في ظل التوسع الاستيطاني المتسارع في الضفة الغربية والقدس، وتصاعد مناقصات بناء المستوطنات وسياسات مصادرة الأراضي التي تنفذها سلطات الاحتلال الإسرائيلي يوميًا، تتجدد الأسئلة حول مصير الأرض الفلسطينية وواقع السيادة الوطنية.
في هذا الحوار الخاص مع “نون بوست”، يقدّم صلاح الخواجا، مدير مديرية الوسط في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، قراءة معمّقة لطبيعة التحديات التي يواجهها الفلسطينيون على الأرض، ويكشف الأهداف الاستيطانية التي تسعى إليها “إسرائيل”، وتداعيات هذه السياسات على المجتمع الدولي، إضافة إلى تفصيل الاستراتيجيات الممكنة لمواجهة هذا التمدد والضغط على الاحتلال دفاعًا عن الأرض والحقوق الفلسطينية.
إلى أي مدى تسهم المناقصات الجديدة لبناء المستوطنات، والاستيلاء المستمر اليومي من قبل سلطات الاحتلال على الأراضي الفلسطينية، في تقويض مزاعم الإدارة الأمريكية لعدم وجود ضم فعلي للأراضي الفلسطينية؟
الحديث عن الضم لم يبدأ بتصريحات ترامب، ولا بادعاءات بعض المسؤولين الأمريكيين؛ فالضم قائم فعلياً منذ عام 1967، منذ تهجير أول حي في القدس وهو حي المغاربة. فمنذ إطلاق مشروع آلون عام 1967، الهادف إلى عزل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وضم القدس، والسيطرة على منطقة الأغوار التي تشكل نحو 29% من الضفة الغربية، وتحويل ما تبقى من الأراضي الفلسطينية إلى كنتونات ومعازل، بدأت عملية الضم عملياً.
استمرار سياسات الاحتلال الحالية، وسياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، يهدف إلى فرض وقائع جديدة في الضفة الغربية، وتهويدها والسيطرة عليها، ومنع إقامة دولة فلسطينية. أما الادعاءات الأمريكية التي تُطلق في محاولة لامتصاص الغضب الشعبي والدولي والعربي، أو لتضليل الرأي العام، فهي لا تستند إلى أي معنى سياسي حقيقي. فالولايات المتحدة لا تزال تقدم الدعم والحماية لـ”إسرائيل”، وتواصل غضّ الطرف عن الإبادة في غزة، وتسلّح المستوطنين؛ إذ مُنح المستوطنون أكثر من 97 ألف قطعة سلاح بعد 7 أكتوبر، وهو ما تباهى به بن غفير علناً.
لذلك، فإن الحديث الأمريكي عن عدم وجود ضم هو مضلل، ولا قيمة سياسية حقيقية له، لأنه يتناقض مع دعم واشنطن الكامل للاحتلال والاستيطان.
كيف يمهّد التوسع الاستيطاني المتواصل الطريق لتنفيذ خطة الضم في الضفة الغربية؟
التوسع الاستيطاني والبناء المتواصل في المستوطنات يهدفان إلى خلق واقع جديد على الأرض، وتغيير الطابع الجغرافي والديموغرافي للضفة الغربية، فـ”إسرائيل” لا تسعى فقط لبناء عدد من المستوطنات هنا أو هناك، سواء في القدس أو الأغوار، بل تستهدف كل الضفة الغربية، خصوصاً مناطق المصنفة (ج) حسب اتفاقية أوسلو التي تشكل نحو 63% من مساحتها.
ما يجري اليوم هو تنفيذ عملي لرؤية الحركة الصهيونية القائمة على وأد حلم الشعب الفلسطيني بإقامة دولته، مقابل بناء دولة المستعمرات والمستوطنات في الضفة الغربية، والتي تشكل الأساس الفعلي لمشروع الضم.
ما الهدف من تسريع طرح المناقصات الاستيطانية في هذه المرحلة؟
الهدف الرئيس هو دفع مشروع “القدس الكبرى” وترسيخه، وهو مشروع يحظى بأولوية لدى الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. ومنذ إعلان رابين عن مستوطنة معاليه أدوميم بقوله: “الآن بدأ مشروع الاستيطان”، ظلّت هذه المنطقة مركزاً محورياً لأي مخطط استيطاني.
