يمثل الجيل “زد” شريحة محورية بلغت سن الرشد في خضم أزمات اقتصادية متلاحقة وثورة رقمية غير مسبوقة. هذا الجيل، المعروف بكونه “المواطن الرقمي الأصيل”، لا يكتفي بالتكيف مع التغييرات، بل يعيد تعريف مفهوم القوة نفسها في المجتمع الحديث، مساهمًا في تحول جذري للقوة الاقتصادية والثقافية بعيدا عن الهياكل الهرمية التقليدية.
تُقدر القوة الشرائية العالمية لهذا الجيل لتصل إلى 12.6 تريليون دولار بحلول عام 2030، وسيشكلون حوالي 27% من القوى العاملة في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهذه القوة المالية المتنامية، المقترنة بأسلوب حياتهم المستقل وتشككهم العميق في المؤسسات التقليدية، تخلق مسارا جديدا لتوزيع السلطة.
لفهم هذه التحولات، يجب تأطير سلوكهم وفقًا للنظريات السوسيولوجية المعاصرة، فمفهوم الحداثة السائلة لزغمونت باومان يفسر تآكل الهياكل الاجتماعية والاقتصادية الصلبة وعدم اليقين المتزايد في العالم، بينما يقدم تحليل القوة المعرفية لميشيل فوكو إطارًا لفهم كيف ينتقل الانضباط من نظام هرمي مرئي إلى نظام خوارزمي غير مرئي في البيئة الرقمية. في المقابل، يفسر مفهوم المرجعية الذاتية لأنتوني جيدنز سعي هذا الجيل للوعي الذاتي ووضع الحدود الشخصية كآلية لاستمداد السيطرة على الذات في مواجهة اللايقين الخارجي.
في هذا المقال، نحاول نقاش رؤية جيل “زد” للمستقبل وعلاقته بالقوة والمؤسسات، مع التركيز على أسلوب حياتهم المستقل، والعزلة الاجتماعية، كما إعادة تعريف مفاهيم الأسرة والارتباط، وكيف تؤثر اختياراتهم الاقتصادية والاجتماعية على توزيع القوة في المُجتمع؟
الشك المؤسساتي وتفكيك القوة العمودية
يعيش جيل “زد” في حالة شك عميق تجاه المؤسسات التقليدية، إذ تُظهر البيانات تدني مستويات الثقة باستمرار في قطاعات رئيسية، فمقارنة بالأجيال الأكبر سنًا، أفاد الجيل “زد” بأقل مستويات الثقة في الكونغرس، والإعلام الإخباري، والرئاسة، وشركات التكنولوجيا الكبرى، حيث يثق بهم واحد من كل ستة أشخاص أو أقل. وحتى أدوات الضبط الاجتماعي، مثل الشرطة ونظام العدالة الجنائية، تشهد انخفاضا في الثقة بين الجيل زد (53%) مقارنة بالمتوسط العام للبالغين (70%). هذا التشكك الجذري يمتد إلى جميع جوانب الحوكمة، مما يجعلهم أقل استعدادا للانخراط في الأشكال التقليدية للمشاركة المدنية أو الإيمان بفاعلية التصويت مقارنة بالأجيال الأكبر.
إن هذا الشك ليس مجرد ميل عاطفي أو غياب للوعي، بل هو رد فعل عقلاني متأصل في الواقع الاقتصادي الهش الذي نشأوا فيه، حيث يربط التحليل الاجتماعي بين الانخفاض في مستوى الرفاهية والسعادة لدى هذا الجيل وارتفاع التفاوت الاقتصادي، الذي ترك الملايين من الشباب في حالة من الهشاشة النسبية. وتشير البيانات إلى أن أكثر من 4 من كل 10 شباب أمريكيين تحت سن الثلاثين يقولون إنهم “بالكاد يتدبرون أمورهم المالية”، بينما 16% فقط هم من يرون أن وضعهم المالي “جيد جدا”.
إن عبء الديون الطلابية وارتفاع تكلفة المعيشة يؤدي إلى تأخير الأهداف التقليدية للحياة. عندما تفشل المؤسسات (كالتعليم والبنوك والحكومة) في توفير الأمن المادي والمسار المهني المستقر الذي وعدت به الأجيال السابقة، يتحول الجيل الجديد بشكل طبيعي إلى استراتيجيات بقاء لامركزية والاعتماد على الذات.
