أكثر من شهر مرّ على وقف إطلاق النار، وما تزال كثير من العائلات النازحة في محافظتي الوسطى وخان يونس غير قادرة على العودة لمناطق سكنها الأصلية في مدينة غزة والشمال، عدد كبير ممن فقدوا بيوتهم، أو من لا يمكنهم العودة لها لوقوعها خلف “الخط الأصفر”، وحتى بعض المحظوظين بسلامة بيوتهم، لا يفكرون بالبقاء في أماكن نزوحهم، لكنهم لا يملكون سبيلًا للعودة، لأسباب كثيرة.
يتشارك في معيقات العودة من دمر الاحتلال منازلهم، ومن يعيق وصولهم لأماكن سكنهم، فهؤلاء لا يجدون مكانًا يعودون إليه، فأغلب الغزيين فقدوا بيوتهم وبيوت معارفهم وأقاربهم الذين يُحتَمل أن يستضيفوهم، وحتى إن فكروا في نصب خيمة، فالعثور على مكان مناسب ليس بالسهولة المُتوقَعة بعدما غطى الدمار مساحات شاسعة.
لا فرصة للسكن في 53% من مساحة قطاع غزة وهي المساحة التي ابتلعها الخط الأصفر وفق اتفاق وقف إطلاق النار، وفي المساحة الباقية، غلب الدمار العمران، وبالتالي فالبيوت المعروضة للإيجار قليلة جداً، وتكلفتها مرتفعة.
ونتيجة لهذا الواقع، يجد كثير من أصحاب البيوت السليمة صعوبة في العودة، فليس غريبًا أن تجد بيتًا واحدًا قائمًا في شارع ليس فيه سوى الأنقاض، ولا تجرؤ أسرة على السكن بمفردها وسط دمار يحيطها من كل جانب، لما في ذلك من مخاطر، يتعلق بعضها بالاحتلال وأعوانه، وميليشيات ياسر أبو شباب في بعض المناطق، وكذلك خطر السرقة، بالإضافة إلى مشكلة العزلة، فمناطق كهذه ينقطع سكانها عن الحياة خارجها، لا تتوفر وسائل مواصلات، ولا محال تجارية، ولا خدمات مثل المياه ومولدات الكهرباء التجارية والإنترنت، والأهم لا مستشفيات ولا نقاط طبية، فلو ألمّ بأحدهم عارض صحي قد تتدهور حالته قبل الحصول على مساعدة طبية.
بقاء الناس في مناطق نزوحهم لا يعني رغبتهم بذلك، بل يمكن الجزم بلهتهم جميعًا للعودة، ودليل ذلك أنهم يقبلون السكن في أي مكان في النصف الشمالي من القطاع، بيت متهالك، أو غرفة في بيت مدمر، أو خيمة، أو مدرسة، أو أنقاض مؤسسة حكومية، المهم أن يعودوا.
هذه المعاناة لا تنحصر في مناطق معينة، وإنما في أغلب مساحة محافظتي غزة والشمال، فالاحتلال دمر نحو 300 ألف وحدة سكنية كلياً و200 ألف أخرى بشكل بليغ أو جزئي.
خيمةٌ بالدنيا وما فيها
يوم إعلان التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، كان أكبر أسباب سعادة نهيل عبد الله أنها ستعود لمنزلها، وبدأت بحزم الحقائب لتكون من أول العائدين.
مع بدء تنفيذ الاتفاق، انسحبت قوات الاحتلال من مكان سكنها، فطلبت من أحد الأقرباء الباقين في غزة تفقده، وكانت المفاجأة في ردّه: “منطقتكم منطقة أشباح”، وفهمت ما يقصده حين شاهدت مقطع فيديو أرسله لها، دمارٌ على مد البصر، البنايات القائمة فيه تُعدّ على الأصابع.
تقول: “البناية التي أسكن فيها قائمة، لكن أغلب شققها متضررة بدرجة كبيرة، والطابقين العلويين مدمرين تمامًا، أي أن أغلب الجيران لا مكان لهم إن أرادوا العودة”.
وتضيف: “المشكلة الأكبر ليست في البناية، بل في المنطقة كلها، فلا مكان يسكنه الناس، ولا خدمات تصلها، أقرب بئر مياه يبعد عنا كيلومتر تقريبًا، ومياه الشرب معدومة، ولشراء دواء أو طعام ينبغي المشي مدة 45 دقيقة على الأقل، أما إن لزم التوجه للمستشفى لحالة طارئة فهذه كارثة، المسافة بيننا تستغرق أكثر من ساعة نصف مشيًا، ولا مواصلات إطلاقًا”.
