يشهد العالم اندفاعًا غير مسبوق نحو الاستثمار في الذكاء الاصطناعي، الذي أصبح في فترة وجيزة القوة المحركة للأسواق المالية العالمية، بل حتى مصدرًا رئيسيًا للنمو الاقتصادي في الولايات المتحدة والعالم.
لكن خلف هذا النمو السريع، تتصاعد تساؤلات عديدة حول ما إذا كان هذا الصعود تدفعه الأرباح والتدفقات النقدية أم مجرد التطلعات والحماس لمستقبل مختلف لم تتضح معالمه بعد.
بالإضافة إلى آلية تمويل هذا القطاع الجديد، والذي يُخفي ديناميكية مالية معقدة نوعًا ما تعتمد على الاقتراض والتمويل المهيكل، وهذا ما جعل المشهد غير واضح فيما إذا كان تحولًا اقتصاديًا حقيقيًا أم أنه فقاعة مالية جديدة على غرار ما عرفه العالم خلال فقاعتي الدوت كوم عام 2000 والأزمة المالية عام 2008.
في هذا التقرير، نقدم قراءة تحليلية من منظور اقتصادي وتمويلي، ترتكز على مجموعة من التقارير وآراء كبار المحللين والاقتصاديين والمستثمرين.
الذكاء الاصطناعي.. محرك النمو الاقتصادي في أمريكا
في غضون ثلاث سنوات فقط، تحول الذكاء الاصطناعي من مشروع تقني ناشئ في مختبرات الأبحاث إلى أحد الركائز الأساسية في النمو الاقتصادي العالمي.
فوفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي (IMF)، شكلت الاستثمارات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي نحو 0.4% من إجمالي الناتج المحلي الأمريكي، وقد تبدو نسبة محدودة ظاهريًا، لكنها في الحقيقة كانت مسؤولة عن نحو 92% من نمو الناتج في النصف الأول من هذا العام حسب تصريح من Jason Furman أُورد في تحليل بمجلة Financial Times.
تُظهر هذه النسبة أن القطاعات الإنتاجية التقليدية لم تعد المحرك الأساسي لأكبر اقتصاد في العالم، بل أصبحت الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي تساهم في الجزء الأكبر من النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة هذا العام.
ويُقدر UBS، وهو من أكبر بنوك الاستثمار في العالم، حجم الإنفاق على الذكاء الاصطناعي بـ 375 مليار دولار في عام 2025، متوقعًا وصوله إلى 500 مليار دولار في عام 2026، أي أنه قد يحقق نموًا يتجاوز 30% خلال عام واحد، معظمها موجه لتطوير البنية التحتية ومراكز البيانات الرقمية.
لكن ما سر هذا النمو المذهل؟ ومن وراء تمويل هذه الاستثمارات الضخمة؟
في تقرير لرويترز، أظهرت البيانات أن “السبعة الكبار”، — Microsoft، Apple، Amazon، Meta، Alphabet، Tesla، وNvidia — أصبحت تُشكل نحو 36% من القيمة السوقية لمؤشر S&P 500، محققةً صعودًا يفوق الضعف خلال العامين الماضيين.
وتأتي موجة الارتفاعات الكبيرة في أسعار أسهم “السبعة الكبار” بعد ضخها استثمارات ضخمة في شركات الذكاء الاصطناعي، حيث استثمرت Microsoft أكثر من 13 مليار دولار في شركة OpenAI، والتي يعد ChatGPT من أشهر منتجاتها، وقامت Amazon بضخ 4 مليار دولار في شركة Anthropic AI التي تنافس نظيرتها OpenAI في نموذج المحادثة الذكي Claude، في حين تمول Google وMeta نماذجهما الخاصة ببناء مراكز بيانات بتكاليف ضخمة.
كما يُشير تقرير Forbes إلى ظاهرة مثيرة تُعرف باسم «التمويل الدائري» أو (The Circular Financing)، حيث تقوم الشركات وعلى رأسها NVIDIA، والتي وصلت قيمتها السوقية نحو 5 تريليون دولار مرتفعةً بأكثر من ثلاثة أضعاف مقارنة بما كانت عليه منذ مطلع عام 2024، بتمويل عملائها في شركات الذكاء الاصطناعي، وذلك ليستخدموا هذه الأموال في شراء منتجاتها نفسها كمعالجات الرسوميات والأنظمة الحاسوبية المتطورة.
فعلى سبيل المثال، أعلنت NVIDIA عن استثمار يصل إلى نحو 100 مليار دولار في OpenAI في سبتمبر/أيلول 2025، لتمويل مشترياتها من المعالجات.
ويذكر التقرير أن هذا النوع من التمويل يعيد إلى الأذهان بعض ممارسات “التمويل الذاتي” التي سبقت حدوث فقاعة الإنترنت عام 2000، وهذا ما يثير تساؤلات جدية حول مدى استدامة النمو السريع في الذكاء الاصطناعي، ولا سيما إذا تراجع الطلب أو تعثرت الشركات الممولة.
