أقرّ الكنيست الإسرائيلي، 10 نوفمبر/تشرين الثاني، بالقراءة الأولى مشروع قانون يتيح تنفيذ حكم الإعدام بحق الأسرى الفلسطينيين، في خطوة وصفت بأنها تصعيد غير مسبوق في توجهات اليمين المتطرف داخل “إسرائيل”.
وقد حاز المشروع على تأييد 39 عضوًا من أصل 120، مقابل 16 صوتًا معارضًا، وسط أجواء متوترة داخل قاعة البرلمان، بلغت ذروتها بمشادة كلامية حادة بين النائب العربي أيمن عودة ووزير الأمن القومي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير، كادت أن تتطور إلى اشتباك بالأيدي.
ويأتي هذا التصويت بعد مصادقة لجنة الأمن القومي في الكنيست على مشروع القانون الأسبوع الماضي، وهو المقترح الذي قدم حزب “عوستما يهوديت” (القوة اليهودية) بزعامة بن غفير، المعروف بتوجهاته العنصرية ودعواته المتكررة لتشديد العقوبات ضد الفلسطينيين، فيما أكد منسق شؤون الأسرى والمفقودين في “إسرائيل”، أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يدعم القانون، في تحول لافت عن موقفه السابق، ما يعكس – وفق محللين – محاولته استرضاء التيار اليميني المتشدد داخل ائتلافه الحاكم في ظل أزماته السياسية الداخلية.
ورغم الجدل الحاد الذي أثاره القانون، فإنه ليس المقترح الأول من نوعه؛ إذ طُرح مشروع مشابه منذ عام 2015 ثم أُعيد عام 2018، غير أنه لم يلقَ تجاوبًا جديًا في الكنيست آنذاك، أما اليوم، فإن عودته إلى الواجهة على يد حزب “القوة اليهودية” تعبّر عن تصاعد النفوذ السياسي لليمين الديني المتطرف، وعن سعيه لاستخدام ورقة العقاب الجماعي للأسرى كأداة ضغط مزدوجة على كل من السلطة الفلسطينية والمعارضة الداخلية.
وفي ظل الانقسام الإسرائيلي وتزايد الانتقادات الدولية، يبقى التساؤل مفتوحًا حول ما إذا كان القانون سيمضي فعلًا نحو الإقرار النهائي عبر القراءتين المتبقيتين، أم أنه مجرد أداة سياسية للمزايدة وابتزاز شركاء الحكم في واحدة من أكثر المراحل حساسية في تاريخ الدولة العبرية.
ما تفاصيل المشروع؟
يُعدّ هذا المشروع الذي قدمته النائبة عن حزب (القوة اليهودية) ليمور سون هار ميلاخ، من أكثر القوانين عنصريةً التي طُرحت في “إسرائيل” خلال العقود الأخيرة، إذ ينص على فرض عقوبة الإعدام الإلزامية على أي شخص يُدان بارتكاب “جريمة قتل بدافع قومي أو أيديولوجي أو عنصري” بحق مواطن إسرائيلي، أو في ظروف تشير إلى أن الفعل هدفه الإضرار بدولة “إسرائيل”.
ما يثير القلق في صياغة المشروع هو طبيعته الفضفاضة والتقديرية، إذ يترك مساحة واسعة لتفسير الجرائم، مما يجعل أي أسير فلسطيني هدفًا محتملاً للتصفية القانونية تحت ذرائع هشّة، بعيدًا عن الضوابط القضائية التقليدية، كما أن القانون ينص على نهائية الحكم دون إمكانية الاستئناف، ويمنع أي تخفيف للعقوبة من الإعدام إلى غيره، وهو ما يحرم المتهم من أي حماية قضائية فعلية.
حتى دور القاضي، المفترض أن يكون صاحب الكلمة الفصل في العدالة، محدود للغاية بموجب المشروع، إذ لا يُسمح له بالتدخل سواء للإلغاء أو التخفيف، ما يحوّله إلى أداة لتكريس هذا القانون العنصري بدلًا من أن يكون حاميًا للعدالة. ويجعل هذا الإطار القانوني من القانون حالة استثنائية تهدد حقوق الأسرى الفلسطينيين وتفقد النظام القضائي أي نزاهة أو استقلالية في تطبيقه.
