مع اقتراب مرور عام على سقوط نظام بشار الأسد، برزت مجموعة من المؤسسات والخدمات التي توسّعت خارج نطاقها السابق في مدينة إدلب، حيث كانت تعمل خلال فترة سيطرة “هيئة تحرير الشام”، وامتد نشاط هذه الكيانات إلى محافظات متعددة مع تغيّر المشهد السياسي والإداري في سوريا، متخذة دورًا أكبر في قطاعات خدمية وإدارية وإعلامية مختلفة.
هذا التوسع يثير تباينًا في التقييم والآراء، فبينما يرى البعض أنه تطور طبيعي يساهم في خلق فرص عمل ونقل خبرات تنظيمية وتقنية إلى مناطق جديدة، لا سيما في مناطق حكمتها منظومة فساد، يرى آخرون أنه قد يعكس تركّزًا أكبر للنفوذ ويطرح تساؤلات حول طبيعة حضور هذه المؤسسات ودورها في المشهد الاقتصادي والإداري الجديد.
من بين أبرز هذه النماذج، تطبيق “شام كاش”، ومؤسسة “البيئة النظيفة” (E-CLEAN)، وكوادر منصة “المبدعون السوريون” الإعلامية، وشركة “الراقي” للإنشاءات. بعضها يتبع لـ”تحرير الشام” وبعضها واجه اتهامات بالارتباط دون تأكيد. وقد حرصت بعض هذه المؤسسات خلال السنوات الماضية على إبقاء مسافة واضحة بينها وبين أي ارتباط مباشر بـ”تحرير الشام”، في وقت كانت فيه الأخيرة تتجنب إظهار أي صلة بكيانات مدنية، تفاديًا لمخاطر تصنيف “الإرهاب” أو التأثير على عملها.
في هذا التقرير، نستعرض مسار توسع هذه المؤسسات، والسياقات التي رافقت انتشارها في المحافظات السورية، ونناقش مع خبراء العوامل التي تقف وراء هذا التوسع، إلى جانب استشراف نتائجه المحتملة وتأثيره على عمل المؤسسات الحكومية والقطاعات المختلفة.
نموذج إدارة إدلب
قبل معركة “ردع العدوان” التي انتهت بسقوط نظام بشار الأسد، في 8 من ديسمبر/كانون الأول 2024، كانت مدينة إدلب تُدار من خلال أربعة هياكل مدنية وعسكرية شكّلت المنظومة الحاكمة آنذاك، وهي حكومة “الإنقاذ” و”مجلس الشورى العام” و”جهاز الأمن العام” و”هيئة تحرير الشام”، إضافة إلى منظمات إنسانية غير حكومية.
توزّعت الأدوار بين هذه الأجسام في الملفات الخدمية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، فيما بقيت “هيئة تحرير الشام” الجهة الأكثر تأثيرًا في صنع القرار وإدارة الملفات الرئيسية، إذ تشكّلت الأجسام الثلاثة الأخرى بدفع أو بإشراف من “الهيئة”، لتغطية وظائف إدارية وخدمية متعددة. وفي موازاة هذا الهيكل الإداري، ظهرت مؤسسات مدنية وخدمية مختلفة تولّت إدارة قطاعات متنوعة.
وبعد هروب الأسد إلى روسيا، تولى الرئيس أحمد الشرع (قائد هيئة تحرير الشام) إدارة البلاد في مرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات، وجرى تشكيل حكومة تصريف أعمال مدتها ثلاثة أشهر، ثم تشكيل حكومة مؤلفة من 23 وزيرًا (شكّلت الإنقاذ نواتها)، في حين أعلنت “تحرير الشام” حلّ نفسها في يناير/كانون الثاني 2025.
وتحدث الرئيس الشرع عن تجربة إدارة إدلب في أكثر من مرة، موضحًا أن تلك المرحلة اعتمدت على إشراف مباشر في تشكيل حكومة “الإنقاذ” وبناء مؤسسات محلية استندت إلى خبرات متنوعة، لا ترتبط بالضرورة بأي فصيل أو جماعة.
