تتجه الأنظار نحو واشنطن في 18 نوفمبر/تشرين الثاني، حيث يستقبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في زيارة تحمل دلالات سياسية تتجاوز طابعها البروتوكولي، فالشرق الأوسط يمرّ بمرحلة غير مسبوقة من السيولة الاستراتيجية، تتقاطع فيها التحولات الأمنية مع إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، ما يمنح الزيارة وزنًا استثنائيًا في حسابات الطرفين.
تكتسب هذه الزيارة أهمية مضاعفة كونها الأولى لابن سلمان إلى الولايات المتحدة منذ قرابة ثمانية أعوام، أي منذ مقتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول عام 2018، تلك القضية التي أحدثت شرخًا مؤقتًا في العلاقات بين الرياض وواشنطن، ووضعت ولي العهد في قلب انتقادات دولية حادة، ورغم تجاوز الطرفين لآثار تلك المرحلة، إلا أن الزيارة الحالية تبدو محاولة لتكريس مرحلة جديدة وتصفية ما تبقى من إرث الخلاف.
ورغم اتساع دائرة الملفات المطروحة في المحادثات، يبقى ملف التطبيع السعودي الإسرائيلي هو محور الاهتمام الأبرز، فالإدارة الأمريكية، تحت قيادة ترامب، تبحث عن إنجاز دبلوماسي يعزز سردية “صانع السلام”، حيث تمثل الرياض الجائزة الأكبر في مسلسل التطبيع الذي تسعى واشنطن لتمديده، كما أن مؤشرات التقارب غير المعلن بين السعودية و”إسرائيل” خلال الأعوام الماضية غذّت التوقعات بشأن احتمالية الانتقال إلى مستوى علني من العلاقات.
إلا أن حسابات الواقع أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه الرغبات السياسية، فالسعودية و”إسرائيل” كلاهما يتحرك وفق توازنات دقيقة تتصل بدورهما الإقليمي، وأجنداتهما الخاصة، وتداعيات الحرب في غزة، فضلًا عن حساسيات الشارع العربي والإسلامي من جانب والإسرائيلي من جانب الأخر، وعليه فإن فخطوة التطبيع العلني، على أهميتها في ميزان السياسة الأمريكية، لا تزال بعيدة المنال في هذا التوقيت تحديدًا.
ماذا يريد ابن سلمان من تلك الزيارة؟
من المهم الإشارة منذ البداية إلى أن التطبيع، في منظور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ليس غاية بذاته بقدر ما هو ورقة تفاوضية ضمن استراتيجية أوسع تهدف إلى تأمين مكاسب سياسية وأمنية واقتصادية، فولي العهد الذي يقود مشروعًا طموحاً داخلياً وإقليمياً، يدرك أن الاعتراف العلني بإسرائيل لن يكون مغرياً وليس هدفًا في حد ذاته إذا ما حقق حزمة من الامتيازات الكبرى التي يستهدفها من وراء تلك الزيارة بصفة خاصة ومسار التطبيع بوجه عام.
في مقدمة هذه الامتيازات تأتي مسألة تعزيز القدرات العسكرية السعودية، فالمملكة تسعى لانتزاع موافقة واشنطن على تزويدها بأسلحة متقدمة، وعلى رأسها المقاتلة الشبحية F-35، بما يجعلها الدولة الثانية في الشرق الأوسط التي تمتلك هذا الطراز بعد إسرائيل، هذا الهدف لا يتعلق فقط بالتوازن العسكري، بل يرتبط أيضاً برغبة ابن سلمان في إعادة هيكلة مكانة السعودية كقوة إقليمية قادرة على فرض معادلات جديدة.
ويتجاوز الطموح السعودي مجرد صفقات السلاح إلى البحث عن مظلة أمنية رسمية مع الولايات المتحدة، فابن سلمان يريد اتفاقية دفاع ملزِمة، لا قراراً تنفيذياً قابلاً للإلغاء في أي وقت كما هو الحال مع الترتيبات الأمنية التي تمت مع قطر، لذلك يسعى لأن تمر أي اتفاقية محتملة عبر الكونغرس لضمان استمراريتها بغض النظر عن تغير الإدارات الأمريكية.
