ترجمة وتحرير: نون بوست
في وقتٍ من الأوقات، كان الدفاع عن حقوق الفلسطينيين وانتقاد إسرائيل كفيلًا بجعل السياسي الأمريكي غير قابل للانتخاب تقريبًا؛ لكن الفوز الحاسم الذي حققه زهران ممداني الأسبوع الماضي أثبت أن هذا لم يعد صحيحًا؛ حيث فاز ممداني في انتخابات رئاسة بلدية نيويورك، المدينة التي تضم أكبر عدد من السكان اليهود خارج تل أبيب، وذلك برغم موقفه المتشدد تجاه إسرائيل؛ حيث تحدى حقها في تعريف نفسها كدولة يهودية، واتهمها بارتكاب إبادة جماعية في غزة، ووعد باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إذا زار نيويورك بصفته مجرم حربٍ تحت الاتهام.
وقالت بيث ميلر، المديرة السياسية لمنظمة ”صوت اليهود من أجل السلام“، وهي جماعة مؤيدة للفلسطينيين، إن منظمتها حشدت آلاف اليهود في جميع أنحاء المدينة للتطوع لصالح مامداني، مضيفة: ”لم يشارك هؤلاء الناخبون على الرغم من أنه أدرج حقوق الفلسطينيين في برنامجه التقدمي، بل بسبب ذلك“.
إن هذا التصدع في كتلة الدعم التقليدية لإسرائيل داخل السياسة الأمريكية يتجاوز مدينة نيويورك، ويظهر بشكل خاص بين صفوف الديمقراطيين؛ فقد قال فرانك لوينشتاين، المبعوث الأمريكي السابق للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية: “الحديث الصريح عن إسرائيل أصبح أكثر قبولًا داخل الحزب الديمقراطي مما كان عليه في أي وقت مضى”، متابعًا:”الاستطلاعات تُظهر أن ممداني يُجسّد التوجه الذي وصل إليه الحزب”، حيث إن “مواقفه تتماشى مع الاتجاه العام للحزب بعد حرب غزة”.
ووفق استطلاع أجرته مؤسسة غالوب في وقت سابق من هذا العام، فإن 59 بالمئة من الديمقراطيين أعربوا عن تعاطفهم مع الفلسطينيين، مقابل 21 بالمئة فقط تعاطفوا مع الإسرائيليين؛ بينما في عام 2001؛ قال أكثر من 50 بالمئة من المستطلَعة آراؤهم إن تعاطفهم كان مع الإسرائيليين، مقابل 16 بالمئة فقط تعاطفوا مع الفلسطينيين.

وكشف استطلاع للرأي أجرته صحيفة “واشنطن بوست” الشهر الماضي أن 32 بالمئة من الأمريكيين اليهود يرون أن الولايات المتحدة تُظهر دعمًا مفرطًا لإسرائيل، مقارنة بـ11 بالمئة فقط قبل أكثر من عقد.
وقال تشي أوسي، عضو مجلس مدينة نيويورك عن الحزب الديمقراطي وأحد أبرز مؤيدي زهران ممداني: “تُظهر استطلاعات الرأي أن 77 بالمئة من الديمقراطيين يعتبرون ما حدث في غزة إبادة جماعية، ويؤمنون بضرورة محاسبة إسرائيل”، وأضاف أن انتقاد إسرائيل “قد يكون قضية خلافية بالنسبة للمؤسسة السياسية، لكنه ليس كذلك بالنسبة للشعب”.
ولدى الجمهوريين؛ تظهر اتجاهات مشابهة أيضًا رغم أن قيادة الحزب لا تزال تُظهر دعمًا علنيًا لحكومة نتنياهو؛ فقد كشف استطلاع حديث أجرته جامعة كوينيبياك أن نسبة التعاطف مع الإسرائيليين بين الجمهوريين الذين يُعرّفون أنفسهم كذلك انخفضت من 78 بالمئة في مايو/أيار 2024 إلى 64 بالمئة في يونيو/حزيران من العام الجاري.
وتمثل هذه الاستطلاعات تحولًا جذريًا عن الوقت الذي كان فيه الدعم المطلق لإسرائيل، باعتبارها الحليف الإستراتيجي الأبرز للولايات المتحدة في الشرق الأوسط؛ ركيزة أساسية في السياسة الخارجية لكل من الجمهوريين والديمقراطيين.
وبالرغم من أن الحزبين لا يزالان يؤكدان التزامهما بأمن إسرائيل واستمرار المساعدات الأمريكية لها، وهي بند ثابت في الموازنات الأمريكية منذ عقود؛ غير أنه في السنوات الأخيرة، تغيّر خطاب العلاقة بين البلدين، وجيل الشباب، على وجه الخصوص، بدأ يشكك في موقف واشنطن. ووفقًا لاستطلاع أجرته مؤسسة “بيو”، قال 42 بالمئة من الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا إن الولايات المتحدة تقدم مساعدات عسكرية مفرطة لإسرائيل، مقارنة بـ24 بالمئة فقط في الفئة العمرية التي تتجاوز 65 عامًا.
