بعد أكثر من عقد من الحرب، ما زال التعليم في سوريا يحمل ندوب الدمار والنزوح، فالقصف دمّر آلاف المدارس، وحوّل كثيرًا منها إلى ملاجئ للنازحين أو أطلال مغلقة بلا مقاعد ولا كتب.
تشير تقديرات اليونيسف إلى أن أكثر من 7000 مدرسة تضررت أو دُمّرت بالكامل في أنحاء البلاد، لا سيما في حلب وإدلب ودرعا، فيما تراجع عدد المدارس العاملة بنسبةٍ تتجاوز 40%. ومع هجرة عشرات الآلاف من المعلّمين المؤهلين، ونقص الموارد والرواتب، أصبح التعليم من أكثر القطاعات هشاشة في البلاد، تاركًا مئات آلاف الأطفال خارج الفصول الدراسية.
لكن صفحة جديدة بدأت منذ التحرير، مع عودة آلاف العائلات السورية من دول اللجوء مثل تركيا ولبنان وألمانيا وبريطانيا وغيرها، ووفقًا لآخر تقرير للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن منذ 8 كانون الأول 2024 وحتى 6 تشرين الثاني 2025، أي في غضون أحد عشر شهراً فقط، عاد أكثر من 1.2 مليون سوري إلى الداخل، بينهم نحو 57% من الأطفال في سن الدراسة، لكن رغم الأمل الذي حملته هذه العودة، فإن الطريق إلى المدرسة لم يكن سهلاً؛ إذ يواجه الطلاب العائدون واقعًا تعليميًا مختلفًا تمامًا عن الذي عرفوه في سنوات لجوئهم.
فبعد أن تشكلت مهاراتهم التعليمية بلغات أجنبية، يجد الطلاب العائدون أنفسهم أمام مناهج عربية يصعب فهمها ونظام تعليمي مختلف. بالنسبة لكثير منهم، لم تعد العربية اللغة الأساسية، ويؤكد المعلمون في الداخل أن هؤلاء الطلاب يواجهون ارتباكًا واضحًا عند الانتقال من الأبجدية التي اعتادوا عليها إلى الحروف العربية، لينعكس ذلك في بطء القراءة والكتابة وضعف القدرة على التعبير الشفهي داخل الصف.
من المنافي إلى الوطن.. العائدون إلى سوريا منذ سقوط النظام المخلوع بحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. pic.twitter.com/Hwm8F4QJ4D
— نون سوريا (@NoonPostSY) November 11, 2025
الفجوة الأكاديمية: عندما تتحول اللغة إلى حاجز
لا تقتصر معاناة الطلبة العائدين على مجرد إعادة الالتحاق بالمدارس؛ بل تتجسد في فجوة أكاديمية عميقة تراكمت خلال سنوات اللجوء، حيث يجد كثير منهم أنفسهم مضطرين إلى إعادة تعلم أساسيات اللغة العربية من الصفر تقريباً. وبينما يندمج القادمون من دول عربية نسبيًا بسهولة أكثر، يواجه العائدون من الدول غير الناطقة بالعربية تحديًا مضاعفًا، إذ أدى الاعتماد على لغات أجنبية في التعليم إلى ضعف حاد في القراءة والكتابة بالعربية الفصحى، والذي تستخدم في المدارس جميعها، ما يجعل النصوص المدرسية عائقًا أمام الفهم، ويُضعف الثقة بالنفس.
في تركيا مثلًا، حيث تعتمد المدارس على الأبجدية اللاتينية واللغة التركية، يجد بعض الطلاب العائدين أنفسهم غير قادرين حتى على تمييز أحرف الهجاء العربية. وتشير عدة تقارير لSyria TV إلى أن كثيرًا منهم يُعادون إلى الصفوف الأولى رغم أعمارهم الأكبر، بسبب عدم إتقان أساسيات القراءة والكتابة.
أما القادمون من أوروبا، فقد تلقوا أيضاً تعليمهم الكامل بلغات البلد المضيف، ضمن أنظمة تربوية تُبنى فيها جميع المواد على إتقان اللغة، ففي بريطانيا مثلًا، يعتمد المنهاج الوطني على الإنجليزية في الشرح والتقييم والتعبير الكتابي، ما يجعل الانتقال إلى الدراسة بالعربية تحولًا لغويًا ومعرفيًا جذريًا، إذ تعتمد اللغة على أساسيات عكسية للغة العربية، وبهذا تصبح المفاهيم العلمية التي اعتاد الطالب صياغتها بلغة أجنبية غير مألوفة، ويضطر إلى إعادة بناء معجمه المعرفي بالكامل.