من هنا وفي حال إقرار القانون نهائياً، سيتغيّر تقريباً النظام القانوني الإسرائيلي تجاه الأسرى الفلسطينيين بشكل جذري، من محاكمة ولو كانت شكلية إلى إعدام ممارَس قانونياً دون أي إمكانية في المعارضة على الحكم أو الاستئناف عليه بالتخفيف.
لماذا الآن؟
ليس جديدًا أن يُطرح هذا المشروع على طاولة الكنيست الإسرائيلي، فهو يتأرجح بين الطرح والتجميد والاستبعاد منذ ما يقارب العقد من الزمن، دون أن يجد طريقه للتنفيذ الفعلي، هذا التاريخ الطويل يطرح تساؤلات جدية حول دوافع إعادة إحيائه الآن، خصوصًا في ظل المناخ السياسي المتقلب داخل “إسرائيل”، حيث كان القانون يظل محاطًا بحذر شديد خشية تداعياته المحتملة على الصعيد الأمني والعسكري.
تكمن الإجابة عن هذا التوقيت في الأريحية التي أتاحها المشهد الإسرائيلي الراهن بعد الإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية، فخلال العامين الماضيين، كان من الصعب على أي طرف داخل الحكومة أو البرلمان طرح مشروع من هذا النوع، إذ كان أي تحرك قد يُفسر على أنه استفزاز قد يدفع المقاومة للرد بتهديد حياة الأسرى، ما يضع أي مشروع قانون في نطاق المخاطر الأمنية المباشرة.
وبعد الاطمئنان إلى تحرير الأسرى بالكامل، استغل اليمين المتطرف الفرصة لدفع المشروع إلى لجنة الأمن القومي في الكنيست، بهدف مناقشته بسرعة وتهيئة الأرضية لتمريره في أسرع وقت ممكن، فيما تكشف هذه الديناميكية عن ارتباط القانون بالموازين السياسية الداخلية، إذ يُوظف كأداة للضغط الرمزي على الحكومة، وفي الوقت نفسه رسالة تحذير إلى الفلسطينيين، كما سيتم تفصيله لاحقًا، ما يجعل مساره نحو التنفيذ مرتبطًا ليس فقط بالقراءة التشريعية، بل بالتحولات السياسية والأمنية التي تحكم العلاقة بين “إسرائيل” والمقاومة.
ماذا عن الموقف الإسرائيلي الرسمي والشعبي؟
من جانبها رحّبت حكومة نتنياهو بمصادقة لجنة الأمن القومي على مشروع القانون، مؤكدة دعمه الكامل من قبل رئيس الوزراء. وخلال الجلسة، منسق شؤون الأسرى والمفقودين في مكتب رئيس الحكومة، بأن نتنياهو يؤيد القانون الجديد، موضحًا أنه كان قد عارض مناقشته سابقًا خشية أن يعرض حياة الأسرى الإسرائيليين لدى حركة حماس للخطر أثناء مفاوضات التبادل.
وأضاف هيرش أن “الظروف تغيرت”، وأن “إسرائيل” ضيقت الخناق العسكري والسياسي على حماس، مشيرًا إلى أن نتنياهو يؤيد منح منسق شؤون الأسرى صلاحية تقديم تقرير سري للمحكمة لطلب تعديل الأحكام في بعض الحالات، إلا أن إيتمار بن غفير، زعيم حزب “القوة اليهودية”، رفض أي تدخل قضائي، مؤكدًا أن “كل من يقتل الأطفال والنساء والمسنين يجب أن يواجه عقوبة واحدة فقط هي الإعدام”، مشددًا على أن حزبه لن يقبل بأي استثناءات في تطبيق القانون.