وقال جيريمي بن-آمي، رئيس منظمة “جي ستريت” الليبرالية المؤيدة لإسرائيل والداعية للسلام: “من السهل نسبيًا على السياسي الأمريكي، سواء من اليمين أو اليسار، أن يعلن: ‘لا أعتقد أن ما تفعله حكومة نتنياهو، وما فعلته خلال العامين الماضيين، يتماشى مع قيم ومصالح الولايات المتحدة'”.
وقد حظيت إسرائيل بموجة تعاطف واسعة من مختلف الأطياف السياسية الأمريكية عقب هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والذي أسفر – بحسب السلطات الإسرائيلية – عن مقتل 1,200 شخص وأسر نحو 250 آخرين؛ غير أن هذا الدعم الشعبي تراجع بشكل كبير خلال مجريات الصراع الذي أودى بحياة أكثر من 60,000 فلسطيني – وفقًا لوزارة الصحة في غزة – وتسبب في أزمة إنسانية هائلة.
ويشعر الكثير من الأمريكيين الديمقراطيين أن قيادة حزبهم لم تعكس الغضب المتزايد إزاء هذا الثمن البشري، خاصة بين الناخبين الشباب؛ حيث قال عابد أيوب، المدير التنفيذي للجنة الأمريكية العربية لمناهضة التمييز، إن ممداني “يمثل القاعدة الشعبية بشكل أفضل بكثير من تشاك شومر (عضو مجلس الشيوخ عن نيويورك) أو حكيم جيفيريز (زعيم الديمقراطيين في الكونغرس)”، معتبرًا أن الحزب الديمقراطي “بذل كل ما في وسعه لإسكات الأصوات التي تعبر عن المنطق والقلق، والنتيجة كانت ما شهدناه في الانتخابات الأخيرة”.
ويبدو أن ثمّة تغيّر بدأ يُلاحظ في أروقة الكونغرس؛ إذ يدعم الآن نحو 34 نائبًا ديمقراطيًا في مجلس النواب مشروع قانون “حظر القنابل” الذي طُرح العام الماضي، والذي يهدف إلى تقييد أو وقف نقل الأسلحة الأمريكية إلى إسرائيل.
وفي يوليو/تموز؛ صوّت غالبية أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين، وللمرة الأولى، لصالح واحد على الأقل من مشروعين قدّمهما السيناتور التقدمي بيرني ساندرز من ولاية فيرمونت، كانا سيمنعان بيع البنادق الهجومية والقنابل لإسرائيل.
وفي إشارة أخرى على توتر العلاقات؛ أعلن النائب الديمقراطي سيث مولتون من ولاية ماساتشوستس الشهر الماضي أنه أعاد التبرعات التي تلقاها من لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (آيباك)، وهي جماعة ضغط مؤيدة لإسرائيل، وأنه سيرفض أي مساهمات مستقبلية منها.
وأيضا بدأت عدة شخصيات بارزة في الحزب بتعديل خطابهم تجاه إسرائيل؛ فقد تعرّض بيت بوتيجيج، وزير النقل السابق في إدارة جو بايدن، لانتقادات لاذعة بعد أن صرّح في بودكاست شهير بأن الولايات المتحدة يجب أن تكون “أقوى حليف وصديق لإسرائيل”، وتجنّب الإجابة بشكل مباشر عندما سُئل عمّا إذا كان يدعم وقف مبيعات الأسلحة بسبب سلوك إسرائيل في غزة.
بعد أيام قليلة، وفي مقابلة مع موقع “بوليتيكو“، اتخذ زهران ممداني موقفًا صارمًا، معلنًا أن الولايات المتحدة يجب ألا تُبرم اتفاقًا جديدًا لمدة عشر سنوات مع إسرائيل بشأن المساعدات العسكرية الخارجية.
وبالنسبة لجيريمي بن-آمي، رئيس منظمة “جي ستريت”، فإن مثل هذه المواقف باتت تمثل “مركز الثقل” في السياسة الأمريكية؛ حيث قال إن أعضاء الكونغرس باتوا “يوقّعون على قرارات ورسائل متتالية تنتقد بشدة الحرب في غزة وما يجري في الضفة الغربية”، مع استمرارهم في “تلقي دعم قوي من المجتمع اليهودي ومن ناخبيهم ومموليهم”.
وبالرغم من ذلك؛ لا تزال بعض المنظمات اليهودية تُبدي قلقًا من أن الهجمات السياسية على إسرائيل من قبل بعض السياسيين في الحزبين قد تنطوي على معاداة للسامية، وترى أن فوز ممداني في الانتخابات يجب أن يدفع إلى مزيد من اليقظة.
وقال جوناثان غرينبلات، الرئيس التنفيذي لرابطة مكافحة التشهير، إن منظمته ستطلق مبادرة “مراقبة ممداني” بهدف “متابعة سياسات وتعيينات الإدارة الجديدة لرئيس البلدية المنتخب”، وأضاف في حديثه لإذاعة “إن بي آر” بعد الانتخابات: “ما يقلقني هو أنه عندما يغضب الناس من تصرفات دولة إسرائيل، يظنون فجأة أنه من المقبول الاعتداء على اليهود”.
المصدر: فايننشيال تايمز