خلّفت الحرب الإسرائيلية الأخيرة في غزة جيلاً كاملًا من الأيتام، تجاوز عددهم الخمسين ألف طفل، كثيرون منهم فقدوا أسرهم بالكامل في لحظات، وبينما تتصاعد النداءات لإيجاد حلول مستدامة لمستقبلهم، يقف المجتمع أمام إشكالية التبنّي المحظور وفق الأعراف والقوانين المحلية، ما يجعل مؤسسات الرعاية هي الملاذ الوحيد لهؤلاء الصغار.
في مواجهة هذا المشهد الإنساني القاتم، يبقى السؤال الأعمق مفتوحًا: كيف سيُبنى مستقبل أطفال لم يبقَ لهم سوى الذاكرة، ومن سيحمل عنهم عبء الحياة بعدما فقدوا سندهم الأول؟
احتضان طفلة
في منزلهما المتواضع يجلس رامي العروقي وزوجته إيمان فرحات وهما يحتضنان الطفلة جنة، التي دخلت حياتهما فجأة في واحدة من أصعب الأوقات في غزة. عشرون عامًا مرّت دون أن يرزق الزوجان بأطفال، إلا أنّ مشاهد الحرب الأخيرة وما خلّفته من آلاف الأيتام دفعت الزوجين إلى اتخاذ خطوة بدت لهما واجبًا إنسانيًا لا خيارًا شخصيًا.
يقول رامي لـ”نون بوست”: “مع ارتفاع أعداد الشهداء في كل يوم، لم أعد قادرًا على رؤية الأطفال الناجين دون سند شعرت أن من واجبي كإنسان وكفلسطيني أن أفتح بابي لطفل فقد عائلته لم نرزق بالأبناء منذ زواجنا، لكني شعرت للمرة الأولى أن أمامي فرصة لأمنح حياة جديدة لطفل يحتاج حضنًا دافئًا”.
لم تكن رحلة البحث عن طفلٍ يتيم سهلة، فقد كان رامي يتردد على المستشفيات والمراكز التي تستقبل الأطفال الناجين، وفي إحدى زياراته للمستشفى الأمريكي في دير البلح، أبلغه الأطباء بوجود طفلة لا يعرف أحد شيئًا عن هويتها، نجت وحدها من تحت الأنقاض بينما استشهدت عائلتها كاملة.
ورغم أن جنة باتت اليوم جزءًا لا يتجزأ من العائلة، لا يزال رامي يبحث عن أي خيط يدلّه على رواية ما حدث لعائلتها أو على أقارب قد يكونون نجوا، ويقول بحزن واضح: “أريد أن أعرف قصتها غزة لا تنسى أبناءها، وربما هناك قريب يبحث عنها وإن لم نجد أحدًا، فسأكون لها الأب والأم والسند”.
بالنسبة لرامي وإيمان، لم يكن قرار الاحتضان مجرد محاولة لملء فراغ في حياتهما، بل كان ردًا إنسانيًا على مأساة مفتوحة خلفتها الحرب، فقد جاءت جنة لتمنح هذا البيت فرصة جديدة للحياة، ولتحمل معها رسالة أوسع: في غزة، لا تزال المحبة أقوى من الحرب.
إعالة 36 حفيدًا
في أحد أزقة الشجاعية المنكوبة شرق غزة، تنتصب خيمة مهترئة بالكاد تقف أمام رياح الشتاء، لكنها بالنسبة لأم محمد عليوة هي آخر ما تبقى من معنى البيت، المرأة الستينية، التي فقدت خمسة من أبنائها في الحرب، وجدت نفسها مسؤولة عن ستة وثلاثين طفلاً من أحفادها وأبناء أقاربها؛ جميعهم أيتام يحتاجون حضنًا وحماية في زمن فقد فيه الأطفال أقل حقوقهم.
تقول أم محمد لـ”نون بوست” بصوت متعب: “الوجع ما بفارق قلبي، بس لما أشوف هالأطفال حواليا، بحس إنه لازم أصمد. أنا آخر سند إلهم، لكل واحد فيهم قصة وكل واحد فيهم محتاج حضن أم، وأنا بحاول أكون أم للجميع”.

رغم أن الحرب سرقت منزلها وكل ما كانت تملكه، تصر أم محمد على أن تبقى واقفة تنهض كل صباح لتبحث عن الحطب تحت الركام، تشعل النار، وتخبز للأطفال ما تيسر. وتضيف: “نطبخ على النار، وندور على أي شيء يغطيهم من البرد يمكن هذا أقل شيء نقدر نعمله، بس همّ أمانة برقبتي”.