المصادقة على القراءة التمهيدية، أعاد بن غفير التأكيد على موقفه عبر تغريدة على منصة “إكس”، مؤكدًا أن المحكمة لا ينبغي أن تمتلك أي صلاحية تقديرية، وأن كل من يقدم على القتل سيُحكم عليه بالإعدام فقط، مشيرًا إلى شكره لنتنياهو على دعمه المشروع.
في المقابل، انتقدت صحيفة “هآرتس” مشروع القانون بشدة، واصفة إياه بأنه “عنصري ومخز”، وحذرت من أن إقراره سيشكل “وصمة عار لا تمحى” في تاريخ إسرائيل، مؤكدة أن عقوبة الإعدام تتعارض مع قيم الديمقراطيات الحديثة، إذ ألغتها معظم الدول الغربية لعدم فعاليتها في الردع، ولما تنطوي عليه من مخاطر أخطاء قضائية لا يمكن تصحيحها.
ولفتت الصحيفة العبرية إلى أن المشروع يتجاوز كل الحدود القانونية لأنه يفرض الإعدام كعقوبة إلزامية بلا أي صلاحية تقديرية للقضاة، وهو أمر “غير مسبوق حتى في الولايات المتحدة أو في محاكم محاكمة النازيين في إسرائيل”، محذرة من أن القانون يحمل طابعًا تمييزيًا، إذ يطبّق فقط على من يتهم بقتل “بدافع قومي أو بهدف المساس بدولة إسرائيل وبعث الشعب اليهودي”، ما يعني أنه موجّه ضد العرب وحدهم، بينما لا يشمل الإرهابيين اليهود.
وأشارت إلى أن سنّ مثل هذا القانون سيُلحق ضررًا بالغًا بصورة “إسرائيل” على الصعيد الدولي، ويؤكد أن الدولة تسير في مسار تشريعي عنصري يخالف القانون الدولي الإنساني، خصوصًا إذا طُبّق في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ماذا عن رد الفعل الفلسطيني؟
أثار تصديق الكنيست الإسرائيلي بالقراءة الأولى على مشروع القانون موجة من الانتقادات الحادة من فصائل المقاومة ومنظمات الأسرى وحقوق الإنسان، الذين وصفوه بـ”التصعيد الخطير” و”انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني”.
بدوره أكد نادي الأسير الفلسطيني أن القانون يمثل محاولة لشرعنة ما تمارسه “إسرائيل” منذ سنوات عبر الإعدامات الميدانية والإهمال الطبي المتعمد بحق مئات الأسرى، محذرًا من أن إقراره سيحوّل السجون إلى “ميادين قتل ممنهج” ضمن سياسة إبادة جماعية مستمرة منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 2023، التي أسفرت عن استشهاد 81 أسيرًا من غزة، بينهم معتقلون أُعدموا أو أُخفوا قسريًا.
ورأى رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين، رائد أبو الحمص، أن القانون يشكل تهديدًا مباشرًا لحياة الأسرى، ويمنح الاحتلال غطاءً قانونيًا لتنفيذ الإعدامات بمزاجية وانتقامية، في سياق تصاعد التطرف والعنصرية داخل المنظومة الإسرائيلية، داعيًا المجتمع الدولي والمؤسسات الحقوقية للتحرك الفوري لوقف هذا المشروع، محذّرًا من أن إقراره سيحوّل الإعدامات إلى سياسة رسمية، مستعرضًا ما تعرّض له الأسرى من تعذيب ونقل قسري وعمليات إخفاء للمصير و”سرقة أعضاء جثامين الشهداء” في غزة.
على صعيد فصائل المقاومة، اعتبرت حركة حماس القانون امتدادًا لنهج الحكومة الإسرائيلية العنصري والإجرامي، ومحاولة لتشريع “القتل الجماعي المنظّم” ضد الفلسطينيين، داعية المجتمع الدولي والأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية إلى إدانته وفرض عقوبات رادعة على إسرائيل، وتشكيل لجان تحقيق دولية للاطلاع على أوضاع الأسرى.