وتشير تقديرات عديدة إلى أن حصول الرياض على التزام دفاعي أمريكي بهذا الحجم سيقلل من حاجتها إلى تعاون أمني مفتوح مع إسرائيل، لكنه في الوقت نفسه يواجه عقبة موافقة الكونغرس، الذي غالباً لن يمنح المملكة هذه الامتيازات دون وجود مسار تطبيع واضح مع تل أبيب.
وعلى المستوى الاقتصادي، يطمح ابن سلمان إلى بناء شراكة أعمق مع الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب، بما يسمح له بتنويع الاقتصاد السعودي وتقليص الاعتماد على النفط، بما ينسجم مع رؤية 2030، فهذه الشراكات لا تقتصر على الاستثمارات والتكنولوجيا بل تشمل أيضاً دمج المملكة في سلاسل الإنتاج العالمية ومشاريع البنية التحتية العابرة للحدود.
بهذا المعنى، يتحول التطبيع من هدف سياسي إلى أداة تفاوضية تُستخدم لانتزاع أكبر قدر من المكاسب الممكنة، في إطار حسابات معقدة تربط بين قدرة الرياض على توسيع نفوذها الإقليمي وبين استعداد واشنطن وبشكل غير مباشر “إسرائيل” لتقديم المقابل الذي تراه السعودية مناسباً.
حرب غزة تقلب الطاولة
أحدثت حرب غزة تحولاً جذرياً في مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي، وقلبت معادلات كانت تُعد شبه محسومة قبل اندلاعها، فقد جاءت العملية وما تلاها من إبادة إسرائيلية في القطاع لتربك حسابات جميع الأطراف، بما في ذلك واشنطن التي كانت تضطلع بدور الوسيط والدافع الرئيس نحو إتمام الصفقة.
قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت بيئة التطبيع مهيأة إلى حدّ بعيد؛ إذ عكست مؤشرات عديدة ميلاً سعودياً نحو مقاربة جديدة ترى أن الفلسطينيين لا ينبغي أن يمتلكوا حق الفيتو على ترتيبات إقليمية أو اتفاقيات ثنائية، وهو موقف تجلى في انتقادات السفير السعودي الأسبق لدى واشنطن، الأمير بندر بن سلطان المتكررة للقيادة الفلسطينية. وفي ظل هذا المناخ، كانت إدارة الرئيس السابق جو بايدن تقترب بشكل واضح من إنجاز اتفاق التطبيع باعتباره تتويجاً لجهود دبلوماسية ممتدة ومساراً يعزز نفوذ واشنطن الإقليمي.
غير أن عملية “طوفان الأقصى” وما تبعها من حرب إبادة إسرائيلية واسعة النطاق عطّلت هذا المسار بالكامل، فالعملية الفلسطينية بدت، في أحد أبعادها، محاولة لقطع الطريق أمام لحظة كانت توصف في الأوساط الأمريكية والإسرائيلية بأنها “احتفال التطبيع” المرتقب، خاصة بعد انضمام دول عربية عدة إلى حظيرة أبراهام عام 2020، وما أثارته تلك الاتفاقات من جدل حول تنازلات استراتيجية مجانية بلا مقابل للفلسطينيين.
كانت القيادة السعودية، قبل الحرب، تتعامل مع الانتهاكات الإسرائيلية باعتبارها جزءاً من المشهد المألوف في الصراع، دون أن تشكل عائقاً حقيقياً أمام مسار التقارب مع تل أبيب، لكن حجم الوحشية في غزة، وتبني أوساط سياسية إسرائيلية مواقف عدائية علنية تجاه المملكة، جعلا مواصلة هذا النهج مكلف سياسياً وأخلاقياً، فلقد تغيّر المزاج الشعبي العربي والإسلامي بصورة حادة، وتغيّرت معه حسابات الرياض التي لم تعد قادرة على القفز فوق الدم الفلسطيني أو التعامل معه كعامل هامشي.
وعليه، أصبح الاندفاع نحو التطبيع في هذا التوقيت تحديداً خطوة شديدة التعقيد، بل وربما محفوفة بمخاطر داخلية وإقليمية لا يمكن لابن سلمان تجاهلها، ما يجعل من استئناف هذا المسار مرهوناً بتطورات أوسع تتجاوز حسابات الواقعية السياسية إلى اعتبارات الشرعية والرصيد الجماهيري.
