تشهد العلاقات الإثيوبية الإريترية في الآونة الأخيرة منعطفًا حادًا ينذر بتفجر صراع جديد في منطقة القرن الإفريقي، بعدما دخل البلدان نفقًا متزايدًا من التوترات السياسية والعسكرية، وتأتي هذه التطورات وسط تبادل الاتهامات بين أديس أبابا وأسمرة بشأن محاولات كل طرف زعزعة استقرار الآخر عبر دعم جماعات مسلحة وإثارة الاضطرابات في المناطق الحدودية، فضلاً عن مساعي إثيوبيا المستمرة للبحث عن منفذ بحري على البحر الأحمر، وهو ما تعتبره إريتريا تهديدًا مباشرًا لسيادتها ووحدة أراضيها.
وقد بلغ التصعيد الإثيوبي ضد إريتريا ذروته مع تصريحات رئيس الوزراء آبي أحمد أمام البرلمان، التي حملت لهجة تهديد واضحة وغير مسبوقة، حين حذر من أن أي مواجهة بين البلدين قد تدفع أسمرة إلى “سيناريو أوكرانيا”، في إشارة إلى عواقب كارثية قد تترتب على اندلاع حرب شاملة.
وبينما دعا رئيس الوزراء الإثيوبي جاره الشمالي إلى اختيار “السلام والتعاون” بديلاً عن “العواقب الوخيمة”، بدا أن رسالته تخفي وراءها إصرارًا على فرض واقع جيوسياسي جديد يمنح إثيوبيا موطئ قدم على الساحل الإريتري.
في المقابل، لم يكن هذا التطور بمعزل عن القاهرة، التي تستشعر حساسية البحر الأحمر في معادلة أمنها القومي، باعتباره امتدادًا استراتيجيًا حيويًا يتصل مباشرة بمصالحها البحرية والاقتصادية والعسكرية، وعليه سعت مبكرًا لتجنب الحياد إزاء هذا التصعيد، فقد بادرت إلى إعلان موقف واضح من خلال تصريحات وزير خارجيتها بدر عبد العاطي، الذي شدد على أن حوكمة البحر الأحمر شأن يخص الدول المشاطئة فقط، مستثنيًا بشكل صريح الدول الحبيسة، وفي مقدمتها إثيوبيا.
وبعد يومين فقط من تهديدات آبي أحمد كان رئيس إريتريا أسياس أفورقي ضيفًا على نظيره المصري في القاهرة، إذ ناقش الرئيسان تعزيز التعاون، لضمان أمن البحر الأحمر، فيما شدد عبد الفتاح السيسي على ضرورة تكثيف التنسيق بين القاهرة وأسمرة، وكذلك مع الدول العربية والأفريقية المشاطئة، بما يسهم في ترسيخ الأمن والاستقرار في هذه المنطقة المهمة، وفق بيان للرئاسة المصرية.
بطبيعة الحال لا يمكن فصل هذا التحرك المصري عن تعثر ملف سد النهضة، الذي شكل على مدار السنوات الماضية ساحة مواجهة دبلوماسية وسياسية مع إثيوبيا، وفي ظل هذا المشهد المليء بالشكوك والتوترات، تبرز تساؤلات جوهرية حول مآلات الصراع المحتمل: هل ستنجح القاهرة في تحويل هذا التوتر إلى ورقة ضغط سياسية تعوّض بها خسائرها في معركة السد؟ وهل تتمكن من منع أديس أبابا من تحقيق حلمها التاريخي بالوصول إلى البحر الأحمر؟ أم أن القرن الإفريقي مقبل على فصل جديد من الصراعات المعقدة التي قد تعيد رسم خرائط النفوذ في المنطقة؟
التوتر بين إثيوبيا وإريتريا.. نظرة على السياق العام
على خلاف ما يروَّج بشأن جذور الصراع بين إثيوبيا وإريتريا، وأنها بدأت بعد استقلال أسمرة عام 1993، فإن جذور التوتر بين البلدين تعود في الواقع إلى ما قبل ذلك بكثير، حين كانت إريتريا جزءًا من الاتحاد الإثيوبي وتتمتع بحكم ذاتي محدود.