ووصفت حركة الجهاد الإسلامي القانون بأنه تصعيد إجرامي يثبت أن كل أجهزة الاحتلال أدوات للتنكيل بالشعب الفلسطيني، داعية إلى محاسبة المسؤولين عنه أمام المحاكم الدولية، واعتباره خطوة لفرض نظام قانوني مزدوج يحمّل الفلسطينيين ويعفي المستوطنين والمحتلين من المسؤولية.
كما شددت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على أن القانون يُعد جريمة حرب مكتملة الأركان، وخطوة فاشية لتشريع القتل بحق الأسرى الفلسطينيين، موجهة نداءً عاجلا للمجتمع الدولي والمؤسسات الحقوقية للتحرك لوقف هذا المشروع، ومحاسبة المسؤولين عنه، وإجبار “إسرائيل” على الالتزام بالقانون الدولي الإنساني وحقوق الأسرى.
ماذا يريد اليمين المتطرف؟
تذهب التحليلات إلى أن اليمين المتطرف الإسرائيلي يتعامل مع مشروع قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين كـ ورقة تفاوض وابتزاز سياسي، لا كتشريع يهدف بالضرورة إلى تنفيذ الإعدام فعليًا، إذ يروّج كل من إيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش، للمشروع في الأساس كأداة ضغط على رئيس الوزراء نتنياهو داخل الائتلاف الحاكم، بهدف تعزيز نفوذهم السياسي وإظهار أنفسهم “المدافعين عن دماء الإسرائيليين”.
ويستخدم بن غفير تهديد الانسحاب من الحكومة بشكل دوري لزيادة الضغط، حيث هدد خلال اجتماع كتلة حزبه يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول الماضي بأنه إذا لم يُطرح القانون خلال ثلاثة أسابيع، فإن حزبه سيتوقف عن دعم مشاريع قوانين الائتلاف حتى يتم إدراج مشروع القانون على جدول أعمال الكنيست.
وينص الاتفاق الائتلافي بين حزب “القوة اليهودية” وحزب الليكود صراحة- بحسب بن غفير- على سن قانون الإعدام خلال هذه الولاية، ما يعطي لوزير الأمن القومي المتطرف هامشًا للمزايدة والضغط على نتنياهو، متهمًا الأخير بالتلكؤ في تمرير المشروع قبل الحرب الأخيرة على غزة.
وتأتي هذه التحركات التشريعية بينما يواصل بن غفير حملاته ضد الأسرى الفلسطينيين، من خلال اقتحام السجون والتضييق على المعتقلين وتهديدهم بتنفيذ عقوبة الإعدام، ما يعكس تزاوجًا بين السياسة الداخلية والسياسة الأمنية في إطار سعيه لتثبيت موقفه.
من هذا المنظور، يمكن القول إن الهدف الأبرز من هذا التحرك هو رفع رصيد بن غفير السياسي داخل معسكر اليمين المتطرف، وتعزيز حضوره وصداه السياسي في الوقت الحالي والمستقبل، من خلال استغلال ملف الأسرى الفلسطينيين كأداة للمناورة والابتزاز داخل الحكومة والائتلاف الحاكم، وليس بالضرورة لتنفيذه عمليًا على أرض الواقع.
من التأجيل للدعم.. ماذا عن مقاربة نتنياهو؟
من الواضح أن نتنياهو ظل مترددًا بشأن تمرير مشروع قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين منذ عام 2018 وحتى اليوم، خشية الانعكاسات الدولية المحتملة، إذ من المرجح أن يؤدي تنفيذه إلى أزمة دبلوماسية حادة واتهامات إسرائيلية بارتكاب جرائم حرب أمام المحكمة الجنائية الدولية، ويشير هذا التردد إلى إدراكه لحساسية المشروع على الصعيد الدولي، مقابل الضغوط الداخلية المتزايدة من اليمين المتطرف.
