلق، يستعرض هذا المقال سيرة براين ماست ومسيرته العسكرية والسياسية، ويحلل مواقفه من سوريا وحرب غزة، في محاولة لفهم ملامح الخطاب الذي يمزج بين تجربة الجندي المتشدد ونائبٍ يرى في الحرب أداة للسلام.
من هو براين ماست؟
هو عضو في مجلس النواب الأميركي ورئيس لجنة الشؤون الخارجية، ويُعرف بمواقفه الحازمة في السياسة الخارجية، ولا سيما تجاه قضايا الشرق الأوسط. وُلد في العاشر من يوليو/ تموز عام 1980 بمدينة غراند رابيدز في ولاية ميشيغن الأميركية، وهو ابن لعائلة تعود أصولها إلى مهاجرين من المكسيك. أنهى دراسته الثانوية في “مدرسة ساوث كريستيان الثانوية” عام 1999، ثم التحق بجامعة “بالم بيتش أتلانتيك” بين عامي 2000 و2002 حيث بدأ مسيرته الجامعية.
في عام 2016، نال شهادة “بكالوريوس في الفنون الحرة” من “مدرسة هارفارد للتعليم الموسّع” بتخصّص رئيسي في الاقتصاد، ودراسات فرعية في الحكومة والبيئة. وبدأت حياته السياسية رسميًا بعد انتخابه عضوًا في مجلس النواب الأميركي عن ولاية فلوريدا، حيث بدأ ولايته الأولى في الثالث من يناير عام 2017.
ينتمي ماست إلى “الحزب الجمهوري”، وله خلفية عسكرية حيث خدم في “الجيش الأميركي”، كما تطوع بعد تقاعده للخدمة في “الجيش الإسرائيلي” دعمًا لـ”إسرائيل”، فيما يمثّل ماست نموذجًا لنهجٍ يرى أن الخدمة العامة والتجربة الذاتية تشكّلان الأساس لفهمه للسياسة والدفاع.
كيف قضى خدمته العسكرية؟
انضمّ براين ماست إلى “احتياطي الجيش الأميركي” في شهر أيار/مايو عام 2000، حيث بدأ مسيرته العسكرية مهندسًا مقاتلًا ضمن الكتيبة “841 للمهندسين القتاليين”، قبل أن ينتقل لاحقًا إلى صفوف الجيش النظامي. وتشير السجلات الرسمية لمجلس النواب الأميركي إلى أن خدمته العسكرية امتدّت بين عامي 2000 و2012، وهي فترة يصفها ماست بأنها المرحلة التي شكّلت شخصيته وصاغت رؤيته للحياة العامة.
في عام 2006، أعاد ماست تأهيله العسكري ليتخصّص في مجال “التخلّص من الذخائر المتفجرة” (EOD)، مما أوصله للعمل في “السرية الثامنة والعشرين للذخائر” ضمن وحدة عمليات خاصة تابعة للقيادة المشتركة “JSOC”، حيث أشرف خلال هذه السنوات على إتمام عمليات ميدانية معقّدة تركز على تفكيك الألغام وتأمين الطرق أمام القوات الأميركية، وهي المهام التي ستغيّر مسار حياته لاحقًا.

في أيلول/سبتمبر عام 2010، وأثناء تواجده في قندهار ضمن ما يسمى “عملية الحرية الدائمة”، انفجرت عبوة ناسفة خلال مشاركته في تمهيد الطرق للقوات الخاصة للتقدم، حيث أصيب بجروح بليغة أدّت إلى بتر ساقيه وفقدانه أحد أصابع يده اليسرى، وهو الحادث الذي يصفه بأنه “يوم النجاة” ويحتفي بذكراه سنويًا.
بعد إصابته، أنهى ماست خدمته الفعلية عام 2012، لكنّه لم يبتعد عن العمل الأمني، إذ عمل مدرّبًا في “مكتب الكحول والتبغ والأسلحة النارية والمتفجرات”، ثم محللًا في “الإدارة الوطنية للأمن النووي”، ولاحقًا أخصائيًا في “وزارة الأمن الداخلي”، مما يعكس تمسّكه باستمرار ارتباطه بمجالات الدفاع والأمن الوطني حتى بعد انتهاء حياته العسكرية كجندي مقاتل.
يحمل ماست عددًا من الأوسمة العسكرية الرفيعة، أبرزها “وسام النجمة البرونزية”، و”وسام القلب الأرجواني”، و”وسام الخدمة الجديرة بالتقدير الدفاعي”، و”وسام تقدير الجيش” المزيّن بشارة “V” للشجاعة، وهي تكريمات تؤكد “مكانته في صفوف العسكريين الذين جسّدوا عقيدة التضحية والانضباط”، حسب ما جاء في صفحته الشخصية بموقع مجلس النواب الأميركي.