كذلك، شاركت في هذا التمويل صناديق استثمارية كبرى مثل صندوق الاتحاد السويسري SoftBank Vision Fund وصندوق الاستثمارات العامة السعودي، وهو من أكبر الصناديق السيادية في العالم، حيث تضخ هذه الصناديق مليارات الدولارات في هذا القطاع، ساعيةً لتثبيت موقعها في الاقتصاد الرقمي العالمي.
75 مليار دولار ديون في شهرين فقط.. التمويل يسبق الأرباح
بحسب تقرير لرويترز، كشف بنك أوف أمريكا (BofA) أن شركات التكنولوجيا الكبرى المرتبطة بالذكاء الاصطناعي أصدرت 75 مليار دولار من الديون الاستثمارية خلال شهري سبتمبر وأكتوبر 2025 فقط، وهو رقم يعادل أكثر من ضعف متوسط الإصدارات السنوية خلال العقد الماضي بأكمله والذي بلغ نحو 32 مليار دولار.
وتتوزع تلك الديون كما يلي:
- شركة Meta اقترضت نحو 30 مليار دولار لتمويل مشاريع مراكز بياناتها.
- شركة Oracle أصدرت سندات بقيمة 18 مليار دولار، بهدف توسيع خدماتها السحابية.
- شركة Alphabet أعلنت أيضًا عن قرض عالي الجودة بقيمة 38 مليار دولار لصالح مراكز بيانات Oracle، حسب بلومبرغ.
وبذلك أصبحت الشركات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي تُشكّل نحو 14% من مؤشر الديون الاستثمارية الخاص ببنك جي بي مورغان (JP Morgan)، متجاوزةً البنوك الأمريكية لتكون القطاع المهيمن ضمن هذا المؤشر.
وكان Morgan Stanley قد أكد أن بناء مراكز البيانات حتى 2028 سيحتاج إلى نحو 1.5 تريليون دولار، وسيتم تمويل نصفها عبر الديون.
لكن المشهد لم يتوقف عند حدود الديون فحسب!
عودة “سندات الخردة” عالية المخاطر
لم يقتصر الأمر على الديون الاستثمارية الآمنة في تمويل قطاع الذكاء الاصطناعي، فقد عادت أيضًا سندات الخردة (Junk Bonds) إلى المشهد، والتي ترتبط عادةً بمخاطر عالية.
ففي النصف الثاني من عام 2025، أصدرت شركة CoreWeave، المتخصصة في تشغيل البنية التحتية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي مدعومة من Nvidia، – التي تملك فيها حصة استثمارية كبيرة – سندات بقيمة 2 مليار دولار.
بينما طرحت شركة TeraWulf، التي تحولت من تعدين العملات المشفرة إلى تشغيل مراكز بيانات مخصصة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، سندات بقيمة 3.2 مليار دولار بتصنيف -BB من وكالة S&P Global.
على الرغم أن هذا النوع من التمويل يوفر عوائد مرتفعة، إلا أنه يؤدي أيضًا إلى زيادة شهية السوق للمخاطر ويدفع المستثمرين إلى التوسع في مجالات غير مضمونة العوائد.
ومع ذلك، يبدو أن كل هذه القنوات التمويلية لم تكن كافية وحدها، إذ دخل الائتمان الخاص (Private Credit) أيضًا بقوة إلى ساحة تمويل الذكاء الاصطناعي، وهي قروض تقدمها مؤسسات استثمارية وصناديق كبرى بعيدة عن الرقابة المصرفية التقليدية.
يُشير Morgan Stanley إلى أن سوق الائتمان الخاص هذه يمكن أن تُمول نحو 800 مليار دولار من مشروعات البيانات حتى عام 2028، أي بنحو أكثر من نصف الاحتياج الكلي البالغ 1.5 تريليون دولار.
هذا التوسع الضخم والسريع في الائتمان الخاص قد يسهم في اضطرابات محتملة في الأسواق المالية، خاصةً إذا ما واجهت تلك القروض صعوبات في السداد في حال تباطؤ العائدات من مشاريع الذكاء الاصطناعي.
الذكاء الاصطناعي يربح في البورصة ويخسر في الواقع
يشهد العالم اليوم ارتفاعًا غير مسبوق في أسعار الأسهم المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، مدفوعة بالحماس أكثر من الأرباح الفعلية. لكن خلف هذه الطفرة الرقمية، تتزايد المخاوف من أن هذا الارتفاع اللافت في أسعار الأسهم لا يعكس حقيقة النتائج المالية لتلك الشركات.
يُظهر تقرير لـ Financial Times أن عشر شركات ناشئة في الذكاء الاصطناعي ارتفعت قيمتها السوقية تريليون دولار خلال عام واحد، إلا أنها لم تحقق أرباحًا تُذكر.
فشركة Oracle مثلًا، ارتفعت أسهمها منذ بداية عام 2025 نحو 45%، لكنها سجلت تدفقًا نقديًا سلبيًا بنحو 362 مليون دولار. أما شركة OpenAI، فقد قامت بتوقيع صفقات تتجاوز 1.4 تريليون دولار، إلا أنها لم تحقق سوى 13 مليار دولار من الإيرادات.