وتُرجّح التحليلات أن موافقة نتنياهو على تمرير القراءة الأولى حاليًا تأتي في سياق امتصاص الضغوط الداخلية من حلفائه بعد إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، مع احتمالية أن يُجمّد المشروع لاحقًا في اللجان البرلمانية أو يؤجّل قبل القراءة الثانية والثالثة، كما جرى سابقًا.
بهذا المعنى، يصبح القانون أداة سياسية رمزية أكثر من كونه مشروعًا تنفيذيًا، إذ يخضع بشكل كامل لحسابات التوازنات السياسية داخل الائتلاف الحاكم، وفي الوقت ذاته، يُظهر هذا التحرك أن المشروع يستخدمه نتنياهو واليمين المتطرف كوسيلة ضغط على الجانب الفلسطيني، في محاولة لإجباره على تقديم مزيد من التنازلات مستقبلًا على طاولة المفاوضات، سواء فيما يتعلق بالملف الأمني أو الترتيبات الداخلية في الساحة الفلسطينية.
وبذلك، يندرج القانون ضمن استراتيجية إسرائيلية أوسع تهدف إلى استثمار الهيمنة العسكرية والسياسية الإسرائيلية في المشهد الراهن، وتعزيز المكاسب الإقليمية والسياسية عبر استثمار النفوذ في الداخل الفلسطيني، مع التأكيد على أن دوره الأساسي حتى الآن رمزي، يوازن بين الضغوط الداخلية والمخاطر الدولية، دون نية تنفيذ فعلية واضحة على الأرض.
هل من الممكن دخول القانون حيز التنفيذ؟
تعلم تل أبيب جيدًا أن تطبيق قانون من هذا النوع سيكلف الدولة ثمنًا سياسيًا وأمنيًا باهظًا، فالمصادقة الرسمية على تشريع يجيز الإعدام لِجهة بعينها ستُعدّ خرقًا واضحًا لالتزامات “إسرائيل” بموجب اتفاقيات جنيف، ويفتح الباب تلقائيًا أمام مساءلة دولية قد تصل إلى تحقيقات من قِبل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.
دبلوماسيًا، سيواجه الكيان ارتدادات فورية مع شركائه الغربيين، لا سيما الولايات المتحدة والدول الأوروبية، التي تعارض عقوبة الإعدام من منطلقات قانونية وإنسانية وسياسية؛ ما قد يؤدي إلى تآكل الدعم الدولي أو إعادة ضبط العلاقات على نحو يضر بالمصالح الإسرائيلية في المحافل الدولية، كما سيصبح هذا القانون مادةً قابلة للاستثمار إعلاميًا وسياسيًا من قبل الفلسطينيين والدول العربية لبلورة خطاب يرسخ عنصرية الاحتلال وإجرامه الوحشي.
على الصعيد الداخلي، ليس مؤكداً أن الاختطاف التشريعي لمشروع كهذا يحظى بقبول شعبي شامل داخل إسرائيل؛ فقد يثير القانون رفضًا واسعًا من قطاعات من المواطنين القلقين من عواقب العزلة الدولية والوصمة الأخلاقية، ما يعني أن ثمن المسار التشريعي لن يقتصر على المدى الخارجي فحسب بل سيمتد ليرتد على مناصريه داخليًا.
أما أمنيًا، فإقرار مثل هذا القانون وإعلانه عمليًا قد يعمل كحافز لردود فعل ميدانية انتقامية من فصائل المقاومة أو الأفراد، قد ترتقي إلى عمليات نوعية تستهدف إسرائيليين، ما يضع منظومة الأمن الإسرائيلية أمام اختبار عسير ويزيد من تكلفة الحفاظ على الأمن والاستقرار داخل وخارج حدودها.
أخيرًا.. ما السيناريوهات؟
من المهم الإشارة إلى أن تمرير مشروع قانون الإعدام في “إسرائيل” لا يعني بالضرورة دخوله حيّز التنفيذ، إذ من المرجح أن يصطدم بالمحكمة العليا التي تصدر نفسها كحارس للدستور، والتي لم تنفذ أي حكم بالإعدام منذ إعدام أدولف آيخمان (الضابط الألماني المتهم بالهولوكست) عام 1962، لا تملك أساسًا تشريعًا دائمًا يجيز العقوبة إلا في حالات استثنائية تتعلق بجرائم نازية أو الخيانة العظمى.