وصوله إلى مجلس النواب الأميركي
دخل براين ماست مجلس النواب الأميركي عام 2017 بعد فوزه في الانتخابات عن ولاية فلوريدا، ممثلًا الدائرة التي باتت تُعرف لاحقًا بالدائرة الحادية والعشرين بعد إعادة التقسيم الانتخابي. ومنذ ذلك الحين، شق طريقه داخل “الحزب الجمهوري” بسرعة لافتة، مستفيدًا من خلفيته العسكرية وخطابه الصارم في قضايا الأمن القومي والسياسة الخارجية.
يشغل اليوم منصب رئيس “لجنة الشؤون الخارجية” في مجلس النواب، وهو موقع يجعله من أبرز الوجوه الجمهورية المؤثرة في رسم المواقف الأميركية تجاه الشرق الأوسط، ولا سيما في ما يتصل بسوريا وفلسطين وإيران.
منذ ولايته الأولى، عُرف ماست بدعمه لزيادة الإنفاق العسكري ورفض أي تقليص في ميزانية الدفاع. إذ يتبنى رؤية تقوم على أن “القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها خصوم الولايات المتحدة”، وهي عبارة يكررها في خطاباته وبياناته البرلمانية.

كما يُعد من أبرز الأصوات التي دفعت باتجاه تعزيز التحالف الأميركي الإسرائيلي في الكونغرس، بعد أن شارك في طرح مشاريع قرارات تُدين حركة “حماس” وتدعو إلى تصنيفها منظمة إرهابية على نحو دائم وغير قابل للمراجعة.
في المجال التشريعي، يركّز ماست على ملفات الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب، ويدعو بشكل مستمر إلى سياسات أكثر صرامة في مراقبة الهجرة، معتبرًا أن “تساهل الحدود يفتح الباب أمام امتداد الإرهاب من الشرق الأوسط إلى الداخل الأميركي”. وقد اتخذ مواقف مشابهة في النقاشات حول العقوبات الاقتصادية، حيث يرى فيها أداة فعّالة لتقويض الأنظمة المعادية للولايات المتحدة بدلًا من الانخراط في حروب مباشرة.
يعتمد ماست في حضوره داخل الكونغرس على مزيج من الرمزية العسكرية والخطاب الأخلاقي، فهو يقدم نفسه “كجندي لم يتقاعد بعد”، ويحرص على الظهور في المناسبات الرسمية بزيه العسكري السابق أو باستخدام أطرافه الاصطناعية كرمز لما يسميه “التضحية من أجل الوطن”. هذا الظهور المتكرر يعزز صورته بين التيار المحافظ في الحزب الجمهوري، لكنه في الوقت نفسه يجعله مثار انتقاد بين الأصوات الليبرالية التي تعتبره نموذجًا لـ”تسييس البطولة العسكرية” لخدمة أجندات خارجية.
مواقفه تجاه سوريا
يمثّل نهج براين ماست في الملف السوري مزيجًا من المواقف التشريعية الصارمة والخطاب السياسي الأيديولوجي المتشدد، وهو ما يظهر بوضوح في مواقفه من العقوبات، والتدخّلات الإقليمية، ودور روسيا وإيران في سوريا، ففي فترة حكم الأسد وتحديدًا 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، قدّم ماست مشروع قرار يُدين نظام بشار الأسد و”داعميه” من روسيا وإيران، تحت مسمى (H. Res. 1165).
جاء فيه أن “الولايات المتحدة يجب أن تدفع نحو إنهاء العنف والمعاناة في سوريا ومحاسبة مرتكبي الجرائم”. ويطالب القرار بأن تتوقف الولايات المتحدة عن تقديم مساعدات إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام حتى يُثبت تقدّماً في احترام حقوق الإنسان.

بعد سقوط الأسد وتولي أحمد الشرع فترة الحكم الانتقالي، عبّر ماست بوضوح عن معارضته لرفع أو تخفيف العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، بما فيها تلك المرتبطة بـ”قانون قيصر”. إذ أُشير في تقاريرٍ مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2025 إلى أن ماست يُعدّ أبرز العقبات أمام إلغاء العقوبات بشكل شامل، بعد أن قال لمجلة “سيمافور”: “إن مخاوفي بشأن إلغاء قيصر يجب أن تكون واضحة للجميع”.