ففي تلك المرحلة، كانت العلاقات بين الجانبين تتسم بالهشاشة والتقلب، إذ اندلعت عدة مواجهات ونزاعات داخلية سرعان ما كانت تُحتوى مؤقتًا دون معالجة الأسباب العميقة الكامنة وراءها، والمتمثلة في التنافس على النفوذ والهوية والسيادة داخل كيان سياسي واحد.
لكن استقلال إريتريا عام 1993 لم يكن نهاية للتوتر، بل تحول إلى نقطة انطلاق لصراع حدودي مفتوح، خاصة حول منطقة بادمي المتنازع عليها، هذا الخلاف الحدودي سرعان ما تصاعد إلى حرب شاملة بين عامي 1998 و2000، خلفت عشرات الآلاف من القتلى وخسائر اقتصادية جسيمة لكلا البلدين، قبل أن ينجح الطرفان في توقيع اتفاق سلام عام 2018 بوساطة إقليمية ودولية.
وقد مثّل الاتفاق التاريخي، الذي جمع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد والرئيس الإريتري أسياس أفورقي، بارقة أمل بإنهاء عقود من العداء المزمن، حتى إن آبي أحمد نال على إثره جائزة نوبل للسلام، وكان يتوقع بعدها أن تسير الأمور بين البلدين نحو مسار مختلف من التفاهم والاستقرار.
غير أن الهدوء الذي أعقب الاتفاق لم يدم طويلًا. فمنذ عام 2021 عادت مؤشرات التوتر إلى الواجهة، بعد أن تبادلت أديس أبابا وأسمرة الاتهامات بالتآمر والتدخل في الشؤون الداخلية، فقد اتهمت الحكومة الإثيوبية جارتها الشمالية بدعم عناصر من جبهة تحرير تيجراي – التي كانت حتى وقت قريب القوة السياسية والعسكرية المهيمنة في إثيوبيا – وبالتحضير لعمليات معادية ضدها، بينما ردت إريتريا بالنفي القاطع، معتبرة أن أديس أبابا تحاول تصدير أزماتها الداخلية وإلقاء اللوم على أطراف خارجية.
وتفاقمت الأزمة أكثر بعد توقيع إثيوبيا اتفاق بريتوريا للسلام مع جبهة تيجراي عام 2022، دون التشاور مع أسمرة، رغم أن الأخيرة كانت شريكًا عسكريًا أساسياً للحكومة الإثيوبية خلال الحرب ضد الجبهة، هذا الإقصاء مثّل، من وجهة النظر الإريترية، خيانة سياسية عمّقت فقدان الثقة بين الجانبين.
ثم جاءت تصريحات آبي أحمد الأخيرة بشأن “حق إثيوبيا الطبيعي” في الحصول على منفذ بحري على البحر الأحمر لتفجر الخلاف مجددًا، فقد رأت إريتريا في هذا المطلب تهديدًا مباشرًا لسيادتها ومصالحها الاستراتيجية، خصوصًا في ميناء عَصَب الحيوي، الذي يُعد أحد أهم منافذها الاقتصادية والعسكرية، لتتحول القضية من خلاف سياسي إلى أزمة تمس الأمن القومي الإريتري، ما أعاد المنطقة إلى أجواء الترقب والخشية من مواجهة جديدة قد تنزلق إلى صدام عسكري واسع.
القاهرة – أديس أبابا.. مقاربات التاريخ والجغرافيا
ينظر رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى قضية الوصول إلى البحر الأحمر بوصفها قضية وجودية تمس مستقبل الدولة الإثيوبية نفسها، لا مجرد مطلب اقتصادي أو جغرافي، فمنذ استقلال إريتريا عام 1993، أصبحت إثيوبيا دولة حبيسة بلا منفذ بحري، تعتمد بشكل شبه كامل على ميناء جيبوتي في تجارتها الخارجية، وهو ما يكلّفها نحو ملياري دولار سنويًا كرسوم للموانئ والنقل، هذه المعادلة، في نظر أديس أبابا، تمثل عبئًا اقتصاديًا واستراتيجيًا يهدد قدرتها على النمو والانفتاح التجاري، ويجعلها رهينة لإرادة جيرانها الساحليين.