معضلة حل الدولتين
يشكّل شرط حلّ الدولتين أحد أكثر العوائق رسوخاً في طريق التطبيع السعودي الإسرائيلي، إذ تتعاطى الرياض مع هذا الملف باعتباره جزءاً من ثوابت سياستها الخارجية لا مجرد ورقة تفاوضية، فالمملكة ما تزال متمسكة بمبادرة السلام العربية لعام 2002، التي ربطت أي تطبيع مع إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة، وقد أعاد ولي العهد السعودي تأكيد هذا الموقف في سبتمبر/أيلول 2024 حين شدد بوضوح على أن الرياض لن تقيم علاقات دبلوماسية مع تل أبيب دون قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.
في المقابل، لا يظهر على الجانب الإسرائيلي ما يشير إلى استعداد سياسي أو أيديولوجي للتحرك نحو هذا الهدف، فحكومة بنيامين نتنياهو، المدعومة من ائتلاف يميني متطرف، ترفض بصورة صريحة أي مسار يؤدي إلى إنشاء دولة فلسطينية، بل إن سياساتها خلال العام 2024 اتجهت نحو تعميق السيطرة على الضفة الغربية وإضعاف السلطة الفلسطينية، في ظل تسجيل أكبر وتيرة استيلاء على الأراضي منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993.
ولا يبدو أن المشكلة ستُحل بمجرد تغيير الحكومات داخل إسرائيل؛ فحتى الحكومات الأكثر “اعتدالاً” تاريخياً لم تُبد استعداداً لتقديم تنازلات جوهرية بشأن الدولة الفلسطينية، وقد قام الكنيست، خلال الأعوام الماضية، بإقرار سياسات وبيانات تعتبر إقامة دولة فلسطينية “خطراً وجودياً” على الكيان، الأمر الذي يجعل أي تحرك في هذا الاتجاه مكلفاً سياسياً للأحزاب الإسرائيلية.
يزداد المشهد تعقيداً بوجود تهديد مباشر من أحزاب اليمين المتطرف بالانسحاب من الحكومة في حال اتخاذ أي خطوة قد تُفسَّر كاعتراف بدولة فلسطينية، وهذا التهديد يضع نتنياهو في مأزق داخلي شديد، إذ يعتمد بقاؤه السياسي بدرجة كبيرة على استمرار هذا الائتلاف الهشّ، وبالتالي، يُبقي هذا التعقيد الهيكلي الموقف الإسرائيلي في حالة جمود، ويجعل من مطلب الرياض شرطاً يصعب تلبيته في المدى المنظور.
وبذلك، تصبح معضلة حلّ الدولتين حجر عثرة مركزياً أمام أي تقدم في مسار التطبيع، باعتبارها فاصلاً واضحاً بين رؤية سعودية تتحرك ضمن إطار إقليمي ودولي أوسع، وبين مشهد إسرائيلي تغلب عليه اعتبارات السياسة الداخلية وتوازنات اليمين المتشدد.
الحسابات الأمنية تلقي بظلالها
لا تُخفي الرياض اندفاعها نحو تعزيز قدراتها العسكرية عبر الحصول على منظومات تسليح متطورة، خصوصاً في ظل التحولات المتسارعة في البيئة الأمنية الإقليمية، فالهجمات التي تعرضت لها الدوحة على يد القوات الإسرائيلية شكّلت صدمة استراتيجية لدول الخليج، وأظهرت هشاشة البنية الدفاعية حتى لدى الدول التي ترتبط بعلاقات قوية مع واشنطن وتل أبيب، ومن هذا المنطلق، ترى السعودية أن ما جرى في الدوحة قد يتكرر في الرياض أو أبوظبي، ما لم يُعاد بناء منظومة الردع الخليجية على أسس أكثر صلابة.
في المقابل، تخشى “إسرائيل” أن يؤدي تزويد السعودية بأسلحة متقدمة إلى الإخلال بتفوقها العسكري النوعي، وهو أحد الأعمدة الأساسية في عقيدتها الأمنية منذ عقود، وتُضاف إلى ذلك حالة الانقسام داخل المؤسسة الإسرائيلية بين المستويين العسكري والسياسي بشأن مدى السماح للرياض بتطوير برنامج نووي سلمي على أراضيها، إذ يرى بعض القادة العسكريين أن منح السعودية هذا الخيار قد يفتح الباب أمام سباق نووي إقليمي يصعب احتواؤه.