كما تصاعدت المخاوف عند المستثمرين من تخلف شركة Oracle عن خدمة ديونها مع ارتفاع سبريد الـ 5-سنوات CDS إلى نحو 80 نقطة أساس، صاعدًا من نحو 55 في بداية 2025.
وتُشير CDS (اختصار لـ Credit Default Swap) إلى أدوات مالية تُستخدم للتأمين ضد التعثر الائتماني، إذ يقوم المستثمرون بشرائها لحماية أنفسهم من احتمال تخلف الشركة عن سداد ديونها. وكلما ارتفع سعر هذه العقود، زادت تكلفة الحماية، وهذا تزايد خطر تعثر الشركة في سداد أو خدمة ديونها.
لكن كيف يقرأ الخبراء المشهد الحالي؟
تُثير طفرة الذكاء الاصطناعي وما يرتبط بها من استثمارات ضخمة نقاشًا واسعًا بين الخبراء وصناع القرار حول طبيعة هذا الارتفاع غير المسبوق ومدى استدامته.
فبينما يرى فريق من الخبراء أن ما يجري يُمثل تحولًا اقتصاديًا ثوريًا يمكن أن يقود إلى مرحلة جديدة ويؤسس لبنية اقتصادية حقيقية قد تغير ملامح الاقتصاد العالمي في المستقبل، يحذر آخرون من أن الحماس المفرط قد يُخفي وراء فقاعة استثمارية على غرار فقاعة الدوت كوم مطلع الألفية، وهي مخاوف تدعمها مؤسسات مالية دولية عدة.
فقد أشار صندوق النقد الدولي (IMF) إلى أن موجة الاستثمارات الهائلة في الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة الأمريكية قد تمثل فقاعة اقتصادية مشابهة لفقاعة الإنترنت (الدوت كوم) التي انفجرت عام 2000.
وفي الاتجاه نفسه، وصف الخبير البريطاني جوليان غاران (Julien Garran) الوضع الحالي، وهو الباحث والشريك في شركة MacroStrategy Partnership في تقرير مثير للجدل نشره مؤخرًا، بأنه “أكبر وأخطر فقاعة شهدها العالم على الإطلاق.”
وأوضح غاران في تقريره أن هناك سوء تخصيص كبير لرأس المال في الولايات المتحدة، بحيث باتت طفرة الذكاء الاصطناعي الحالية أكبر بنحو 17 مرة من فقاعة العقارات عام 2008.
ولم تتوقف التحذيرات عند هذا الحد، إذ ذهب محللو دويتشه بنك (Deutsche Bank) لأبعد من ذلك بقولهم إنّ ما يسمى فقاعة الذكاء الاصطناعي قد “انفجرت بالفعل”.
كما وصف كبير استراتيجي الاستثمار في مجموعة Carlyle، جيسون توماس، الارتفاع الهائل في سهم شركة Oracle بأنها مثال على “سوق مزدحم يلهث وراء أي فرصة ذكاء اصطناعي بغض النظر عن الأرقام الحقيقية.”
بينما خفف كبير اقتصاديي صندوق النقد الدولي (IMF)، بيير أوليفيييه غورينشاس من حدة هذا التحذير، مشيرًا إلى أن أي انفجار محتمل في هذه الفقاعة لن يكون حدثًا نظاميًا شاملًا يهزّ الاقتصاد الأمريكي أو العالمي كما حدث في الأزمة المالية عام 2008، ويرى أن تأثير أي تصحيح في قطاع الذكاء الاصطناعي على الاستقرار المالي سيكون محدودًا.
لكن في المقابل لا يشترك جميع قادة الصناعة في هذا القلق، فبينما يحذر بعض الخبراء والمؤسسات المالية من احتمال حدوث فقاعة، يرى بعض رواد التكنولوجيا الأمر بنظرة مختلفة. فقد قال مارك زوكربيرغ مؤسس Meta: “أفضل أن أنفق مئات المليارات بشكل خاطئ على الذكاء الاصطناعي، على أن أصل متأخرًا إلى الثورة.”
وفي السياق ذاته، قال سام ألتمان (Sam Altman)، مؤسس شركة OpenAI المتخصصة في الذكاء الاصطناعي: “أعرف أنه من المغري كتابة قصة عن الفقاعة. في الواقع، هناك العديد من جوانب الذكاء الاصطناعي التي أعتقد أنها تبدو فقاعية في الوقت الراهن”، لكنه شدد أيضًا على أنّ ما يجري في شركته “شيء حقيقي بالفعل”.
وبالعموم، فإنّ بعض الخبراء يتوسطون في الرأي، فهو يجدون أن هناك تسابقًا عالي المخاطر، لكنهم يرون أن هبوطًا سلسًا (Soft Landing) سيُصحح المسار دون انهيار شامل.
وبين هذه الرؤى تتواصل حالة الترقب، إذ يبقى المشهد مفتوحًا على كل الاحتمالات.