وقال إن العمل حينها، رغم غياب مقومات الدولة، حقق مستوى إداريًا أفضل مما كان قائمًا في مناطق سيطرة النظام السابق، مشيرًا إلى أن إدارة إدلب خلال الثورة كانت أصعب من إدارة الدولة حاليًا، وأن النموذج الذي طُبّق فيها ليس قابلًا للتعميم على كامل سوريا، لكنه يشكّل نواة لملء الفراغ إلى حين تشكيل مؤسسات الدولة.
“شام كاش”.. مخاطر بثلاثة مستويات
برز تطبيق “شام كاش” كأحد الخدمات الرقمية التي توسعت من إدلب إلى باقي أنحاء سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، حيث بدأ العمل في يوليو/تموز 2024 كوسيط للدفع الإلكتروني ومحفظة تسمح للمستخدمين بإرسال واستلام التحويلات النقدية في إدلب.
وجرى إطلاقه في البداية لتسهيل صرف رواتب حكومة “الإنقاذ”، ثم أصبح متاحًا لبقية العملاء، مع توسيع قائمة خدماته لتشمل التحويلات المالية ودفع الأقساط والفواتير ورسوم النظافة الشهرية، بالإضافة إلى شحن رصيد الكهرباء.
ويتبع التطبيق لبنك “شام” الذي يعتبر ضامنًا لعدم إغلاق التطبيق، وهو بنك أسسته “هيئة تحرير الشام” في يونيو/حزيران 2018، عبر تحويل شركة “الوسيط” للحوالات المالية إلى البنك. وأصبح بنك “شام” المصدر الرئيسي للعملة التركية المتداولة في إدلب، لا سيما للفئات الصغيرة، ولعب دورًا أساسيًا في تحديد شروط أعمال الصرافة والتحويلات المالية في المنطقة.

وأثار تطبيق “شام كاش” جدلًا حول موثوقيته، خاصة لعدم توفره في متاجر التطبيقات الرسمية لأنظمة “Android” و”iOS”، إضافة إلى تكرار تحذيرات بشأن احتمالية التعرض لأنشطة مريبة أو احتيالية، وتداول شائعات حول خدمات جديدة يُعتقد أنها أُضيفت. وتوسع انتشاره بعد سقوط نظام الأسد، وزاد الجدل بعد اعتماد وزارة المالية عليه كوسيلة لصرف رواتب العاملين في القطاع العام، ومؤسسة الحبوب لتسديد أثمان القمح للمزارعين.
يقول ملهم الجزماتي، الباحث الاقتصادي في شركة “كرم شعار” للاستشارات، إن التعامل مع “شام كاش” يرتبط بثلاثة مستويات من المخاطر الموثقة، أولها أمنية وتقنية، وثانيها اقتصادية، وثالثها يتعلق بالحوكمة والرقابة، ما يجعل من الضروري إعادة تقييمه وإتاحة بدائل أكثر أمانًا.
على المستوى الأمني والتقني، يعمل التطبيق خارج متاجر التطبيقات الرسمية، متجنبًا معايير الحماية المفروضة على هذه المنصات، كما يفتقر إلى سياسة خصوصية واضحة، ويعتمد شروط استخدام تُعفيه من المسؤولية في حالات الاحتيال أو فقدان البيانات. ويضيف الباحث أن الأخطر من ذلك هو امتلاك الخادم المركزي للتطبيق القدرة على فكّ تشفير والوصول إلى كافة بيانات المستخدمين في أي وقت، ما يفتح المجال للمراقبة والتتبع من دون أي ضمانات قانونية أو رقابية.
أما من الناحية الاقتصادية، فيقول الباحث لـ”نون بوست” إن “شام كاش” يتجاوز النظام المصرفي الرسمي بالكامل، مما يضعف الثقة بالبنوك ويُعمّق أزمة السيولة، فبدلًا من العمل على إعادة تأهيل القطاع المصرفي وتعزيز دوره في الاقتصاد، يعمل التطبيق على تهميشه وتحويل التدفقات المالية إلى قنوات غير رسمية.