مؤخراً، ظهر نتنياهو وسموتريتش وبن غفير في مؤتمر صحفي من “معاليه أدوميم”، معلنين بدء تنفيذ “مشروع E1” على الأرض، كجزء من مخطط “القدس الكبرى”. كما أن تمرير مشروع القانون في الكنيست، الذي قدّمه ليبرمان لضم “معاليه أدوميم” إلى ما يسمى “السيادة الإسرائيلية”، يعكس توجهاً واضحاً نحو فرض الأمر الواقع.
هذا التسريع مرتبط أيضاً بالمنافسة السياسية داخل “إسرائيل”، إذ يتسابق الائتلاف الحاكم والمعارضة على كسب أصوات الجمهور الإسرائيلي من خلال تبني مشاريع الاستيطان والتمدد الاستيطاني في الضفة الغربية.
ما الهدف الذي تسعى إليه حكومة الاحتلال من إقامة وتوسيع المستوطنات في مناطق استراتيجية في القدس والضفة؟
تسعى الحكومة الإسرائيلية، من خلال إقامة وتوسيع المستوطنات في المناطق الاستراتيجية في القدس والضفة الغربية، إلى تعزيز الوجود الاستيطاني وترسيخ السيطرة على أكبر قدر من الأراضي الفلسطينية ومواردها. يشمل ذلك الأراضي الزراعية، والثروة الحيوانية، والمحميات الطبيعية، وينابيع المياه، بما يحوّل القرى والبلدات الفلسطينية إلى مناطق محاصرة أشبه بالسجون.
وتُظهر عمليات الضم الإداري الأخيرة في مناطق النبي صموئيل وبيت إكسا وحي الخلايلة شمال غرب القدس بوضوح الرؤية التي يتبناها الاحتلال حول مستقبل الشعب الفلسطيني وما تبقى له من أراضٍ في منطقتي (أ) و(ب) حسب اتفاقية أوسلو. هذه السياسة تهدف إلى تفريغ الأرض من أصحابها الشرعيين وإعادة تشكيل الجغرافيا بما يخدم توسع المشروع الاستيطاني.
ما أبرز الذرائع التي تستخدمها سلطات الاحتلال لمصادرة الأراضي الفلسطينية؟
تعتمد سلطات الاحتلال في عملية مصادرة الأراضي على منظومة قانونية واسعة تضم نحو 81 قانوناً أقرّها الكنيست الإسرائيلي، تُستخدم جميعها كأدوات لشرعنة الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية. من بين هذه القوانين:
- قانون أملاك الغائبين.
- قوانين تصنيف الأراضي بأنها “متروكة” أو “غير مستغلة”.
- قوانين المحميات الطبيعية.
- تخصيص الأراضي للتدريبات العسكرية.
- إنشاء طرق رابطة بين المستوطنات.
- قوانين الخدمة العامة أو “الاستخدام العام”.
وفي كل مرحلة، يسعى الاحتلال إلى تطوير قوانين جديدة تعطيه غطاءً قانونياً إضافياً للاستمرار في مشروع السيطرة على الأرض الفلسطينية.
كم تقدر مساحة الأراضي التي ستستولي عليها سلطات الاحتلال لصالح إقامة هذه المستوطنات؟
تُقدَّر مساحة الأراضي التي تسيطر عليها سلطات الاحتلال بنحو 42% من الضفة الغربية، وتُعامل هذه الأراضي باعتبارها “فارغة من السكان” وفق تفسير الاحتلال، ما يسهل عملية تحويلها إلى مشاريع استيطانية. وتوزعت هذه المساحات على النحو الآتي:
- 8% مخططات هيكلية جاهزة لصالح المستوطنات،
- 14% مخصّصة للبؤر الاستيطانية الرعوية،
- 11% أراضٍ خلف الجدار تمت مصادرتها بالكامل،
أما ما تبقى من المساحات، فقد حُوّل إلى مناطق تدريب عسكري، أو أقيمت عليه حواجز، أو استخدم لفتح طرق استيطانية تربط بين المستوطنات، ما يعكس حجم التوسع الاستيطاني ومدى تغلغله في جغرافيا الضفة الغربية.
