سمح الاستخدام الجماعي لموقع “ديسكورد” من قِبل شباب حراك “جيل زي” في المغرب ببلورة تصوّرات جديدة للفضاء العمومي، أنتجت مساحات رقمية بديلة يتفاعل فيها السياسي والثقافي مع التواصلي، إذ تحوّلت غرفة “جيل زد 212″، التي بلغ عدد المنتسبين إليها حتى 16 أكتوبر نحو 211,505 أعضاء، إلى ساحة للنقاش والتداول الحر بين الشباب ومختلف الفاعلين الحقوقيين والسياسيين حول قضايا الإعلام، وحرية التعبير، والحريات الفردية، والديمقراطية التشاركية.
منصة ألعاب أم غُرفة تنسيق؟
يُعتبر “ديسكورد” تطبيق اتصالات مجاني يتيح مشاركة الدردشة الصوتية والمرئية والنصية مع الأصدقاء ومجتمعات الألعاب والمطورين، ويستخدمه مئات الملايين من المستخدمين، ما يجعله واحدًا من أشهر المنصّات للتواصل عبر الإنترنت.
انتقل ديسكورد من مجرد موقع للألعاب والدردشة إلى غرفة عمليات للتنسيق والحشد والتعبئة في عدد من الاحتجاجات التي شهدتها مناطق مختلفة حول العالم، حيث بدأت القصة في نيبال، في الرابع من سبتمبر/أيلول الماضي، حين قررت الحكومة النيبالية حجب 26 منصة تواصل اجتماعي، من بينها فيسبوك ويوتيوب وإكس وواتساب، بحجة مخالفة قواعد التسجيل وضبط المحتوى، والحدّ من الحسابات الوهمية وخطاب الكراهية والاحتيال، لكن القرار بدا لمعظم النيباليين محاولة للإسكات وتقييد حرية التعبير.
وبينما كانت الشوارع تشهد العنف والقمع، استخدم شباب “جيل زد” (أي الجيل الذي وُلد بين أواخر تسعينيات القرن الماضي وبداية العقد الثاني من الألفية الجديدة) الإنترنت والتقنيات الحديثة لتنظيم احتجاجاتهم السياسية عبر منصات رقمية، ففتحوا سيرفرًا على تطبيق ديسكورد لمناقشة شؤون الحكومة، وأنشأوا برلمانًا افتراضيًا وأجروا تصويتًا، لتُختار كاركي رئيسة وزراء مؤقتة بعد إسقاط النظام السابق. كما شهدت البيرو أيضًا يوم 20 سبتمبر/أيلول 2025 احتجاجات واسعة بقيادة جيل زد عقب إصلاحات في نظام التقاعد، وجاءت هذه الاحتجاجات نتيجة غضب متراكم ضد الرئيسة دينا بولوارتي والبرلمان.
ووصلت شرارة الاحتجاجات الشبابية إلى المغرب في 27 من سبتمبر/أيلول الماضي، إذ شكّلت حادثة وفاة ثماني نساء أثناء الولادة في مستشفى الحسن الثاني بمدينة أكادير نقطة تحوّل مفصلية فجّرت، إلى جانب حوادث أخرى، الغضب الشعبي بين الشباب، وأعادت المطالب المتعلقة بتحسين الخدمات الصحية إلى الواجهة من جديد.
شكّلت منصة “ديسكورد” الحاضن الأساس لهذه الاحتجاجات، إذ استخدمها الشباب المحتج للتواصل والتنسيق بين مختلف المدن حول مواعيد وأماكن المظاهرات، إذ يتيح “ديسكورد” لمستخدميه مرونة كبيرة في التواصل، لكونه متحررًا من رقابة وهيمنة الخوارزميات التي غالبًا ما تُسيطر على منصات أخرى، كما يمنح إحساسًا بالانتماء إلى مجموعات صغيرة على الإنترنت تُسمّى خوادم، ينضمّ إليها الفرد وفق اهتماماته وتوجهاته. واللافت هنا أننا أمام جيل احتجاجي رقمي مختلف عن جيل “الربيع العربي”، الذي اعتمد بشكل أساسي على “فيسبوك” وإكس في التعبئة والتنظيم.
وقد قرر “جيل زد” الابتعاد عن المنصات الرقمية المفتوحة والواسعة التي نجحت الدولة في بسط رقابتها عليها، واتجه نحو منصة رقمية أكثر انغلاقًا وتوفيرًا للخصوصية، وتُظهر هذه النقلة خصوصية الاحتجاج الرقمي لهذا الجيل، الذي ينتقل من الفضاء الرقمي العام والمفتوح إلى منصات ذات ولوج محدود، مثل “ديسكورد”.
وفي المغرب، تحول “ديسكورد” إلى منبر للتداول والتفاعل بين المحتجين، حيث أطلقت الحركة سلسلة حلقات “بودكاست” للنقاش العمومي والحقوقي حول مجموعة من القضايا التي يشهدها البلد. وقد استثمر شباب “جيل زد” خاصية الدردشة الصوتية، كإحدى أهم الأدوات التفاعلية التي يتيحها “ديسكورد”، في إيصال الأصوات المعارضة التي أُسكتت لسنوات.