ويوضح أن التعامل مع “شام كاش” يمكن تبريره كحل لتسهيل عمليات تحويل الراتب وتخفيف الضغط على المصارف، لكن إن الاستمرار في الاعتماد عليه كحل أحادي الجانب قد تكون له تداعيات وخيمة على المدى الطويل، تتجاوز مجرد المشاكل التقنية لتطال بنية الاقتصاد والمجتمع السوري. ويضيف أن استمرار تحويل الأموال خارج القنوات البنكية الرسمية سيزيد من تآكل الثقة بالبنوك ويمنعها من استعادة عافيتها، مما يعيق أي جهود مستقبلية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
أما من ناحية الحوكمة والرقابة وهي الأخطر وفق الباحث، لأن غياب المعلومات عن الشركة المطوِّرة للتطبيق يعني غياب أي جهة يمكن مساءلتها قانونيًا في حال وقوع اختراقات أو احتيال، كما أن عدم خضوعه لأي إشراف من البنك المركزي أو جهة مالية معترف بها يجعله يعمل في منطقة رمادية خارج إطار قانوني واضح.
ويرى أنه في ظل غياب أي ضمانات للخصوصية أو رقابة ديمقراطية، يمكن أن يتحول التطبيق بسهولة إلى أداة للمراقبة الجماعية والضغط السياسي، إذ يمنح مشغليه القدرة على مراقبة المعاملات، وتتبع مواقع المستخدمين وأنماط إنفاقهم، وتجميد أو تقييد الحسابات بشكل انتقائي، وربما استخدام هذه الصلاحيات لمكافأة الحلفاء ومعاقبة المعارضين، معتبرًا أن هذا التحول من أداة للشمول المالي إلى أداة محتملة للمراقبة والإساءة يشكل خطرًا حقيقيًا على الحريات المدنية في مرحلة انتقالية حساسة.
رؤية استراتيجية وخيارات آمنة
تواصل “نون بوست” مع وزارة المالية للحصول على توضيحات حول تقييمها لتجربة تطبيق “شام كاش” بما يتعلق بمستوى الأمان والثقة في التعاملات المالية، إضافة إلى الاستفسار عن إمكانية اعتماد أو تطوير تطبيقات دفع إلكتروني أخرى للعاملين في القطاع العام، وما إذا كانت الوزارة تدرس بدائل إضافية. ولم يتلق الموقع ردًا حتى وقت نشر التقرير.
ويقول الباحث الاقتصادي ملهم الجزماتي إن الانتقال من “شام كاش” لا يعني العودة إلى المشكلات السابقة، بل يتطلب تبني رؤية استراتيجية لتطوير قطاع مالي رقمي آمن ومنظم.
تبرز هنا عدة خيارات واعدة يمكن البناء عليها وفق الباحث، لافتًا إلى أن مذكرة التفاهم الموقعة في 23 سبتمبر/أيلول 2025 بين البنك المركزي السوري وشركة “ماستركارد” تعد خطوة مهمة في هذا الاتجاه، إذ تهدف إلى تطوير بنية تحتية وطنية للمدفوعات، وإصدار بطاقات دفع محلية ودولية، وربط البنوك السورية بشبكات الدفع العالمية، مما يوفر بديلًا موثوقًا وآمنًا يعمل ضمن معايير دولية معترف بها.
وإلى جانب ذلك، يمكن للحكومة السورية، بدعم الشركاء الدوليين، العمل على بناء منصات دفع إلكترونية تخضع لرقابة البنك المركزي، وتعمل ضمن إطار قانوني واضح يحمي بيانات المستخدمين ويضمن المنافسة العادلة بين مقدمي الخدمات.
كما يمكن للشركاء الدوليين دعم توفير أدوات الإبلاغ، وبناء القدرات، وتجريب منصات دفع منظمة مع مشغلي الهاتف المحمول وشركات التكنولوجيا المالية، لتقديم بدائل آمنة للمحافظ الإلكترونية غير الشفافة، وفق الباحث.
وتهدف مذكرة التفاهم مع “ماستر كارد” الدولية إلى تطوير البنية التحتية لنظم المدفوعات الرقمية في سوريا، وتبادل الخبرات وتعزيز الشمول المالي، واستكشاف فرص توسيع نطاق الوصول إلى الخدمات المالية الأساسية لملايين الأشخاص، وتعكس رؤية مشتركة ترمي إلى تعزيز الشمول والمرونة وتكافؤ الفرص من خلال التكنولوجيا، وفق الإعلان الرسمي للمذكرة.