وتتعمق الهوّة أكثر عند النظر إلى الأولويات الإسرائيلية الراهنة، فبعد الإخفاق الأمني في 7 أكتوبر/تشرين الأول، باتت تل أبيب أكثر تركيزاً على إدارة التهديدات المباشرة على جبهات متعددة، وإعادة بناء قوة الردع، وتأمين حدودها، وهذا السياق يجعل من التطبيع على الرغم من أهميته السياسية قضية غير ملحّة في ميزان الحسابات الاستراتيجية الإسرائيلية في الوقت الراهن.
هذا التباين بين الاحتياجات الأمنية السعودية والتحفظات الإسرائيلية يعقّد مسار التفاهمات الثنائية، ويُبطئ من وتيرة الاندفاع نحو اتفاق تطبيع قد لا يحقق الحد الأدنى من طموحات أي من الطرفين في المرحلة الحالية.
الرأي العام عامل لا يمكن إنكاره
يقف الرأي العام في كل من “إسرائيل” والسعودية عقبة أساسية أمام أي اتفاق تطبيع شامل بين البلدين، ففي “إسرائيل”، تُظهر استطلاعات الرأي معارضة واسعة لأي اتفاق يرتبط بقيام دولة فلسطينية، ففي أخر الاستطلاعات التي جرت في مايو/أيار 2024 عبر 74% من اليهود الإسرائيليين عن رفضهم لأي تطبيع يشمل دولة فلسطينية، فيما رأى نصفهم أن على “إسرائيل” الإبقاء على سيطرتها على غزة.
كما اعتبر 19% فقط أن التعايش مع دولة فلسطينية ممكن، وهو أدنى مستوى منذ بدء هذه الاستطلاعات عام 2013، وفي ظل صدمة 7 أكتوبر، تزايدت اللامبالاة بمعاناة الفلسطينيين حتى داخل الأوساط الليبرالية، وسط شعور بأن “الوجود يتقدم على العدالة”.
وفي السعودية، تسير توجهات الرأي العام في الاتجاه ذاته، ورغم غياب صناديق الاقتراع، فإن القيادة السعودية لا تتجاهل المزاج الشعبي، خصوصاً بين الشباب الذين يدعمون إصلاحات محمد بن سلمان ولكن يظلون حساسين تجاه أي تقارب مع “إسرائيل”، وقد برز ذلك في حملات المقاطعة للبضائع الأمريكية خلال حرب غزة، وهو تعبير نادر عن احتجاج سياسي في بلد محدود المساحة للتعبير العلني.
وفي استطلاع لمعهد واشنطن أجري في ديسمبر/كانون الأول 2023، عارض 96% من السعوديين العلاقات مع “إسرائيل”، وفي استطلاع معهد الدوحة في يناير/كانون الثاني 2024، رفض 68% اعتراف السعودية بـ”إسرائيل”، وهو أعلى مستوى منذ 2016، وحتى قبل الحرب، أبدى السعوديون تحفظاً واضحاً؛ إذ أظهر استطلاع آخر في أغسطس/آب 2023 أن 86% يعارضون مشاركة فرق إسرائيلية في فعاليات رياضية داخل المملكة.
تُظهر هذه المعطيات أن الطريق إلى التطبيع، مهما بدا ممكناً سياسياً، وفق مؤشرات متأرجحة يمينًا ويسارًا، يواجه جداراً من الشكوك الشعبية في كلا البلدين، هذا بخلاف المزاج العام العربي والإسلامي والذي قد يكون عامل ضغط قوي على الرياض، الأمر الذي وإن كان يمكن تجاهله بالأمس فمن الصعب تجاهله اليوم في ظل التغيرات الجيوسياسية التي فرضت نفسها بقوة على المشهد منذ بداية حرب غزة.
المقاربات الأمريكية… عامل مُثبِّط أكثر منه محفِّز
يبدو أن التعويل على دور أمريكي حاسم لدفع الرياض وتل أبيب نحو اتفاق تطبيع رهاناً أقرب إلى الوهم منه إلى الواقع، فترامب، رغم إدراكه لحساسية هذا الملف وأهميته داخل حساباته السياسية والاقتصادية، لا يملك الاستعداد ولا القدرة للضغط الجاد على أي من الطرفين، فعلى الجانب السعودي، يدرك الرئيس الأمريكي أنه غير قادر على تقديم الضمانات الأمنية أو التسليحية التي تطالب بها الرياض إذا ما تعارضت مع المصالح الإسرائيلية؛ إذ لن يخاطر بمواجهة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أو حلفائها داخل واشنطن.