في مقابل انهيار الثقة العمودية، يحدث تحول حاسم في القوة نحو الشبكات الأفقية، إذ يثق 74% من الشباب في شبكاتهم الشخصية (الأقران)، بينما يثق 19% فقط في شركات التكنولوجيا الكبرى أو الحكومات الفيدرالية. هذا التحول يعكس ما يمكن تسميته “الثورة الأفقية”، حيث يتم استبدال الثقة في السلطة العليا بالثقة في الأقران والمجتمع كشكل من أشكال الاعتماد على الذات المجتمعية.
هذا التحول المؤسساتي لا يقتصر على نقد الأنظمة القائمة من فوق فحسب، بل يمتد إلى بناء بنى بديلة، لا سيما في المجال المالي، حيث يتجلى تفضيل جيل “زد” للأنظمة اللامركزية وغير الهرمية في ابتعادهم عن المؤسسات المالية التقليدية وتبنيهم لمفاهيم مثل البلوك تشين والتمويل اللامركزي، حيث تمثل المنظمات اللامركزية المستقلة (DAOs)، مثل MakerDAO و Uniswap DAO، إعادة توزيع جذرية لسلطة الحوكمة والموارد، فيتم توزيع الثقة عبر الشبكات بدلًا من الاعتماد على سلطات مركزية، ما يظهر استعداد الجيل زد ليس فقط لانتقاد المؤسسات، ولكن لبناء مؤسسات بديلة قائمة على الشفافية الخوارزمية، متجاوزين بذلك عدم اليقين المرتبط بالفساد والبيروقراطية التقليدية.
في العالم العربي، يأخذ هذا التشكك المؤسساتي بُعدًا أكثر حدة لارتباطه بضعف الفرص الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، ما يعمق الشعور بالهشاشة واللايقين. بالنسبة لجيل “زد” العربي، الذي يمتلك أعلى معدلات الولوج للإنترنت بين السكان، يصبح الفضاء الرقمي هو الساحة الرئيسية لإعادة توزيع القوة الثقافية والسياسية. فهم لا يكتفون بالتعبير عن الشك؛ بل يمارسون “احتجاج الاقتصاد” و”الثورة الأفقية” عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
يتجلى ذلك في تحويل العمل إلى أداة احتجاجية، حيث يضع هذا الجيل الاعتبارات الأخلاقية والانسجام مع قيمه الشخصية فوق المكاسب المادية المباشرة، ما دفع 31% منهم لرفض مهام وظيفية تتعارض مع هذه القيم. كما أنهم لا يبحثون عن الأمان المادي فحسب، بل عن “المعنى” و”الهدف” في ومن العمل، وهو ما يتفق مع نظرة ماكينزي التي أكدت أن هذا الجيل يولي أهمية بالغة للاعتبارات الإيثارية في طموحاته الوظيفية.
إن التحول إلى الشبكات الأفقية يظهر أيضًا في النشاط الرقمي، حيث يتم استخدام الكوميديا الساخرة ومقاطع تيك توك كأدوات لتحدي السرديات الرسمية، كما ظهر في حركات احتجاجية في المنطقة، حيث يمثلون قوة دفع لا يمكن إنكارها، مما يعكس تحولًا في القوة من القنوات الإعلامية الرسمية إلى منسقين رقميين وشبكات تضامن افتراضية.
الاستقلالية الاقتصادية ووهم التحرر الخوارزمي
يمثل سلوك جيل “زد” في العمل التحول الأكثر وضوحًا في إعادة توزيع القوة الاقتصادية، حيث يشارك 43% منهم في العمل الحر، ويعتبر 28% منهم هذا العمل مصدر دخلهم الأساسي، بزيادة بلغت 67% بين عامي 2020 و 2025. وهذا الاندفاع ليس مجرد تدبير مالي؛ إنه رفض صريح للتسلسل الهرمي للشركات والسعي وراء الاستقلالية والتحكم في الحياة المهنية. جيل “زد” هو الجيل الوحيد الذي يولي الأولوية للمرونة في الموقع وساعات العمل على المزايا التنافسية، مما يعكس الفكرة القائلة بأن “العمل يجب أن يتناسب مع الحياة، وليس العكس”.
كما أن هذه النظرة المهنية مرتبطة بالاعتبارات الأخلاقية والقيمية، إذ يضع هذا الجيل الاعتبارات الأخلاقية والانسجام مع قيمه الشخصية فوق المكاسب المادية المباشرة، مما دفع 31% منهم لرفض مهام وظيفية تتعارض مع هذه القيم. هذا ما يمكن تسميته “احتجاج الاقتصاد”، حيث يتجاوز العمل مجرد الراتب للبحث عن “المعنى” و “الهدف” كشرط أساسي للرضا الوظيفي والرفاه النفسي.