المناقصات الجديدة التي يتم الحديث عنها والاستيلاء على الأراضي، هل يشكلان تنفيذاً لمشروع القدس الكبرى؟ وهل سيفرضان وقائع ديموغرافية جديدة؟
بالتأكيد؛ فهذه المناقصات تأتي في إطار مشروع واضح وممتد يهدف إلى استكمال مخطط القدس الكبرى، إذ تنص المشاريع المطروحة على بناء 356 وحدة استيطانية جديدة، إضافة إلى إقرار 209 وحدات أخرى منتصف هذا الشهر لصالح مستوطنات مثل غوش عتصيون وجفعات زئيف وغيرها.
ويقوم المشروع على توسيع الحيز الاستيطاني ليشمل نحو 12% من أراضي الضفة الغربية، وربط القدس الغربية بالقدس الشرقية وصولاً إلى مستوطنة معاليه أدوميم والبحر الميت شرقاً، وامتداداً جنوباً إلى غوش عتصيون المقامة على أراضي الخليل، وشمالاً حتى مطار قلنديا الفلسطيني الذي أُنشئ قبل عام 1948 وتمت السيطرة عليه بعد 1967. وقد أعلنت حكومة الاحتلال بالفعل نيتها تحويل أرض المطار إلى مستوطنة مخصصة للمتعصبين الدينيين.
هذه المخططات ستفرض وقائع ديموغرافية جديدة عبر محو التواجد الفلسطيني في المساحات الفاصلة بين المستوطنات، وتحويل القدس إلى كتلة استيطانية ضخمة مغلقة ومعزولة عن محيطها الفلسطيني.
هل يستهدف المشروع الاستيطاني أراضي (ج) حسب تصنيف أوسلو أم كذلك يشمل الأراضي المصنفة (ب)؟
رغم أن المشروع يرتكز أساساً على استهداف أراضي (ج)، وهي التي تخضع للسيطرة الإسرائيلية الكاملة وفق اتفاقية أوسلو، إلا أن الاستهداف لا يقتصر عليها، فمناطق (أ) و(ب)، التي يفترض أن تكون تحت إدارة السلطة الفلسطينية، تشهد تعديات متواصلة، واقتحامات، واعتداءات من المستوطنين وجمعيات الاستيطان، إضافة إلى اجتياحات متكررة من جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وتأتي هذه الممارسات ضمن خطة مبرمجة تبناها الائتلاف الحاكم بقيادة نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، لفرض ما يسمى “السيادة على ما تبقى من الضفة الغربية”. وتشكل الخطة تهديداً مباشراً لكل مقومات الوجود الفلسطيني، بما يشمل ينابيع المياه والمحميات الطبيعية والمواقع الأثرية. ويكفي الإشارة إلى تصريح سموتريتش بأن هناك 2562 موقعاً أثرياً في الضفة يعتبرها “مناطق توراتية”، وتأكيده التعامل مع الضفة باعتبارها “يهودا والسامرة”، وأن الفلسطينيين “احتلوا” هذه المناطق ويجب “تحريرها”.
كيف يؤدي تحويل عبء إثبات ملكية الأراضي على الفلسطينيين إلى تسهيل الاستيلاء الاسرائيلي على الأراضي؟
تحويل عبء الإثبات إلى الفلسطينيين يمثل إحدى أخطر الآليات القانونية المستخدمة لتفريغ الأرض من أصحابها. فاليوم، بات المستوطنون يمتلكون نفوذاً قانونياً واسعاً، ويستغلون حالة الطوارئ المفروضة منذ العدوان على قطاع غزة لفرض مزيد من السيطرة على الأراضي.
ويضاف إلى ذلك قانون تسوية الأراضي الذي يسعى إلى تمليك المستوطنين أراضي في الضفة والقدس تحت غطاء “السيادة الإدارية” على مناطق(ج). هذه الإجراءات لا تنتهك فقط القانون الدولي، بل تتجاوز حتى بعض القوانين الإسرائيلية، إذ سمحت للمستوطنين ببناء بؤر رعوية واستيطانية في أي موقع يرغبون به، حتى في الأراضي المصنفة (ب)، كما حدث في مناطق عطارة وبيرزيت وغيرها من القرى.