كما يدرك تماماً أن أي التزام أمريكي واسع قد يتحول لاحقاً إلى عبء سياسي ومالي ثقيل، وربما فخ يصعب الانسحاب منه، وإلى جانب ذلك، لا توجد ضمانة لديه بأن تلتزم الحكومة الإسرائيلية بأي تفاهمات مهما بلغت أهميتها.
لهذه الأسباب، يُرجَّح أن يتبنى ترامب مقاربة حذرة تقوم على موازنة الأطراف دون الانحياز الكامل لأي منها، سيعمل على تقريب وجهات النظر، نعم، لكنه سيسعى في الوقت نفسه إلى ابتزاز الرياض قدر الإمكان لانتزاع مكاسب سياسية واقتصادية، دون أن يغامر بإغضاب اللوبيين اليهودي والصهيوني اللذين يمثلان ركيزة أساسية في تحالفاته الداخلية، وبهذا، تصبح المقاربة الأمريكية أقرب إلى إدارة الأزمة وليس حلّها، وإلى إبطاء مسار التطبيع أكثر من دفعه إلى الأمام.
التطبيع التدريجي.. الخيار الأمثل
في ضوء المعطيات الراهنة، يبدو الحديث عن تطبيع وشيك بين السعودية و”إسرائيل” أقرب إلى التمنّي منه إلى القراءة الواقعية، فالعقبات السياسية والأمنية والشعبية التي تحيط بالملف تجعل من الإعلان عن اتفاق رسمي أمراً مستبعداً في المدى القريب، لكن ذلك لا يعني طيّ صفحة التطبيع بالكامل؛ إذ يمتلك الطرفان، على المدى البعيد، مقاربة استراتيجية مُلحة في إبقاء هذا المسار مفتوحاً بانتظار ظروف أكثر ملاءمة.
ضمن هذا الإطار، يبرز خيار التطبيع التدريجي كمسار محتمل وعملي، كونه يسمح بتجاوز التناقضات العالقة التي تعرقل الانتقال مباشرة إلى التطبيع الكامل، هذا المسار المرحلي يمكن أن يتخذ أشكالاً متعددة، تحقق مكاسب ملموسة للطرفين دون دفع الثمن السياسي والأخلاقي لاتفاق علني، فالتعاون الأمني والاستخباراتي يمكن أن يتوسع بصمت، كما يمكن تعميق الشراكات في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، مثل الأمن السيبراني، والتكنولوجيا المالية، والتقنيات الزراعية.
إلى جانب ذلك، قد يتحسن التكامل في مجالات النقل والتجارة، خاصة مع الدور المحوري لكلٍّ من الرياض وتل أبيب في مشروع الممر الاقتصادي الرابط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، ومثل هذه الخطوات تخلق واقعاً تعاونياً فعلياً يُبنى عليه تدريجياً، دون الحاجة إلى إعلان سياسي كامل.
ويتوافق هذا النهج مع الطريقة التي تتعامل بها إدارة ترامب مع الملف، عبر دفع التعاون العملي الذي يحقق مكاسب اقتصادية ولوجستية، من دون الدخول في ملفات شائكة كالدولة الفلسطينية أو الضمانات الأمنية بعيدة المدى، وهكذا يحصل كل طرف على ما يريده، واشنطن تحقق مكاسب اقتصادية عبر إدارة هذا الملف، الرياض تنال مكاسب استراتيجية، وتل أبيب تحافظ على مسار التقارب بامتيازاته الكبيرة دون تكلفة داخلية عالية.
في الأخير فإن التطبيع—وفق مقاربة الطرفين—ليس هدفاً بذاته، بل أداة لتحقيق مصالح أوسع، وطالما أن هذه المصالح يمكن تحقيقها عبر خطوات تدريجية غير رسمية، فإن الحاجة إلى اتفاق علني شامل تتراجع، خصوصاً في ظل تكلفته السياسية العالية في اللحظة الراهنة، ومن هنا يصبح الإعلان عن انضمام المملكة لاتفاقيات أبراهام في الوقت الحالي خطوة سابقة لأوانها.