وفي هذا السياق، جاءت تصريحات آبي أحمد المثيرة للجدل خلال مقابلته مع التلفزيون الإثيوبي في سبتمبر 2025، حين وصف فقدان بلاده لسواحلها بعد انفصال إريتريا بأنه “خطأ تاريخي يجب تصحيحه”، هذا التوصيف لم يُقرأ باعتباره مجرد تعبير عن حنين جغرافي، بل كإعلان ضمني عن رؤية جديدة للنفوذ الإقليمي الإثيوبي تتجاوز حدود ما بعد الاستقلال.
وقد اعتبر مراقبون أن حديثه يعكس نزعة مراجعة للواقع الحدودي، وتلميحًا إلى إمكانية السعي لاستعادة منفذ بحري عبر أدوات الضغط الجيوسياسي أو حتى القوة الصلبة، وهو ما مثّل تحديًا مباشرًا للسيادة الإريترية وللتوازنات الأمنية في منطقة القرن الإفريقي.
أما القاهرة، فقد قرأت هذه التحركات من زاوية مختلفة تمامًا، فبينما تبرر إثيوبيا سعيها إلى منفذ على البحر الأحمر بدوافع اقتصادية خالصة، ترى مصر أن الهدف الحقيقي أعمق وأخطر، فوفقًا للرؤية المصرية الرسمية وغير الرسمية، فإن تحرك أديس أبابا لا ينفصل عن محاولتها إعادة رسم خريطة النفوذ في البحر الأحمر، واستخدامه كورقة ضغط استراتيجية في مواجهة القاهرة، سواء في ملف سد النهضة أو في قضايا الأمن الإقليمي في القرن الإفريقي.
من هذا المنطلق، لم تجد مصر في المبررات الإثيوبية سوى محاولة جديدة لابتزاز جغرافي-سياسي، فاختارت أن تتعامل مع الملف بمنطق الردع المبكر لا الانتظار السلبي. ففقدان الثقة بين الجانبين وصل إلى مستويات غير مسبوقة، نتيجة أكثر من أربعة عشر عامًا من المماطلة الإثيوبية في مفاوضات سد النهضة، ما جعل القاهرة تميل إلى رؤية أي تحرك إثيوبي في الإقليم كتهديد محتمل لأمنها القومي.
وبعيدًا عن عبارات المجاملة الدبلوماسية التي تُخفي أكثر مما تُظهر، فإن الصراع بين القاهرة وأديس أبابا يحمل في جوهره تنافسًا على الزعامة الإفريقية. فمصر، بما تمتلكه من ثقل تاريخي وثقافي وسياسي، ترى في نفسها القاطرة الطبيعية للقارة، بينما تعتبر إثيوبيا – التي تستضيف مقر الاتحاد الإفريقي – أن هذه الريادة حق مكتسب بحكم موقعها ومؤسساتها الإقليمية.
وبين “الحق التاريخي” الذي تستند إليه القاهرة و”الحق الجغرافي” الذي تتمسك به أديس أبابا، تبدو العلاقات بين البلدين وكأنها تسير على خيط رفيع من التوازن الهش، حيث تمتزج الحسابات القومية بالمصالح الاستراتيجية في معادلة لا تحتمل الخطأ.
سد النهضة.. البوصلة الرئيسية
لا يمكن فصل الموقف المصري من المساعي الإثيوبية للحصول على منفذ على البحر الأحمر عن ملف سد النهضة، الذي ما زال يمثل جرحًا مفتوحًا في الذاكرة السياسية المصرية، فقد نجحت أديس أبابا، بعد سنوات من المماطلة والتعنت الدبلوماسي، في فرض أمرٍ واقعٍ على القاهرة، تُوّج بافتتاح السد رسميًا في سبتمبر/أيلول الماضي، في خطوة اعتُبرت داخل مصر هزيمة سياسية واستراتيجية كشفت حدود النفوذ المصري في القارة الإفريقية.
هذه الضربة المعنوية، وما تبعها من حرج سياسي وشعبي داخل مصر، جعلت القاهرة أكثر حساسية تجاه أي تحركات إثيوبية جديدة في الإقليم، خصوصًا في منطقة القرن الإفريقي التي تحولت إلى ساحة تنافس دولي وإقليمي تمس مباشرة الأمن القومي المصري.