يقول سمير الأحمد من ريف دمشق، وهو أب لطفلين عاد من السويد مطلع 2025، إن هذا التحول المفاجئ يؤدي غالبًا إلى فقدان الكفاءة الأكاديمية خلال السنة الأولى، خصوصًا لدى الأطفال دون سن الخامسة عشرة. وأضاف أن ابنه عمر البالغ من العمر تسع سنوات أضاع سنة كاملة بسبب ضعفه في اللغة العربية، وهو مثال يعكس حجم الفجوة التي يواجهها آلاف الطلاب العائدين.
المناهج والتحصيل بين الداخل والخارج
لا تقتصر معاناة الطلاب العائدين على حاجز اللغة وحده؛ فالمناهج الدراسية السورية تختلف جذريًا عمّا درسوه في الخارج من حيث المنظور الثقافي والمحتوى الأيديولوجي، ما يجعل عملية الانتقال صعبة حتى على المتفوقين. ففي سوريا، يعتمد المنهج على مواد تاريخية ودينية وثقافية تُشكّل جزءًا من الهوية الوطنية والعربية، بينما تلقى الطلاب في أوروبا أو غيرها تعليمهم ضمن سياقات ثقافية ومعرفية مغايرة تمامًا، ما يجعل الانتقال إلى المنهاج السوري أشبه بالانتقال بين هويتين تربويتين مختلفتين.
هذه الفروقات لا تقتصر على سوريا وحدها، بل هي سمة عامة بين الأنظمة التعليمية المختلفة، لكنها في حالة الطلاب العائدين تتحول إلى عائق مباشر أمام الفهم والاندماج، خاصة لمن عانى انقطاعًا طويلًا عن التعليم، فالطالب الذي درس في نظام غربي اعتاد رؤية التاريخ والجغرافيا من منظور مختلف، وتشكلت لديه مفاهيم اجتماعية لا تتطابق مع تلك التي يطرحها المنهج السوري، ما يزيد شعوره بالإحباط والاغتراب داخل الصف.
ويؤكد سمير لـ”نون بوست”، أن الفروقات بين المنهاج السويدي والسوري “شاسعة ولا تكاد تلتقي في أي نقطة”. ويضيف أن ابنه يواجه صعوبة في أبسط الأمور. كمسائل الرياضيات مثلا، إذ تختلف طرق الحل والتقييم بين النظامين؛ ففي السويد تحتسب خطوات الحل والنقاط الجزئية كجزء أساسي من التقييم، حتى لو كانت النتيجة النهائية خاطئة، بينما يركز المنهج السوري على الإجابة الصحيحة. هذه الفروقات، بحسب سمير، تجعل ابنه يشعر وكأنه يبدأ من جديد رغم سنوات دراسته السابقة.
الصدمة التربوية والنفسية
لا تقف عواقب الفجوة الأكاديمية عند حدود التحصيل الدراسي، بل تمتد إلى الجانب النفسي والاجتماعي، فالطالب الذي كان متفوقًا في نظامه التعليمي السابق قد يتحول فجأة إلى متأخر في صفه الجديد، ما يزرع فيه شعورًا بالعجز والاغتراب، ويدفع كثيرين إلى الانطواء أو حتى التسرب من المدرسة.
ويؤكد سمير أن ابنه عمر يعاني اليوم من الانعزال بسبب عدم قدرته على فهم كثير من الدروس، ويشعر بأنه متأخر عن زملائه، ويضيف الأب أن ابنه لا يجد سهولة في تكوين صداقات جديدة، رغم عودته إلى بلده، لأنه يواجه بيئة مختلفة لا يشعر بالانتماء إليها.
ويوضح سمير أن سبب عودته كان في الأساس مرتبطًا بالحفاظ على هوية أطفاله السورية وتراثهم الثقافي، لكنه بات يشك في قراره، ويخشى على مستقبلهم، قائلاً: “رؤية ابني يصبح معزولًا إلى هذا الحد تؤلمني كثيرًا. كان يحب المدرسة حقًا، وكان ذكيًا ومتحمسًا”، وعند سؤاله عن الحل الذي يراه مناسبًا، قال الأب إنه يفكر حاليًا في دفع تكلفة دروس إضافية في اللغة العربية، لكنه لا يعرف ما إذا كان ذلك سيكون كافيًا.
وتشير تقارير أخرى إلى أن هذه ليست حالة فردية، إذ يعاني كثير من الطلاب العائدين من القلق الاجتماعي والخوف من التنمر، إضافة إلى الإحباط الأكاديمي الناتج عن مناهج وطرق تدريس غير مألوفة بالنسبة لهم. في العموم هذه الصدمة النفسية، بحسب خبراء، قد تكون أخطر من الفجوة التعليمية نفسها؛ لأنها تهدد بانقطاع الطلاب عن المدرسة بشكل تام.