“البيئة النظيفة”
تُعرِّف مؤسسة “البيئة النظيفة” (E-CLEAN) نفسها كـ”مؤسسة خدمية تعتني بنظافة سوريا”، بدأت نشاطها تحت شعار “نحو بيئة مستدامة” في أغسطس/آب 2022، وعملت على تنظيف الطرق وجمع النفايات في خمس مدن بمحافظة إدلب، موّفرة نحو 100 فرصة عمل حينها، قبل أن توسّع نشاطها لاحقًا. ووفق تصريحات سابقة، جاء عملها في إدلب ضمن اتفاق مع وزارة الإدارة المحلية التابعة لحكومة “الإنقاذ”.
في أكتوبر/تشرين الأول 2022، عقب سيطرة “هيئة تحرير الشام” لفترة قصيرة على مدينة عفرين بريف حلب، بعد اشتباكات مع فصائل في “الجيش الوطني السوري”، دخلت آليات مؤسسة “البيئة النظيفة” إلى المدينة لتنفيذ أعمال تنظيف وجمع النفايات في بعض الأحياء. ونظرًا لحداثة المؤسسة وعدم شمول نشاطها لمعظم إدلب حينها، اعتُبر تدخلها في عفرين بمثابة واجهة خدمية مرتبطة بحكومة “الإنقاذ” و”هيئة تحرير الشام”.
لاحقًا، تسلّمت مؤسسة “E-CLEAN” قطاع الحدائق العامة والاستثمار فيه من قبل حكومة “الإنقاذ” بإدلب، ثم توسع نشاطها في المدن والبلدات السورية بعد انطلاق معركة “ردع العدوان” وتوالي السيطرة على مناطق مختلفة، وشملت خدماتها تنظيف الشوارع وفتح الطرق وترميم حاويات القمامة ومكافحة الحشرات، بدءًا من حلب وصولًا إلى حماة وحمص ودمشق وريفها والساحل السوري ودرعا والقنيطرة ودير الزور، سواء عبر فرق مباشرة أو من خلال المشاركة في حملات تنظيف. كما أعلنت المؤسسة عن حاجتها للتعاقد مع موظفين للعمل ضمن فرقها في عدة محافظات، بما في ذلك العاصمة دمشق ومدينة دير الزور.
ويقول أحمد ياسين، مدير فرع مؤسسة “البيئة النظيفة” في إدلب، إن خدمات المؤسسة تغطي محافظة إدلب وجزءًا من محافظة دمشق فقط، مع تخصّصها في إزالة القمامة والنفايات عبر كوادر تضم فرقًا إدارية وسائقين وعمال تكنيس إضافة إلى الآليات اللازمة للعمل اليومي.
ويضيف في حديثه لـ”نون بوست” أن عمل المؤسسة داخل مدينة إدلب يتوزع على سبع مناطق خدمية، لكل منها إدارة تشمل رئيس دائرة ومديرًا للشؤون الإدارية وآخر للآليات، إلى جانب مشرفين يتابعون سير العمل في كل مدينة.
أما وجود فرق المؤسسة في محافظات أخرى فيعود، بحسب ياسين، إلى تدخلات طارئة لا إلى انتشار دائم، إذ تُرسل حملات طوارئ عند تلقي طلب من المحافظات التي تواجه تراكمات في النفايات، بينما يبقى نطاق العمل الأساسي محصورًا في إدلب وجزء من دمشق.
“الراقي” للإنشاءات
تصدرت شركة “الراقي” للإنشاءات تنفيذ المشاريع في الشمال السوري منذ الإعلان عن تأسيسها عام 2020، ويكاد يتركز تنفيذ المشاريع السكنية للنازحين ومخيمات المُهجرين في مناطق سيطرة “تحرير الشام” لديها، إلى جانب مشاريع تأهيل الطرق.
وبين عامي 2021 و2022 نفذت الشركة عددًا من المشاريع الإنتاجية، من أبرزها إنشاء معمل لإنتاج الحديد المستخدم في أعمال الخرسانة المسلحة قرب معبر “باب الهوى”، إضافة إلى محاجر ومجابل ومعامل لإنتاج البلاط والبلوك في المنطقة ذاتها.