وهكذا، يتحول القانون نفسه إلى أداة بيد المنظومة الاستيطانية، تُسهّل الاستيلاء على الأرض، وتضع الفلسطيني أمام معركة إثبات يندر أن يستطيع خوضها أو الانتصار فيها في ظل منظومة قانونية صُمّمت أصلًا لنزع ملكيته.
هل تعتقد أن نقل عبء إثبات ملكية الأراضي إلى الفلسطينيين يسهم في تسهيل الاستيلاء الإسرائيلي عليها؟
بالتأكيد. إن نقل عبء إثبات الملكية إلى الفلسطينيين يُعدّ أحد أخطر الأدوات لتسهيل الاستيلاء الإسرائيلي على الأراضي، فبينما يُرهق الفلسطيني بالإجراءات البيروقراطية لدى الإدارة المدنية وتضييع الوقت في متابعة الأوراق والاعتراضات. في المقابل، يكون المستوطنون قد أنشأوا بؤراً استيطانية جديدة على الأرض نفسها، لتصبح لاحقاً “أمراً واقعاً” يُشرعن عبر قانون التسوية، الذي يسمح باللجوء إلى المحاكم الإسرائيلية لفض النزاع، وهي محاكم غالباً ما تنتهي قراراتها لصالح المستوطنين.
وتوسّع سلطات الاحتلال دائرة السيطرة باستغلال قوانين الأراضي المتروكة، والمشاع، وما تسمّيه “الأراضي الحكومية”، وحتى أراضي الأوقاف، لتسهيل التمدد الاستيطاني. وفي كثير من الحالات تبدأ البؤرة على أراضٍ مصنّفة حكومية ثم تزحف تدريجياً نحو أراضٍ خاصة، ما يجعل المعاناة على المزارع الفلسطيني معاناة مفتوحة الزمن، كما يحدث اليوم في منطقة شلالات العوجا حيث يتحول الوصول إلى الأرض إلى صراع يومي مستمر.
كيف يمكن للفلسطينيين حماية ملكيتهم في ظل الإجراءات الجديدة؟
الإجابة تأتي من طبيعة المرحلة ذاتها، نحن لا نعيش مرحلة حلول سياسية، بل مرحلة صراع وكفاح، ولا خيار سوى استنهاض الطاقات الشعبية بأشكالها كافة، فالحفاظ على عروبة فلسطين و قدسيتها ومكانتها لا يمكن أن يتحقق دون نضال شعبي عنيد، قانونيًا وميدانيًا.
وكما حدث في موسم الزيتون عندما نجح الفلسطينيون في الوصول إلى أراضي حاول المستوطنون الاستيلاء عليها، فإن الرسالة الأساسية كانت واضحة، لن نستسلم، وسنواجه هذه السياسات مهما كان الثمن، لأن حماية الأرض هي معركة الوجود.
تتوسع سلطات الاحتلال في استخدام الأوامر العسكرية كأداة للسيطرة على الأراضي الفلسطينية، إذ يتم الاستيلاء على آلاف الدونمات في الضفة (مدنها، قراها، وبلداتها) بحجج أمنية وعسكرية، أو لتشييد مناطق عازلة وطرق أمنية تصل بين المستوطنات.
ما هي مزاعم الاحتلال من هذه الخطوة وما الهدف منها؟
تصف سلطات الاحتلال هذه الإجراءات بأنها ضرورية لأسباب عسكرية وأمنية، إلا أن الواقع يكشف أن هذه الخطوة جزء من منظومة قوانين تُستخدم لتسهيل الاستيلاء على الأراضي وتحويلها إلى مناطق مغلقة تحت سيطرة الاحتلال. فقد تمت السيطرة على 72 دونماً دفعة واحدة في محيط رام الله قبل ثلاثة أسابيع فقط، وتلتها مصادرات جديدة طالت 11 قرية شرقاً وغرباً من رام الله، في إطار مخطط لفرض ما يسمى “السيادة الإسرائيلية” على الأراضي الفلسطينية عبر ذرائع الأوامر العسكرية.
ومثلما حدث في قرية الطيبة، تبدأ المصادرة بذريعة الأمن، ثم تُستثمر هذه الأراضي لاحقاً لإقامة مستوطنات دائمة، ما يؤكد أن المزاعم الأمنية لا تعدو أن تكون غطاءً لتوسيع الاستيطان وفرض السيطرة على الأرض.