وبالنسبة لهذا الجيل، العمل هو أيضًا وسيلة للتعبير عن الذات وتحدي الأنظمة التي يرونها قد فشلت في تحقيق الاستقرار المادي لهم. بل إن 25% من العاملين في مجال التكنولوجيا من هذا الجيل يطمحون إلى الجمع بين وظيفة بدوام كامل وعمل مستقل جانبي، وهو ما يتجاوز نسبة من يفضلون العمل التقليدي بدوام كامل.

مع ذلك، فإن السعي وراء الاستقلالية يُظهر تناقضًا عميقًا، فإعادة توزيع القوة الاقتصادية، حسب الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، لا يؤدي إلى تحرر كامل، بل إلى تحول في شكل السيطرة، إذ يكسر جيل “زد” قيود الهيكل التقليدي ليقع تحت قيود النظام الرقمي اللامركزي. في اقتصاد العمل الحر، يجد العمال المستقلون أنفسهم تحت سيطرة “الرقابة الخوارزمية” لمنصات العمل، والتي تعمل كـ “صاحب عمل خفي” يحدد التقييم والترتيب.
وعلى الرغم من أن المنصات توفر مرونة ظاهرية، إلا أن نظام التقييم غير المرئي هذا (الذي يشبه نظام “البانوبتيكون” الفوكوي الرقمي) يجبر العمال على ممارسة “الامتثال الاستباقي” (Anticipatory Compliance)، إذ تشمل ممارسات الامتثال هذه التقليل من قيمة عملهم أو الحد من التواصل مع العملاء لتجنب عقوبة الخوارزمية، مما يضمن استمرارهم في المشاركة على المنصة.
التالي، فإن القوة تنتقل من السلطة الهرمية المرئية (المدير أو الشركة) إلى سلطة خوارزمية منتشرة وذاتية الانضباط. إن القوة المعرفية لم تتلاشَ، بل أصبحت منغرسة في بنية الكود الرقمي. إن التحدي الذي يواجه جيل زد هو أن الاستقلالية أصبحت وهمًا يتم ممارسته تحت إشراف مستمر وغير مرئي للكود البرمجي، مما يؤدي إلى الإرهاق والعزلة الاجتماعية على الرغم من المرونة المعلنة.
الحدود الشخصية والبحث عن الصلابة في العلاقات
ينشأ جيل زد في عالم وصفه عالم الاجتماع البولندي الراحل زيجمونت باومان بأنه “سائل”، حيث تتلاشى الهياكل الثابتة وتصبح العلاقات الإنسانية مرنة ومؤقتة، حيث يشمل هذا التآكل مجال العلاقات الشخصية، وهو ما يجسده مفهوم “الحب السائل”، حيث تعمل تطبيقات المواعدة على تحويل الارتباطات إلى تجارب قابلة للاستهلاك والتخلص. هذا التنازل عن الصلابة الاجتماعية يؤدي إلى مفارقة: الحاجة إلى الأمان تتقاطع مع الرغبة في الحرية، حيث أن الحرية دون أمان هي فوضى تامة..
وعلى الرغم من كونهم الجيل الأكثر اتصالا رقميا، إلا أنهم يعانون من أعلى معدلات الوحدة؛ فقد أظهرت بعض الدراسات أن 80% من جيل زد شعروا بالوحدة خلال الأشهر الـ 12 الماضية. هذه المفارقة تُعزى جزئيًا إلى الوقت المفرط الذي يقضونه على وسائل التواصل الاجتماعي والضغط الاجتماعي المرافق، كما أن 17% فقط من الشباب يشعرون باتصال اجتماعي عميق. هذه العزلة ليست بالضرورة انعكاسا لرفض التواصل، بقدر ما هي نتيجة فقدان مساحات التنشئة الاجتماعية التقليدية وتفضيل المجتمعات المتخصصة عبر الإنترنت التي توفر شعورًا بالانتماء والقيمة المشتركة بدلا من الفضاءات الواقعية.