يتولى عبد الرحمن سلامة (أبو إبراهيم) منصب المدير التنفيذي للشركة، على الرغم من عدم وجود اسمه ضمن فريق العمل المُعلن، وهو من أبرز الشخصيات القيادية المرتبطة بـ”تحرير الشام” وواجهاتها الاقتصادية. كما يُعرف بقربه من الرئيس الشرع، وقد ظهر برفقته في القصر الجمهوري وفي زيارات أخرى، قبل أن يُعيَّن نائبًا مشرفًا على مناطق عفرين، اعزاز، الباب، جرابلس ومنبج.
وتوسعت أعمال الشركة بعد سقوط نظام الأسد، وتسلّمت تنفيذ عدد من المشاريع، بينها ترميم وتعبيد الطرق المؤدية إلى حلب، بما يشمل طرق الأتارب، دارة عزة، اعزاز، وطريق المطار، إلى جانب صيانة وتجميل مداخل المدينة الرئيسية. كما نفّذت أعمال صيانة وترميم في قرى ريف السويداء الغربي عقب اشتباكات وتوترات أمنية شهدتها.
وفي أغسطس/آب الماضي، بدأت شركة “الراقي” إلى جانب شركة “أركان” تنفيذ مشاريع بنية تحتية بقيمة 12 مليون دولار أميركي، بعد توقيعهما عقودًا مع محافظة إدلب تشمل إعادة تزفيت مدينة إدلب بالكامل، وتأهيل الطريق الرئيسي في مدينة سرمدا، وتزفيت شوارع حيوية في مدينة الدانا.
“المبدعون السوريون”
انطلقت منصة “المبدعون السوريون” في مارس/آذار 2021، بوصفها مشروعًا إعلاميًا صادرًا عن شركة “Creative Inception” التي تأسست في إدلب، وركزت في تغطياتها على قضايا الشمال السوري مع حضور أقل تجاه السوريين في تركيا.
وخلال فترة عملها، واجهت المنصة اتهامات تتعلق بتبعيتها لـ”تحرير الشام“، ورغم نفيها ذلك، طالتها انتقادات بانحياز ظهر في طريقة تناولها لعدة قضايا، منها حادثة إطلاق النار على سيدة شمالي إدلب على يد عناصر يتبعون لـ”تحرير الشام”، وفي تجاهل تغطية حراك سلمي شهدته إدلب ضد ممارسات “الهيئة”، خصوصًا فيما يتعلق بملف المعتقلين.
وبالتزامن مع معركة “ردع العدوان”، طرح تطبيق “شام كاش” خدمة التبرع والمشاركة في دعم إدارة العمليات العسكرية التي قادت المعركة، بينما أجرت “المبدعون السوريون” بثًا مباشرًا وتغطية خاصة لحملة التبرع.
وبحسب رصد “نون بوست”، تراجع نشاط المنصة وانخفضت وتيرة إنتاجها الإعلامي بعد سقوط نظام الأسد، ولم تسجّل نموًا أو توسعًا مماثلًا لمؤسسة “E-Clean” أو تطبيق “شام كاش” أو شركة “الراقي”، إلا أن التمدد برز خارج إدلب عبر انتقال بعض كوادرها إلى مؤسسات إعلامية حكومية، من بينهم موسى البكر الذي تولى منصب مدير العلاقات العامة في “الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون” بعد عمله السابق في إدارة العلاقات العامة لدى “Creative Inception”، وعلاء برسيلو الذي أصبح مديرًا عامًا للهيئة العامة ذاتها بعد أن شغل منصب المدير العام لمنصة “المبدعون السوريون”.
يقول صحفي من مدينة إدلب، فضّل عدم ذكر اسمه، إن انحياز منصة “المبدعون السوريون” أو تقاطُعها مع رواية “تحرير الشام” و”الإنقاذ” أمر يصعب إنكاره، مرجّحًا أن القائمين عليها تعاملوا مع هذا التقاطع بوصفه خيارًا ينسجم مع رؤيتهم لعدم إضعاف مشروع “تحرير الشام”، رغم أن هذا النهج يتعارض مع أسس العمل الإعلامي المسؤول، وفق وصفه.