سرديات مُضادة
لقد شكّل “بودكاست” حركة “جيل زد” منصة إعلامية رقمية مضادة تُنتج معرفة مقاومة للسرديات الرسمية للدولة، باستقطابه مجموعة واسعة من الصحفيين والحقوقيين الذين لا تتاح لهم عادة فرصة التعبير عن آرائهم في المنابر الإعلامية التقليدية، ومنحهم إمكانية إيصال مواقفهم ووجهات نظرهم إلى شريحة واسعة من الشباب. وقد أسهمت منصة “ديسكورد” في جعل النقاش العمومي مفتوحًا أمام أفكار جديدة ومشاهد مختلفة ومقاربات مغايرة، ما أضفى تعددية على المشهدين السياسي والإعلامي في المغرب، وأعاد تشكيل فضاء النقاش العام وجعله تحت تأثير الشباب.
يُعد “بودكاست” الحركة حلقة وصل بين الفكر النقدي والفعل الجماعي، إذ إن الوجوه المُشاركة فيه تُعتبر من الأصوات الخارجة عن الإجماع بالمغرب، التي تتبنى مواقف معارضة للسلطة السياسية، مثل عمر بلافريج، النائب البرلماني السابق عن فدرالية اليسار الديمقراطي، والناشط السياسي عمر الراضي، والصحفي والمعتقل السابق توفيق بوعشرين، والخبير الاقتصادي نجيب أقصبي، والصحفي والناشط الحقوقي أحمد بنشمسي، وغيرهم. ويعكس هذا التنوع في “البروفايلات” التي تستضيفها الحركة الرؤية التعددية التي يسعى الشباب المحتج إلى إضفائها على الخطاب العام الذي يُنتجه، وهو خطاب يرفض الأطر الأيديولوجية الضيقة.
كما تتيح المنصة للشباب التفاعل مع الضيوف والانخراط في الحوارات، ما يعكس ديمقراطية النقاش التي يوفرها الفضاء الرقمي، حيث تنتقل التفاعلات الاجتماعية من تفاعلات رأسية تراتبية إلى أخرى أفقية، فالمتفاعلون في فضاء الشبكات الاجتماعية لا يتلقون تعليمات أو توجيهات من أحد، ولا يخضعون لرقابة مباشرة من أي جهة، بل يمارسون حريتهم في التعبير عن أنفسهم بالكامل، كما هو الحال في خادم “جيل زي” على ديسكورد.
ويمكن القول إن الضيوف المشاركين في البودكاست يُجسّدون مفهوم “المثقف الرقمي” المنتج للمعرفة النقدية البديلة خارج مؤسسات الدولة التقليدية. ويتخذ هذا المثقف في المغرب أشكالًا متعددة، مثل أستاذ جامعي، مقاول، صحافي، أو حتى عاطل عن العمل ومهمّش من قبل الدولة. وهو مثقف يبتعد غالبًا عن دوائر السلطة والأحزاب والمنظمات، ويعمل على تأسيس سرديات بديلة حول القضايا العامة وتمريرها عبر المنصات الرقمية، فبعد أن كان المثقف محصورًا داخل المؤسسات الأكاديمية أو السياسية أو الإعلامية، جاءت منصات التواصل الاجتماعي لتُحدث ثورة في مفهوم المثقف وأدواره؛ فلم يعد المثقف حامل الشهادات والكتب وحده هو من ينخرط في النقاش العمومي ويحلل القضايا السياسية والاجتماعية.
إذ برز فاعلون اجتماعيون جدد لا يتلقون تعليمات أو توجيهات من أحد، ولا يخضعون لرقابة مباشرة من أي جهة، ويمارسون حريتهم في التعبير عن أفكارهم ومواقفهم، مستفيدين من الأدوات الرقمية التي تتيحها المنصات التواصلية، فقد وفر لهم الفضاء الرقمي منصة للتعبير عن آرائهم، بعدما كان المثقفون في السابق يحتاجون إلى درجة علمية أو مكانة معيّنة للكتابة في الصحف والمجلات، بينما يحتاجون اليوم فقط إلى هاتف ذكي أو حاسوب للمساهمة في النقاش عبر المنصات والشبكات. كما وفر لهم هذا الفضاء شبكة واسعة من المستخدمين الذين يمضون وقتًا طويلًا على الإنترنت في القراءة والكتابة والمناقشة.
وتُشكّل غرفة “حركة جيل زد” على “ديسكورد” اليوم فضاء يستعيد فيه المثقف الرقمي سلطة الكلمة، بعد سنوات من الإسكات والقمع التي تراجعت فيها حرية التعبير بشكل كبير، في مقابل تزايد أحكام السجن بحق الصحفيين والنشطاء الحقوقيين. وهكذا، يكون “جيل زد” قد أعاد للشوارع والساحات، بوصفها فضاءات عمومية، صوت التظاهر والاحتجاج، كما أعاد تعريف المنصات الرقمية التواصلية باعتبارها فضاءات للمقاومة والرفض، ومساحات بديلة تنتعش بسرديات ومواقف مهمشي السلطة.