تعيش أم محمد وزوجها في ظروف لا تشبه الحياة: “لا بيت، لا فراش، لا ملابس دافئة، ولا طعام كافٍ”، ومع ذلك، يتحمّلان مسؤولية جيش صغير من الأيتام الذين يحتاجون إلى كل شيء. وتقول بغصّة: “احنا مش قادرين نوفر لهم مأوى، ولا أكل كويس، ولا علاج بس ما بقدر أتركهم. هدول ريحة أولادي الشهداء، وأنا بوعدهم كل يوم إني سأضل واقفة”.
بين لحظة وأخرى، يراودها سؤال مرعب: “لو مت مين راح يعيلهم؟ مين راح يمسك بإيدهم؟”، صوتها ينخفض وهي تكمل: “صحتي ما عادت متل الأول وبخاف عليهم أكثر مما بخاف على نفسي بقول يا رب تعطيني عمر بس عشان هالأولاد”.
ورغم العجز والفقر والمرض، تبقى أم محمد نموذجًا مؤثرًا لصمود نساء غزة اللاتي تحوّلن إلى خطوط الدفاع الأخيرة عن أسرٍ كاملة، ففي خيمتها الصغيرة، لا يوجد سوى الألم لكنه ممزوج بحنان لا ينضب، وقوة تبدو أكبر من الحرب نفسها.
ارتفاع عدد الأيتام بشكل غير مسبوق
كشف نضال جرادة، مدير عام معهد الأمل للأيتام في غزة، أن أعداد الأطفال الأيتام في القطاع ارتفعت بشكل غير مسبوق منذ بدء الحرب، موضحًا أن إحصاءات المؤسسات الصحية تشير إلى تجاوز عدد الأيتام حاجز 50 ألف طفل، وأضاف أن 34 ألفًا منهم مسجلون رسميًا لدى معهد الأمل، إلى جانب نحو 14 ألف يتيم كانوا مسجلين قبل الحرب.
وبيّن جرادة أن هناك فئة أخرى تُعرف بـ“اليتيم الحُكمي”، وهو الطفل الذي فُقد والده دون التحقق من وفاته، لافتًا إلى أن بعض الآباء قد يكونون أسرى أو مفقودين. وقال لـ”نون بوست”: “نحن في المعهد لا نتعامل مع هذه الفئة ضمن سجلاتنا الرسمية، رغم أن عددهم يقترب من 10 آلاف طفل”.
وحول موضوع التبنّي، أكد جرادة أن معهد الأمل لا يتبنّى الأطفال، موضحًا أن “الغالبية الساحقة من الأيتام لديهم مرجعيات عائلية قائمة”. وفي ما يتعلق بالمواليد الذين وُجدوا بعد المجازر دون معرفة ذويهم بشكل مؤقت، أوضح أن “هؤلاء ليسوا مجهولي النسب فعليًا، بل أصبح مصير أهلهم غير معروف بعد استشهادهم أو فقدان آثارهم”.
وأشار جرادة إلى أن المعهد يولي الجانب النفسي اهتمامًا كبيرًا لضمان دمج الأطفال في سياق طبيعي قدر الإمكان، عبر برامج دعم نفسي وتأهيل وعلاج، إضافة إلى نشاطات مدرسية واجتماعية تساعدهم على تجاوز الصدمات.
واستعاد جرادة جذور المؤسسة قائلاً: “تأسس معهد الأمل عام 1949 نتيجة الجرائم والتهجير اللذين ارتكبهما الاحتلال الإسرائيلي بحق أبناء شعبنا، والمفارقة أنه وبعد مرور 76 عامًا، ما زال الاحتلال يمارس الجرائم ذاتها، وخاصة منذ عام 2023، ما جعل المعهد يواصل دوره التاريخي في رعاية أطفال فقدوا آباءهم بفعل هذا العدوان المستمر”.
ووصف جرادة المعهد بأنه “أقدم مؤسسة تقدم خدمات الإيواء والرعاية للأيتام في فلسطين”، موضحًا أنه يستقبل الأطفال من جميع محافظات قطاع غزة، من بيت حانون حتى رفح. وأوضح أن خدمات المعهد تشمل الإيواء الكامل للأطفال، إضافة إلى برامج تأهيل ودعم نفسي، ومدرسة داخلية توفر التعليم، إلى جانب برامج تدريب وتشغيل مهني وتمكين اقتصادي لأمهات الأرامل لمساعدتهن على توفير مصدر دخل مستدام. كما يقدم المعهد الكفالات الشهرية، وبرامج الطرود الغذائية والصحية، والخضروات والفواكه خلال فترات الحرب.
وحول جهود الإغاثة الجارية، كشف جرادة أن المعهد يعمل منذ عدة أيام على توزيع نموذج كفاية شتوية وإغاثية على أسر الأيتام، ويهدف للوصول إلى 33 ألف طفل يتيم خلال المرحلة الحالية.