وتتابع: “هذه الصعوبات جعلت السكن في بيتنا مستحيلًا، ومع ذلك صممت على العودة لغزة، فبحثتُ كثيرًا عن مكان للإيجار بتكلفة مقبولة، ولم أجد مطلقًا، لذا قررت أن أنقل خيمتي لمكان فيه خدمات مناسبة، وهو ما لم يكن سهلًا، فالخدمات معدومة في أغلب الأماكن، لكنني عثرت على مكان في نهاية المطاف وأستعد للانتقال الآن، فخيمةٌ في غزة تساوي الدنيا وما فيها”.
لا تصدق نهيل أن كل هذا الوقت مرّ بعد الاتفاق ولم ترجع بعد لغزة، ولا تتقبل فكرة البقاء في خيمة رغم امتلاكها بيتًا، وهذه “أكبر حسرة” على حد وصفها.
“بيتي أمامي ولكنني ممنوع من الوصول إليه”
ذات الحسرة تتملك رائد المصري حين يرى بيته من بعيد ولا يصله، فالبيت الذي بناه بشقّ الأنفس والكثير من العمل والتعب يقع خلف “الخط الأصفر”، متضرر لكنه قائم، والسكن فيه ممكن حتى وإن كان بحاجة لكثير من الترميم والنفقات.
يوضح: “لم أجد مكانًا أعود إليه بعد الهدنة، ولا طاقة لي بدفع إيجار شهري، لكن حبّي لمدينتي دفعني للبحث عن أي مكان يصلح للسكن، ولو كان غرفة أو حتى خيمة، فإلى متى سأبقى في مدينة غيرها؟”.
ويبين أن كل الأماكن التي وجدها في محافظة الشمال على مدار أسبوعين من البحث كانت غير مناسبة، لنقص الخدمات فيها، وبُعدها عن أماكن النشاط التجاري والمستشفيات، بالإضافة إلى ارتفاع قيمة الإيجار.
وحين رأى أخوه إصراره على العودة، عرض عليه السكن معه بيته المتهالك، فلم يتردد في القبول، رغم معرفته بخطورة المكان، فأنقاض الطوابق الأربعة متراكمة فوق النصف السقف الباقي من الطابق الأرضي، ولا تتوقف الحجارة عن التساقط من الأعلى.
يقول المصري: “الخطر كبير، والمساحة صغيرة، ومع ذلك أغلقت الغرفة التي اقتطعها لي أخي بالشوادر، وإلى جانبها أغلقت جزءًا صغيرًا ليكون مطبخًا، وآخر لدورة المياه”.
ويضيف: “المكان على سوء حاله قصرٌ في عيني، لإدراكي صعوبة العثور على سكن، غيري يتمنى غرفة متهالكة مثلي، ويرضى بدفع المال لأجلها، ومع ذلك لا يجد”.
لا تتوفر أدنى مقومات الحياة في المنطقة، لكنه وافق لكونه وشقيقه معًا، يأنس بوجوده، ويتقاسمان عبء الحياة ويساعدان بعضهما.
ويتحدّث بأسى: “الأصعب من كل هذا، أن بيتي أمامي ولكنني ممنوع من الوصول إليه، هذا ألم يتجدد في كل لحظة، أحيانًا أغض بصري عنه كي لا ينفطر قلبي أكثر”.
بقايا بيت بإيجار مرتفع
شقة في الطابق العاشر، بعض جدرانها مدمرة ويحل محلّها “شوادر”، بإيجار شهري قدره 600 دولار، كانت هذه الشقة أفضل عرض وجده محمد الشيخ في مدينة غزة، فأسرع في الاتفاق مع مالكها على استئجارها حتى لا تضيع الفرصة كسابقاتها.
يقول: “فقدت بيتي في النزوح الأخير، لكن لم أرغب بترك غزة، آثرت العودة لها، ليس لي بيت فيها، ولكن فيها حياتي وعملي وذكرياتي وكل شيء، الأمر ليس مجرد بيت نعيش فيه”، مضيفًا: “بدأت البحث عن بيت فور الإعلان عن الاتفاق، لكن الدمار الهائل الذي حلّ بالمدينة سبب نقصًا كبيرًا في عدد الشقق المعروضة للإيجار، لذا رضيت بعرض غير منطقي”.
ويتابع: “الطوابق العليا خطيرة، يمكن استهدافها من الطائرات أو بالقذائف المدفعية في أي لحظة، ولا كهرباء لتشغيل المصعد، سأضطر للنزول والصعود عدة مرات يوميًا وأنا الذي أقترب من الستين، سأحمل وأبنائي على الدرج مياه الشرب ومشتريات المنزل، كل هذه المعاناة وأنا أدفع مبلغًا كبيرًا للإيجار”.