كاستجابة مباشرة للسيولة المؤسساتية والاجتماعية، يتبنى جيل زد رؤية مبتكرة للأدوار الاجتماعية، مفضلاً “الأفقية” في التفاعلات. هذا يمتد إلى داخل الأسرة والعلاقات الشخصية، حيث يركز هذا الجيل على وضع حدود شخصية صارمة. هذا التحول ليس رفضا للتقاليد بشكل كلي، ولكنه سعي “للأمان العاطفي على السلام المؤقت”. إنهم يعيدون توزيع القوة من العلاقات الهرمية (التي تفرض الولاء) إلى العلاقات القائمة على القيمة المشتركة والمساواة، حيث يسعون للاتصال بدلا من السيطرة، والحوار بدلا من الأوامر.
هذا التوجه نحو بناء هياكل داخلية صلبة، مثل تحديد الحدود الشخصية والعودة العملية للقيم التقليدية (كالزواج المبكر والتركيز على المنزل)، هو طريقة هذا الجيل لـ “صنع أساس صلب” في خضم فوضى الحياة الحديثة. هذا التوجه لا يمثل رجوعا أيديولوجيا، بل هو براغماتية تهدف إلى بناء مركز استقرار نفسي واجتماعي لمواجهة الفوضى الخارجية، حيث قد شاهد هذا الجيل تجربة الجيل السابق (جيل الألفية) في محاولة امتلاك كل شيء، والتي أدت إلى الإرهاق والقلق، فتبنوا مقاربة أكثر استراتيجية وعمدًا تجاه الحياة والعلاقات. إنهم يستخدمون مفهوم المرجعية الذاتية، حسب وصف أنتوني جيدنز، حيث يستمد الأفراد السيطرة على حياتهم من خلال الوعي الذاتي ووضع الأهداف الواضحة في مواجهة حالة اللايقين.
أيضا، ولا سيما في عالمنا العربي، تتضخم هذه الديناميكية وتأخذ أبعادًا أكثر تعقيدًا؛ فجيل زد هنا لا يواجه فقط “سيولة” باومان في المؤسسات، بل يواجه أيضًا هياكل أسرية ومجتمعية تقليدية قوية لا تزال تفرض الولاء العمودي الصارم والتوقعات الاجتماعية الجامدة. هذا التناقض يخلق صراعًا بين الضرورة الثقافية للحفاظ على الروابط العائلية وبين سعي الفرد (المرجعية الذاتية) للوصول إلى “الأمان العاطفي” عبر وضع حدود صارمة.
نتيجة لذلك، تتحول الحدود الشخصية من خيار حديث إلى استراتيجية بقاء نفسية تجلب الراحة، يسعون من خلالها إلى “تحويل” العلاقة التقليدية إلى علاقة آمنة ومتبادلة بدلًا من مجرد كسرها. هذا التوجه نحو بناء “بيت صحي” كمركز استقرار، وتحديد القيم، يمثل محاولة عملية لبناء أساس صلب في خضم فوضى الحياة الحديثة، متجنبين بذلك الفشل في تحقيق حالة اليقين الذي رأوه في تجارب الأجيال السابقة.
نهاية، إن إعادة توزيع القوة لدى جيل زد هي تحول سوسيولوجي عميق، حيث تحولت القوة من شكلها الرأسي إلى شكل أفقي سائل (الأقران، الخوارزميات، الشبكات اللامركزية). يتجسد هذا التمرد الأفقي في ثلاثة أبعاد رئيسية: الشك المؤسساتي الذي يدفع نحو الابتكار اللامركزي وبناء أنظمة بديلة، والسعي للاستقلال الاقتصادي الذي يعارضه السيطرة الخوارزمية الخفية، والبحث عن الصلابة الاجتماعية الذي يفسر التركيز على الحدود الشخصية وإعادة تعريف الروابط لمواجهة سيولة الحداثة.
لكن التحدي الأكبر يكمن في استدامة الفعل الجماعي؛ فعلى الرغم من القدرة الهائلة على التعبئة السريعة عبر النشاط الرقمي، كما حدث في احتجاجات مدغشقر مثلا، فإن اللامركزية المفرطة قد تعوق الاستدامة المؤسسية وتنسيق الأنشطة، مما يتطلب وقتًا وموارد إضافية للوصول إلى توافق في الآراء. وعليه، فإن مستقبل القوة يتطلب من المؤسسات إظهار المرونة والشفافية عبر تجاوز المكافآت المادية إلى دمج “المعنى” في بيئة العمل، وتوفير آليات تتيح المشاركة الفعلية في صنع القرار وتقدم تقييمًا واضحًا، للنجاح في تحقيق التوازن بين الحرية والأمن في هذا العالم الذي يزداد سيولة ولايقين.