ويرى الصحفي في حديثه لـ”نون بوست” أن انتقال بعض كوادر المنصة إلى مناصب في مؤسسات إعلامية حكومية لا يعني بالضرورة إقصاءً لآخرين، لكنه يمكن أن يساهم في الحد من بعض الأنماط التقليدية المتجذّرة داخل الإعلام الرسمي. ويؤكد أن الطريق ما يزال طويلًا لتحقيق تغييرات أوسع، آملًا أن تتجه المرحلة المقبلة نحو قدر أكبر من تكافؤ الفرص.
“ولاء ومرونة”.. شفافية وعقد اجتماعي ضروريان
هذا التوسع في نشاط بعض المؤسسات والتطبيقات من إدلب إلى محافظات أخرى يثير تساؤلات حول طبيعته، بين اعتباره خطوة لنقل الخبرات وتعزيز الدمج والاحتكاك بين الكوادر والحد من استمرار الفساد، لا سيما أن سوريا بقيت ضمن المراتب الأخيرة في مؤشر مدركات الفساد، حيث احتلت في عام 2024 المركز 177 من أصل 180 دولة، وبين احتمال تركّز النفوذ أو نوع من الهيمنة أو سيطرة محددة على إدارة الموارد والخدمات العامة.
ويقول أيمن الدسوقي، باحث متخصص في الاقتصاد السياسي والإدارة المحلية، إن منطقة حكومة “الإنقاذ” سابقًا تشكلت فيها هياكل وترتيبات رسمية وغير رسمية لإدارة المنطقة وتوفير الخدمات لها، وكان لها نجاحات في تحقيق ما سبق مدعومة بعوامل متعددة. وعلى الرغم من سقوط نظام الأسد، واصلت مؤسسات الدولة الاستمرارية، وإن طالها الضرر الشديد على مستوى البنية والأداء والانتشار.
ويعتقد الباحث في مركز “عمران للدراسات” خلال حديثه لـ”نون بوست” أن اعتبارات مرتبطة بالولاء جذرها الهواجس الأمنية تجاه مؤسسات الدولة، لجهة أنها ما تزال مخترقة من قبل شبكات نظام الأسد وحلفائه. وهناك أيضًا اعتبارات واقعية فرضتها حالة مؤسسات الدولة، إذ ثمة حاجة لأطر مرنة تتجاوز البيروقراطية الضخمة، المفرغة من وظائفها والمستنزفة لموارد الدولة، وهذا ما يفسر الاعتماد المركزي على الهياكل والترتيبات والكوادر التي كانت عاملة في منطقة حكومة “الإنقاذ”، بما تحققه من معياري الولاء والمرونة، وما رافقه من انزياحات، واستبدال للشبكات والكوادر، وتغيّر في البنى والوظائف.
ويرى الدسوقي أن ما حدث طبيعي في الفترة الأولى التي تلت سقوط نظام الأسد، فلا يوجد تصور متكامل لإدارة مؤسسات الدولة مبني على عقد اجتماعي جديد، ولا خطط واضحة لكيفية دمج النظم الحوكمية التي كانت سائدة أو ما تزال في منظومة حوكمة وطنية واحدة، وهذا ما يجعل الهياكل الرسمية وغير الرسمية التابعة سابقًا لحكومة “الإنقاذ” وغيرها تتفاعل مع الهياكل الرسمية للدولة السورية تأثرًا وتأثيرًا، وهذا بدوره يخلق مساحات رمادية من عدم الوضوح في الأدوار والوظائف، ومؤشرات ذلك كثيرة.
ويعتقد الباحث أن ضعف الشفافية واستمرار غياب عقد اجتماعي جديد، وتصور وطني لكيفية دمج منظومات الحوكمة السابقة بالمنظومة الوطنية للدولة السورية، من شأنه أن يعزز مساحات الاحتكاك السلبية بين الهياكل الرسمية وغير الرسمية، ويؤثر على ثقة السوريين والخارج بالمؤسسات القائمة. كما يمكن أن يؤثر على فرص اندماج منظومات الحوكمة القائمة، أي شمال شرق سوريا بشكل أساسي، في منظومة الدولة السورية مجددًا.