ما يزيد معاناة الشيخ أن الشقة في منطقة شبه معزولة عن الحياة، لكنه اختارها لأنه كان يسكنها من قبل ويعرف أهلها، ففيها بيته المدمر.
إصراره على العودة بسرعة لا يرجع فقط لرغبته بالسكن في غزة، وإنما للمساهمة في إعادة الحياة لها، يوضح: “يواصل البعض نزوحه منتظرًا عودة جيرانه لكي لا تكون المنطقة منعزلة، لكن إذا انتظر الناس بعضهم، من سيعود أولًا؟ لا بد من اتخاذ الخطوة، وهذا ما فعلته، وها هم الجيران يعودون تدريجيًا وتعود معهم مظاهر الحياة”.

تصوير: محمد صابر / وكالة الأنباء الأوروبية (EPA).
محاولات فاشلة
لم يبقَ في غزة ما يدفع مريم النجار للعودة إليها، فأبناؤها سافروا في بداية الحرب، وبيتها وبيوتهم دمرها الاحتلال، وكان آخر ما دمره قبيل الهدنة بأيام، لكن قلبها متعلق بالمدينة.
توضح: “يحسب البعض الأمر بجانبه المادي فقط، لكن الشق المعنوي مهم، أغلب أهل غزة لا يطيقون بُعدًا عنها، لذا قررت أن أعود رغم خسارتي كل شيء، ورغم إدراكي صعوبة الحياة فيها بخلاف الوضع في المحافظة الوسطى حيث أنزح”.
من قواعد الحياة أن ليس كل ما يتنماه المرء يدركه، وهذا ما حدث مع النجار، قررت أن تبقى في الوسطى بعد فشل محاولات البحث عن مكان في غزة.
تقول: “رضاي بصعوبات الحياة في غزة لا يعني قدرتي عليها بسبب سفر أبنائي الذكور، من ذلك استحالة السكن في بناية لا تتوفر فيها كهرباء لرفع المياه، فزوجي الستيني لا يمكنه القيام بالمهمة، وكذلك نحتاج مكانًا قريبًا من السوق والنقاط الطبية”.
وتضيف: “قبلت استئجار بيوت بلا جدران، وأخرى بلا دورة مياه، وتكلفتها عالية، لكن العرض أقل من الطلب، كنت كلما اتصلت بصاحب شقة معروضة للإيجار يخبرني أني غيري سبقني في الاتفاق معه”.
وتتابع: “تكرر الأمر عدة مرات، وكان عليّ أن أخرج من البيت الذي استضافني في نزوحي كيلا أُثقل أكثر على أصحابه، فاستأجرت بيتا في الوسطى، ولكني لن أملّ من البحث عن مكان في غزة عسى أعود لها قريبا”.
ليس الآن
سهيل حماد اختصر طريق المعاناة، قرر أن يبقى في مواصي خان يونس حتى تتضح الصورة أكثر، فبيته قريب من “الخط الأصفر” وينقل له جيرانه العائدون قصصًا مخيفة عن “ميليشيات ياسر أبو شباب” الموجودة بالقرب منهم.
يقول: “في بداية الهدنة، عدت مع أسرتي للبيت وتركنا الخيمة وأغراضنا في مكانها، أردنا أن نجربّ الحياة في المنطقة، فوجدناها مستحيلة، لا مياه، ولا طعام، ولا خدمات، ولا حتى بشر”.
ويضيف: “الجيران العائدون هم عائلات ممتدة، في البناية الواحدة عشرات منهم، يملكون أنظمة طاقة شمسية تساعدهم في استخراج المياه من الأرض، وبعضهم يملك سيارات تساعده في التنقل، ومن المهم القول إنهم متفرقون في المنطقة، فبين كل بناية مسكونة وأخرى مسافة غير قصيرة”، مستدركًا: “أما أنا وزوجتي وأبنائي عددنا سبعة، عندي من الذكور اثنين فقط، صغيران، في المرحلة الإعدادية، فكيف نسكن مكانًا خطيرًا ومعزولًا كهذا؟ لن نجد من يساعدنا إن احتجنا شيئًا”.
فكّر حماد في نقل خيمته إلى مكان قريب من بيته ويتمتع بظروف حياتية أفضل، لكن تكلفة مواصلات النقل (700 دولار تقريبًا) جعلته يتردد، سيدفعها الآن، وسيدفع المزيد حين ينتقل من الخيمة للبيت.
بسبب هذه الظروف، يرى أن الوقت غير مناسب للعودة بعد، ويشجعه على ذلك خوفه من تكرار النزوح في وقت قريب، لذا ينتظر لعل مصير اتفاق وقف إطلاق النار يتضح، فيثبت أو ينهار.