كم تقدر مساحة الأراضي التي تم الاستيلاء عليها في الضفة تحت هذا الهدف؟
تشير البيانات إلى أنه خلال العام الماضي وحده، تم الاستيلاء على نحو 56 ألف دونم بذريعة الاستخدام العسكري، بينما قبل نهاية عام 2025 تم مصادرة أكثر من 42 ألف دونم إضافية، في مختلف مناطق الضفة، ضمن عمليات ممنهجة للاستيلاء على الأراضي تحت مسمى الأوامر العسكرية، ما يعكس اتساع نطاق السيطرة الإسرائيلية بشكل منهجي ومدروس.
في سياق سياسات التوسع الاستيطاني، تبرز المناطق العازلة والمعزولة كإحدى أكثر الأدوات استخدامًا لإحكام السيطرة على الأرض. وهنا يطرح سؤال جوهري نفسه: ما طبيعة هذه المناطق، وكم يبلغ عددها في الضفة الغربية؟
تستخدم سلطات الاحتلال مصطلحي “المناطق العازلة” و”المناطق المعزولة” بشكل متداخل، باعتبارهما وسيلتين لفرض أطواق حول المستوطنات، وقطع أي تواصل فلسطيني مع الأراضي المحيطة.
عند إقامة مستوطنة جديدة، يُفرض شريط محيط بها يمتد مبدئياً نحو 100 متر، ويُعتبر جزءاً من امتداد المستوطنة ويُعزل بالكامل عن الأراضي الفلسطينية، إلا أن السياسة توسعت لتشمل مناطق عازلة تتجاوز 100 متر بكثير حول المستوطنات والبؤر الرعوية، وحتى مناطق التدريب العسكري والحواجز، حيث يُمنع الفلسطيني من الدخول أو الخروج أو الوصول إلى أراضيه.
وتبلغ عدد هذه المناطق أكثر من 23 منطقة عازلة منتشرة في الضفة الغربية، إضافة إلى قرى كاملة أصبحت معزولة، مثل القرى الواقعة غرب القدس، والتي تحولت إلى مناطق حدودية تفصل بين الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية الكاملة، أو الإدارية، أو الأمنية. وتُحاط هذه المناطق بالجدار وببوابات عسكرية، ولا يُسمح بالعبور إلا لأصحاب الأراضي وبإجراءات مشددة.
ويظهر أثر العزل بوضوح في الحالات الفردية، مثل عائلة أبو غريب في بيت إجزا شمال غرب القدس، التي أصبحت معزولة بالكامل بالجدار وموصولة ببوابة إلكترونية يُفتح الدخول والخروج من خلالها عبر بصمة مبرمجة من قوات الاحتلال، ما يمنع أي فلسطيني آخر من زيارتهم. وكذلك الحال في قرية دوما في نابلس، التي أصبحت معزولة بالكامل عن أي قرى مجاورة نتيجة سياسة الاستيطان وفتح الطرق الرابطة بين المستوطنات، ما يحوّل القرية إلى جزيرة فلسطينية محاطة بسيطرة الاحتلال.
هل تسعى “إسرائيل” من خلال الطرق الأمنية والمناطق العازلة إلى ترسيخ واقع حدودي؟
الواقع يشير إلى ذلك بوضوح، فحين شُيد جدار الفصل العنصري، تم عزل نحو 11% من أراضي الضفة الغربية. وحاولت “إسرائيل” تبرير هذا الإجراء أمام العالم عبر فتح بوابات زراعية، بزعم تمكين المزارعين من الوصول إلى أراضيهم خلف الجدار، لكن هذه الأراضي أصبحت اليوم تحت السيطرة الإسرائيلية وتُستغل لصالح المستوطنات. وتشمل المصادرة أهم الأراضي الزراعية في الشمال الفلسطيني، بما في ذلك مناطق جنين، طولكرم، قلقيلية، وسلفيت، التي تعتبر أساساً ومصدراً رئيسياً للزراعة الفلسطينية.
ما تأثير إقامة منطقة عازلة والطرق الأمنية على حركة الفلسطينيين وحق الوصول إلى أراضيهم؟
عملياً، تُستخدم هذه المناطق كذريعة لتشريد السكان وتهجيرهم، إذ تُفرض أوامر عسكرية تمنع الدخول لأي فلسطيني، ليصبح الاستيلاء على الأراضي الفارغة جزءاً من سياسات الاحتلال لفرض السيطرة، وحصار التجمعات السكانية، وقطعها عن بلدات أخرى، أو السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية والفارغة.