وفي بيان صحفي صادر عن لجنة الشؤون الخارجية التي يرأسها، بعد لقائه بالرئيس السوري أحمد الشرع، قال ماست: “أنا ورئيس سوريا جنديّان سابِقان، وكنا في صراع طويل. وقد سألتُه عن هذا مباشرة: لماذا لم نعد أعداء؟” مما يؤكد أن مواقفه التشريعية تتأثر بتاريخه الشخصي العسكري.
عدا عن ذلك، سعى ماست خلال السنوات القليلة الماضية في خطاباته داخل مجلس النواب الأميركي لتقديم رؤية مفادها أن سوريا مختبر لصراع أوسع بين النفوذ الإيراني والروسي من جهة، والمصالح الأميركية وحلفائها من جهة أخرى.
ففي مداخلة له بمجلس النواب عام 2018، وصف دور إيران في سوريا بأنه تمدد لنفوذ طهران في قلب الشرق الأوسط، والسماح باستمراره يُعدّ خطأ استراتيجيًا باعتباره “إخلاء لأميركا من الساحة السورية”، حسب وصفه. وهو خطاب ينسجم مع التيار الأكثر تشددًا داخل الحزب الجمهوري.
مواقفه من حرب غزة
اعتمد براين ماست خطابًا مؤيدًا لـ”إسرائيل” بلا مواربة منذ الأيام الأولى للحرب على غزة، حيث ظهر مرتديًا زيّ جيش الاحتلال الإسرائيلي في مجمّع الكابيتول يوم 13 أكتوبر 2023، مبرّرًا ذلك بإظهار الدعم لـ”إسرائيل” في مواجهة “حماس”؛ في موقف أثار جدلًا واسعًا في واشنطن والإعلام الأميركي.
على المستوى الخطابي داخل الكونغرس، صرّح ماست في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2023 ضمن بيانٍ مثيرٍ للجدل بأنّه “لا يمكن التمييز بين المدنيين الفلسطينيين وأعضاء حركة حماس، تمامًا كما لا يمكن التمييز بين النازيين ومن تواطأ معهم”، وهو ما فُسّر على أنه تبريرٌ لاستهداف المدنيين في غزة.
تشريعيًا، دعم ماست حزم التمويل الطارئة لـ”إسرائيل”، بما في ذلك «مشروع قانون التمويل التكميلي لأمن إسرائيل لعام 2024» الذي أُقِرّ في مجلس النواب يوم 20 نيسان/ أبريل 2024 ضمن الحزمة الخارجية الأوسع، وسبقته محاولات تمرير صيغٍ منفصلة في شباط/فبراير 2024. فيما تنسجم مواقف ماست بمجملها مع الدفع باتجاه تمرير التمويل العسكري وتعزيز الردع، ومعارضة أي ربط لهذه المساعدات بشروط وقف إطلاق النار.
أما سياسيًا، يعارض ماست باستمرار دعوات «وقف إطلاق النار» في غزة، ويساند مسارات تشريعية تُدين “حماس” وتُضيّق على تمويلها، مستشهدًا بمشروعه ثنائيّ الحزب لـ«منع تمويل حماس دوليًا»، وببيانات مكتبه التي تصف أي دعم للحركة بأنه «تواطؤ».
وكان آخر ما نُقل عنه، توجيهه طاقم الجمهوريين في لجنة الشؤون الخارجية لاستخدام تسمية «يهودا والسامرة» بدل «الضفة الغربية» في المراسلات الداخلية، وهو ما يعكس انحيازًا صريحًا للسردية الاستيطانية عبر أدوات اللغة.
في ضوء ما تقدّم، يبدو أن الاحتفاء ببراين ماست أو تقديمه في المشهد العربي كصوتٍ براغماتي يمكن التعويل عليه، هو خطأٌ أخلاقي فادح قبل أن يكون سياسيًا، فهذا الرجل لا يمثل سوى استمرارٍ للعقيدة العسكرية الأميركية في أكثر صورها تطرّفًا، حيث تُختزل السياسة في فوهة بندقية، وحيث يُعاد إنتاج الخطاب السلطوي الأميركي بزيّ إنساني زائف.
وتاريخه الشخصي، الذي يُقدَّم كقصة شجاعة وتضحية، هو في جوهره سجلّ طويل من العنف الممنهج ضد شعوبٍ لم تعرف من السياسات الأميركية سوى القصف والعقوبات والحصار، لذا فإن إعادة تدوير هذه الشخصية في الأوساط العربية أو التعامل معها كفرصة جديدة للتفاهم ليس سوى غفرانٍ مجانيٍّ لتاريخٍ غارقٍ في الدماء.