وبذلك، فإن أي محاولة لتوسيع نطاق العقوبة ستفتح الباب أمام معارك قضائية معقدة وطعون دستورية متوقعة من منظمات حقوقية ومحامين داخل “إسرائيل” وخارجها.
في ضوء هذه المعطيات، يميل كثير من المراقبين إلى أن السيناريو الأبرز يتمثل في استخدام الحكومة تمرير القانون في القراءة الأولى كأداة سياسية رمزية أكثر من كونه مسارًا تشريعيًا حقيقيًا، وذلك بهدف امتصاص ضغوط اليمين المتطرف وإرضاء قواعده الغاضبة، دون أن تتحمل الدولة كلفة التطبيق العملي أو العزلة الدولية المتوقعة، هذا السيناريو “الشكلي” يمنح الحكومة مكسبًا سياسيًا داخليًا محدودًا، ويُبقيها في مأمن من العواقب القانونية والدبلوماسية الثقيلة.
أما السيناريو الآخر، وإن كان ضعيف الاحتمال، فيكمن في مضي الحكومة قُدمًا نحو الإقرار الكامل للقانون وإدخاله حيّز التنفيذ، وهو خيار قد يُترجم تصعيدًا غير مسبوق في سياسات الكيان، ومع أن هذا الاحتمال يبدو مستبعدًا ضمن حسابات المصالح الدولية لتل أبيب، إلا أن طبيعة التوازنات الحالية داخل الائتلاف الحاكم – الذي تهيمن عليه أحزاب اليمين المتطرف – تجعل كل الاحتمالات واردة في هذا الظرف السياسي الاستثنائي، خصوصًا مع تصاعد النزعة الانتقامية في السلوك الإسرائيلي منذ حرب غزة.
في الأخير فإن مجرد طرح مشروع قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين للنقاش في الكنيست الإسرائيلي يعد تحوّلًا نوعيًا في المسار السياسي والقانوني داخل “إسرائيل”، إذ يكشف عن انتقال النزعة العنصرية من مستوى الخطاب والتحريض إلى مستوى التشريع الرسمي.
فالمسألة هنا لا تتعلق بإقرار قانون فحسب، بل بتكريس رؤية أيديولوجية تعتبر الفلسطينيين هدفًا مشروعًا للعقاب الجماعي، في قطيعة تامة مع المعايير القانونية والإنسانية المتعارف عليها دوليًا والتي يتشدق حلفاء تل أبيب بالتزامها بها.
من هذا المنطلق فإن وصول مثل هذا المشروع إلى قاعة البرلمان هو بحد ذاته مؤشّر على عمق التحولات التي أصابت البنية السياسية الإسرائيلية، حيث لم يعد التطرف استثناءً على الهامش، بل بات جوهر العملية التشريعية ومعبّرًا عن المزاج العام للائتلاف الحاكم.
وبهذا المعنى، يمكن اعتبار النقاش حول مشروع القانون محطة مفصلية في تاريخ التصعيد الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وإعلانًا فعليًا لهيمنة اليمين المتطرف على مفاصل القرار في تل أبيب، بصرف النظر عن احتمالات تنفيذ القانون من عدمها.
فالمغزى الحقيقي لا يكمن في التطبيق العملي للعقوبة، بل في رمزية الطرح ذاته الذي يحوّل فكرة “الإبادة العرقية عبر القانون” إلى بندٍ تشريعي مشروع، ليتجاوز الكيان المجرم في هذه المرحلة حدود العنصرية المبطنة إلى عنصرية مصاغة بلغة القانون، ما يعني أن الصراع لم يعد فقط على الأرض أو في الميدان، بل بات أيضًا في البنية القانونية والسياسية التي تسعى إلى شرعنة القتل وتحويله إلى سياسة دولة قائمة في جذورها على العنصرية والإجرام الممنهج.