ماذا يعني نقل سلطات الاحتلال لحاجز الحمرا، الذي يربط بين نابلس وطوباس وأريحا، إلى قرية عين شبلي شرق نابلس؟ وما الهدف من هذا الإجراء؟
هذا النقل، الذي يبعد حوالي 2 كيلومتر عن موقع الحاجز الأصلي، يجعل كل الأراضي شرق عين شبلي تحت السيطرة الإسرائيلية، ويفقد الفلسطينيون إمكانية الوصول إليها. وعملياً، تصبح حركة المزارعين محدودة بشكل كبير، ويُمنع الوصول إلى مساحات واسعة تقدر بآلاف الدونمات تمتد إلى مناطق مكحول، الحديدية، والتجمعات الفلسطينية التاريخية والتراثية في منطقة المالح.
الهدف من هذه السياسات واضح؛ فرض السيادة الإسرائيلية على أراضٍ فارغة بدون سكان، وحبس الفلسطينيين بالقرب من بيوتهم وقراهم وبلداتهم، وعزلهم عن أي تواصل مع الأراضي المحيطة، بما يعكس سياسة ممنهجة لتقييد حرية الحركة وفرض واقع ديموغرافي وجغرافي جديد في الضفة الغربية.
في سياق التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، يبرز سؤال جوهري: هل تسعى سلطات الاحتلال إلى إقامة كيان استيطاني موازٍ يشكّل دولة للمستوطنين في الضفة، بما يجعلها منافسة لتل أبيب؟
الواقع يشير بوضوح إلى أن الهدف المركزي لهذه المشاريع هو إجهاض حلم الفلسطينيين في إقامة دولتهم، فعند دراسة خارطة الاستيطان في قرى شرق رام الله، مثل: رمون، الطيبة، كفر مالك، والمغير، يتبيّن أن مساحة المناطق المستولى عليها هناك تفوق بثلاثة أضعاف مساحة مدينة تل أبيب.
ونحن نتحدث هنا عن واحدة من أوسع المناطق في الضفة الغربية، إذ تصل مساحة الأراضي التي تسيطر عليها “إسرائيل” إلى نحو مليونين ومئتي ألف دونم، أي ما يقارب 42% من مساحة الضفة الغربية. وهذه المساحة الشاسعة، الفارغة من السكان والواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، تعكس حجم التوسع الاستيطاني الهائل، خاصة عند مقارنتها بمساحة قطاع غزة التي لا تتجاوز 360 كيلومتراً مربعاً.
وعند مقارنة مخطط مستوطنة معاليه أدوميم شرق العيزرية الذي يمتد على 61 كيلومتر مربع مع المخطط الهيكلي لمستعمرة تل أبيب الذي يمتد على 63 كيلومتر مربع، يظهر أن المستوطنات المقامة شرق القدس تُوازي مساحة تل أبيب، وأن المساحات المستهدفة شرق رام الله ثلاثة أضعاف مساحة تل أبيب. ومع ذلك، تحاول “إسرائيل” فرض واقع على الأرض عبر مصادرة الأراضي، والسطو عليها، وتهجير التجمعات البدوية، إضافة إلى الاعتداءات اليومية على القرى والبلدات الفلسطينية. وما يزيد تعقيد الوضع أن عدد المستوطنين في الضفة لا يتزايد بشكل كبير، مما يطرح تساؤلات حول قدرة الاحتلال على الحفاظ على هذه الأراضي على المدى الطويل.
إضافة إلى ذلك، فإن الضفة الغربية تتكوّن أصلاً من كتل استيطانية، كما هو الحال في كامل الكيان الإسرائيلي، سواء في أراضي 1948 أو في القدس أو في الضفة نفسها. هذه الكتل، سواء أُطلق عليها “دولة استيطان” أم لا، لا يمكن فصلها عن الأراضي المحتلة عام 1948 أو عن الاستيطان المقام على أراضي وبلدات فلسطينية، سواء في القدس أو في الضفة الغربية. كل هذه الأراضي تشكّل حركة استيطانية موحدة تقودها حكومة المستوطنين، بهدف فرض السيطرة الإسرائيلية على كامل الأراضي الفلسطينية.