إجراءات تصديق الشهادات
لا تقتصر المعاناة على الطلاب فحسب، بل تمتد إلى سلسلة طويلة من الإجراءات البيروقراطية التي تواجهها أسرهم عند محاولة تسجيل أبنائهم في المدارس السورية، حيث تبدأ هذه العملية بتصديق الشهادات الدراسية الصادرة عن الدول المضيفة، ثم اعتمادها من وزارات الخارجية هناك، قبل أن تُحال إلى السفارات أو القنصليات السورية لتصديقها رسميًا. وتتفاقم المشكلة في ظل الازدحام الشديد لمكاتب القنصلية، حيث يستغرق إنجاز المعاملات أيامًا بسبب صعوبة الحصول على مواعيد، إذ انتظرت بعض الأسر أكثر من شهرين لإتمام الإجراءات، فيما اضطر آخرون إلى دفع مبالغ مالية إضافية لتسريع المعاملة أو الاستعانة بوسطاء.
غير أن عقبة الأوراق ليست سوى البداية؛ إذ يواجه الطلاب بعد عودتهم امتحان تحديد المستوى المعروف محليًا باسم “السبر“، الذي تنظمه وزارة التربية السورية لتقييم مستوى الطالب القادم من الخارج وتحديد الصف الدراسي المناسب له، إذ يُختبر الطلاب عادةً في مواد أساسية مثل اللغة العربية والرياضيات والمواد الوطنية كالتاريخ والجغرافيا.
ويُنظر إلى “السبر” على أنه حاجز نفسي وتعليمي في آن واحد؛ فالكثير من الطلاب الذين درسوا سنوات طويلة بلغات أجنبية يجدون أنفسهم غير قادرين على فهم الأسئلة أو التعبير بالعربية، ما يؤدي إلى نتائج ضعيفة تُجبرهم على العودة صفّين أو ثلاثة إلى الوراء، وهذا ما حدث مع الطالب حسن الحمادي الذي تحدث لتلفزيون سوريا بعد أن أُعيد من الصف العاشر إلى الصف الثامن بسبب إخفاقه في الامتحان، وهي حالة يؤكد المعلمون أنها أصبحت شائعة بين العائدين من تركيا وأوروبا.
ويشير تقرير صادر عن مركز حرمون للدراسات إلى أن غياب سياسة موحّدة لمعادلة الشهادات الأجنبية يفتح الباب أمام الاجتهاد الشخصي في إدارات المدارس، ما يؤدي إلى تفاوت واضح في تقييم الطلبة من منطقة إلى أخرى، ففي بعض المحافظات تُقبل الشهادات مباشرة دون “سبر”، بينما يُعاد الطلاب في محافظات أخرى إلى مراحل أدنى حتى مع وجود وثائق مصدقة.
خطط الاستجابة والدعم الحكومي
حتى الآن، لم تُعلن وزارة التربية والتعليم أي سياسة واضحة بشأن الطلاب العائدين من اللجوء، ولا توجد برامج رسمية لمعالجة هذه القضية، لهذا السبب، عبّرت كثير من الأسر السورية في المملكة المتحدة لـ”نون بوست” عن مخاوفها من العودة، معتبرة أن مستقبل أبنائها التعليمي ما زال غامضًا، وهو ما يدفع العديد من العائلات إلى انتظار انتهاء تعليم أطفالهم في الخارج قبل التفكير بالعودة الدائمة. وأكدت معلمة في مدرسة خاصة بحمص لموقع عنب بلدي أن “الوزارة لم تصدر أي تعميم أو خطة لتوجيه المدارس حول كيفية التعامل مع هذه المجموعة، فقد تُرك الأمر بالكامل لتقدير المعلم”.
ومع غياب سياسة واضحة من الوزارة، تقع مسؤولية الاندماج على عاتق الأهل والمدارس والمعلمين الذين يعملون بموارد محدودة، ومع استمرار عودة اللاجئين وغياب برامج تدريبية للكوادر التربوية، تتعمّق الفجوة التعليمية، وتتحول العودة إلى المدرسة من بداية جديدة إلى عبء نفسي واجتماعي إضافي.
وبالنظر إلى هذه التحديات، فإن على وزارة التربية والتعليم الإعلان أن تُعلن عن خطة خاصة لدعم الطلاب العائدين، تشمل دورات تدريبية للمعلمين حول كيفية التعامل معهم، إضافة إلى برامج دعم نفسي واجتماعي موازٍ للدعم الأكاديمي، فالقضية لا تتعلق بالتحصيل الدراسي وحده، بل بمستقبل جيل كامل يحتاج إلى بيئة تعليمية آمنة وعادلة كي يتمكن من استعادة حقه في التعلم والانتماء.