وتزداد المخاوف المصرية حدةً مع تداول أنباء عن مساعٍ إسرائيلية لإقامة قاعدة عسكرية في الصومال، الأمر الذي يعزز القناعة في القاهرة بأن القرن الإفريقي لم يعد مجرد فضاء جغرافي بعيد، بل جبهة استراتيجية متقدمة تتقاطع فيها مصالح القوى الإقليمية والدولية.
في ضوء ذلك، بات الإرث المتراكم من الاحتقان المصري تجاه إثيوبيا وحكومتها دافعًا رئيسيًا وراء تشدد القاهرة إزاء أي خطوة إثيوبية في الإقليم، حتى وإن لم تمثل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، فحالة انعدام الثقة المتصاعدة بين البلدين جعلت من الصعب على أي طرف قراءة تحركات الآخر بحسن نية، لتتحول العلاقة إلى معادلة قائمة على الشك والحذر الدائمين، حيث تُفسَّر كل مبادرة إثيوبية على أنها مناورة استراتيجية تستهدف النفوذ المصري في إفريقيا، وتُقابل بالتالي بردود فعل حذرة وسريعة من القاهرة.
حسابات التورط والاحتواء
تُدرك القاهرة تمامًا أن مهمتها في منع إثيوبيا من امتلاك منفذ على البحر الأحمر ليست باليسيرة، خاصة في ظل ما يُثار حول دعم غربي متزايد لتأهيل أديس أبابا كي تصبح القوة الإقليمية الأبرز في القرن الإفريقي، عبر خطط لتطوير أسطولها البحري بمساعدة فرنسية وألمانية.
أمام هذا الواقع، تجد مصر نفسها مضطرة إلى اتباع نهج دبلوماسي متزن وحسابات دقيقة تستند إلى قراءة معمقة لمآلات الصراع الإقليمي، لتجنب أي خطوات متسرعة قد تجرّ المنطقة إلى مواجهات غير محسوبة.
وفي هذا الإطار، تستبعد مصر الخيار العسكري المباشر في التعاطي مع الملف، رغم ما يُطرح من سيناريوهات حول إمكانية إبرام اتفاق دفاع مشترك مع أسمرة. فمثل هذه الخطوة، على الرغم من رمزيتها السياسية، قد تُثقل كاهل الدولة المصرية بأعباء عسكرية واقتصادية إضافية، وتُلزمها بتقديم دعم أمني واسع لإريتريا في وقتٍ تواجه فيه مصر تحديات مالية واقتصادية متراكمة، كما أن الانخراط العسكري المباشر سيؤدي حتمًا إلى تعقيد العلاقة المتوترة أصلًا مع إثيوبيا، وربما إلى توسيع نطاق الصراع ليشمل أطرافًا إقليمية أخرى.
على الجانب الآخر، تُدرك القاهرة أن استمرار حالة التوتر بين أديس أبابا وأسمرة قد يحمل انعكاسات أمنية خطيرة على حدودها الجنوبية، خصوصًا في ظل هشاشة الأوضاع في السودان، فاندلاع صراع مفتوح في القرن الإفريقي قد يُعيد رسم خريطة النفوذ على نحوٍ يهدد الاستقرار الحدودي المصري السوداني، ويفتح المجال أمام قوى خارجية لاستغلال الفوضى وتعزيز نفوذها في المنطقة، بما يتعارض مع المصالح المصرية في البحر الأحمر والقرن الإفريقي.
ما الخيارات؟
انطلاقًا من هذه المعطيات، تميل القاهرة إلى تفعيل أدواتها الدبلوماسية والجيوسياسية كخيار رئيسي لإدارة الأزمة، فهي تعمل على استخدام علاقاتها الإقليمية مع الدول المحيطة بإثيوبيا – وعلى رأسها إريتريا والصومال – لتحجيم طموحات آبي أحمد، وهي مقاربة أثبتت فعاليتها حتى الآن في منع أديس أبابا من التمدد غربًا أو شمالًا.