ما الرسائل التي تحاول “إسرائيل” إيصالها من خلال استمرار البناء الاستيطاني رغم نفي وجود ضم فعلي؟
الرسالة واضحة: الاحتلال لا يهدف فقط إلى تهويد فلسطين، بل يسعى إلى توسيع السيطرة الإسرائيلية في المنطقة. مشروع الاحتلال الحالي يهدف إلى إقامة “إسرائيل الكبرى”، وهي رؤية ترغب في السيطرة على مساحة واسعة من الشرق الأوسط، مع إبقاء الحق في الاستيطان وفرض الهيمنة على الأراضي الفلسطينية والدول المحيطة. إن هذا المخطط ليس مجرد توسع جغرافي، بل استراتيجية طويلة الأمد لفرض السيطرة والوجود الإسرائيلي في المنطقة بأكملها.
هل تمثل هذه المناقصات تحدياً للمجتمع الدولي وقرارات الأمم المتحدة؟
بالتأكيد، تُشكّل هذه المناقصات إدارةً للظهر من قِبل جزءٍ من المجتمع الدولي والمنظمات الدولية، كما أن المقترحات التي تطرحها بعض الدول العربية التي تعتبر نفسها وسطاء بين دولة الاحتلال والشعب الفلسطيني تُعدّ استهتاراً بمواقف الشعوب العربية، وتحويلًا للمجتمع الدولي إلى أداةٍ تنفّذ سياسات الاحتلال وسياسات نتنياهو، حتى بات دوره أقرب إلى “شرطي” يسهّل مشاريع الاستيطان. ولا يخفى أن ترامب أصبح اليوم ناطقاً غير رسمي باسم حكومة نتنياهو، يروج لروايتها ويبرر ممارساتها.
وبالتالي، يتعيّن علينا نحن الفلسطينيين تغييرَ استراتيجية المواجهة في النضال ضد دولة الاحتلال والمستوطنين، والبحث عن خياراتٍ لاستقطاب مزيدٍ من أصدقائنا الدوليين، للضغط على حكوماتهم وبرلماناتهم لإحداث تغييرٍ في السياسات؛ لأن هذه السياسات، مع الأسف، إما منحازةٌ لـ”إسرائيل”، أو مترددةٌ، أو تلتزم الصمت أمام جرائم الاحتلال.
ما هي الإجراءات التي يجب على المجتمع الدولي اتخاذها لمواجهة مثل هذه السياسات؟
أولًا، يجب على محكمة الجنايات الدولية فتح ملف الاستيطان باعتباره جريمة حرب وفقاً لميثاق روما، وملاحقة حكومة الاحتلال والمستوطنين وجمعيات الاستيطان كمرتكبين لجرائم الحرب. ثانياً، على الأمم المتحدة تفعيل ما ورد في فتوى محكمة العدل الدولية بشأن جدار الفصل العنصري (لاهاي، 9/7/2004)، التي أكدت عدم شرعية الجدار والاستيطان، وألزمت بضرورة تعويض الفلسطينيين عن الأضرار، واعتبرت القدس جزءاً من الأراضي المحتلة. تنفيذ هذه الفتوى عبر مجلس الأمن وبآليات ملزمة سيكون خطوة رئيسية لردع الانتهاكات، لكن، مع الأسف، حتى الآن المعايير الدولية تكيل بمكيالين، وهناك سطوة للولايات المتحدة الأمريكية على كل المنظمات والهيئات الدولية.مما يحدّ من قدرتها على فرض القانون الدولي بشكل فعّال.
من هنا، تتجلى رسالة واضحة للفلسطينيين: تحمّل المسؤوليات معاً، وتوحيد الجهود في استراتيجية وطنية، عنوانها الوحدة الفلسطينية والكفاح الشعبي المتنوع. ويجب أن تتضمن هذه الاستراتيجية حملات مقاطعة شاملة وممنهجة ضد حكومة الاحتلال ومؤسساتها، مع تعزيز الضغط القانوني والدبلوماسي على المستوى الدولي، وبناء شبكة دعم عالمي، بما يعزز قدرة الفلسطينيين على مواجهة الاحتلال واستعادة المبادرة في الساحة الدولية