وفي ذات المسار تراهن مصر على تعزيز التنسيق مع الشركاء الدوليين، ولا سيما مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى جانب توسيع حضورها في المؤسسات القارية الإفريقية من أجل تأمين دعم سياسي أوسع لموقفها.
أما على الصعيد العملي، فترى القاهرة ضرورة تعزيز وجودها الاستراتيجي في منطقة القرن الإفريقي عبر توسيع التعاون العسكري والاستخباراتي مع إريتريا، لضمان رصد أدق للتحركات الإقليمية التي قد تمس أمن البحر الأحمر، ويهدف هذا التوجه إلى تحصين المصالح القومية المصرية في محيطها الحيوي، وتأكيد حضورها كفاعل رئيسي في معادلات الأمن الإقليمي.
وفي المدى الأوسع، تضع الدولة المصرية في حسبانها تشكيل تحالف إقليمي يضم الدول المعنية باستقرار القرن الإفريقي، بهدف مواجهة التمدد الإثيوبي وتنسيق المواقف في مواجهة التهديدات المشتركة، ومثل هذا التحالف يمكن أن يعزز القوة التفاوضية الجماعية للدول المطلة على البحر الأحمر، ويمنح القاهرة غطاءً سياسيًا قويًا في المحافل الدولية.
وأخيرًا، تنظر القاهرة إلى التصعيد الأخير بين أديس أبابا وأسمرة كفرصة دبلوماسية لتسليط الضوء على الطبيعة المزعزعة للسياسات الإثيوبية، سواء في ما يتعلق بمحاولاتها الوصول إلى البحر الأحمر أو إدارتها لملف سد النهضة.
فإعادة طرح هذه الملفات في السياق الإقليمي الراهن قد تُمكّن مصر من تعزيز التعاطف الدولي مع موقفها، وفرض ضغوط متزايدة على إثيوبيا للالتزام بالاتفاقيات الدولية المنظمة لتقاسم مياه النيل، بما يضمن حماية الأمن المائي والمصالح الاستراتيجية المصرية.
في ختام هذا المشهد المرتبك، تبدو معركة البحر الأحمر بين القاهرة وأديس أبابا أكثر تعقيدًا من مجرد تنافس جغرافي على منفذ بحري، فهي في جوهرها اختبار جديد لموازين القوى في القارة الإفريقية، ولقدرة مصر على استعادة زمام المبادرة في مواجهة تمدد النفوذ الإثيوبي المتصاعد.
فإثيوبيا، التي نجحت في فرض إرادتها – حتى الآن- في ملف سد النهضة رغم المعارضة المصرية، تسعى اليوم إلى ترجمة ثقلها السياسي والسكاني إلى نفوذ بحري واستراتيجي، وفي المقابل تدرك القاهرة أن السماح بحدوث ذلك يعني ترسيخ واقع جديد يقلص من دورها التاريخي كحارس لممرات البحر الأحمر وبواباته الجنوبية.
من هنا تجد مصر نفسها مطالبة بتفعيل أدوات الردع الدبلوماسي، وتوسيع شبكة تحالفاتها الإقليمية، وتكثيف حضورها في القرن الإفريقي، في معركة عنوانها “الاحتواء لا المواجهة”، لكنها لا تقل في جوهرها أهمية عن معركة السد التي لم تُغلق فصولها بعد.
ورغم ما تبديه القاهرة من حذرٍ محسوب في التعامل مع الطموح الإثيوبي الجديد، فإن واقع الجغرافيا وميراث التاريخ يجعلانها أمام اختبار بالغ الصعوبة، فالمعادلة الراهنة تتجاوز الحسابات الثنائية بين البلدين لتطال أمن البحر الأحمر وتوازنات النفوذ الإقليمي في إفريقيا والشرق الأوسط على السواء.
ومع تصاعد الضغوط الدولية وتداخل المصالح الإقليمية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل تنجح القاهرة في إدارة هذه المعركة المعقدة دون الانزلاق إلى صدام جديد مع أديس أبابا؟ أم أن المنطقة مقبلة على فصل آخر من فصول التوتر الذي سيعيد تشكيل خريطة القوة في القرن الإفريقي من جديد؟
