لم يكن قطاع الأوقاف في سوريا مجرّد مؤسسة دينية تدير العقارات وتجمع الريع لخدمة المحتاجين؛ بل كان لقرون طويلة أحد أعمدة الحياة الاجتماعية والتعليمية في بلاد الشام،غير أنّ هذا الإرث الذي صاغ ملامح المدن وأسهم في بناء المدارس والمستشفيات والجوامع، شهد تحوّلًا جذريًا مع صعود الدولة الأمنية في عهد حافظ الأسد ومن بعده بشار، حيث انتقلت الأوقاف من كونها رافعة للتضامن المجتمعي إلى أداة تتحرك ضمن هندسة السلطة وشبكات نفوذها.
تدريجيًا، لم يعد الوقف فضاءً مستقلاً يعمل لصالح الفقراء والطلاب وأبناء السبيل، بل أصبح جزءًا من منظومة السيطرة التي أعادت تشكيل المجال الديني والاقتصادي في سوريا،ومع إحكام القبضة على مفاصله التشغيلية، تحوّل هذا المورد الهائل إلى مخزن ريعي تستفيد منه مجموعات محددة، فيما تراجعت الوظيفة الاجتماعية التي صنعت تاريخ الوقف في الشام،وبين الأرقام الهزيلة للعوائد والحجم الضخم للأملاك، تكشفت فجوة عميقة تكشف حجم التشوّه الذي لحق بهذه المؤسسة.
بعد سقوط النظام وبروز معلومات كانت محجوبة لعقود، يعود سؤال الأوقاف إلى الواجهة: كيف تحوّلت واحدة من أعرق المؤسسات المجتمعية في المنطقة إلى جهاز إداري منزوع الفاعلية؟ وكيف فقدت دمشق وحواضر الشام إحدى أهم أدوات التكافل والتنمية؟ والأهم، هل يمكن استعادة روح الوقف ليعود رافعة مجتمعية… أم أنّه أصبح جزءًا لا يتجزأ من هندسة السلطة التي يصعب تفكيكها؟
فساد ممنهج وتحويل الأملاك الوقفية إلى شبكة مصالح
شهد قطاع الأوقاف في سوريا واحدة من أوسع عمليات الاستغلال خلال العقود الماضية، بعدما تحوّلت ممتلكاته إلى مصدر ريعي يخدم شبكات السلطة. فبعد سقوط النظام، كشفت مراجعة العقود عن انتهاكات متراكمة، من بينها نقل عقار قرب ساحة الأمويين ثم تأجيره لشركة مرتبطة بالأسد بقيمة أدنى بكثير من قيمته الحقيقية، وإعادة منح عقد “يلبغا” لجهة مقرّبة بعائد منخفض، إضافة إلى استثمار شريط ساحلي في جبلة من قبل عائلات الأسد ومخلوف بإيجارات رمزية،كما بيّنت التحقيقات ضعفاً كبيراً في منظومة الإيجارات، إذ كانت مئات العقارات في دمشق واللاذقية وحلب تُستثمر ببدلات لا تتناسب مع قيمتها السوقية، مثل عقار باب مصلى الذي سجّل إيجارًا متدنّيًا للغاية.
أوقاف ضخمة… وعوائد شبه معدومة
تقدّر البيانات الرسمية وجود نحو 33,700 عقار وقفي في عموم سوريا، بينها عشرات آلاف العقارات ذات القيمة الاستثمارية العالية، إضافة إلى نحو 170 ألف دونم من الأراضي الزراعية والتجارية. ومع ذلك، لا تتجاوز العوائد السنوية 8 ملايين دولار فقط، في مؤشر واضح على ضعف الحوكمة وتفريغ المؤسسة الوقفية من دورها الاجتماعي. كما تشير تقارير صحفية عن عقود مشبوهة منها استئجار 207 دونمات من الأراضي الوقفية على الساحل مقابل 4 إلى 8 دولارات سنويًا، ما يعكس حجم التشوّه في إدارة الوقف وتحويله من مورد تاريخي لخدمة المجتمع إلى أداة خاضعة للنفوذ السياسي
تاريخ مشرف للأوقاف
شكّلت الأوقاف عبر العصور إحدى الركائز الأساسية التي اعتمدت عليها المجتمعات الإسلامية في بناء مؤسساتها التعليمية والخدمية، ويقوم نظام الوقف على تخصيص أصل ثابت، من عقار أو مبنى أو أرض، ومنع تداوله بيعًا أو توريثًا، وتوجيه عوائده بشكل دائم لخدمة منافع عامة، ويتنازل الواقف في نظام الوقف عن ملكيته كاملاً، ليضمن استمرار الريع في قطاعات كالطب والتعليم والإيواء.
وقد أتاح هذا النظام، عبر تاريخه الطويل، تمويل المساجد ودعم المدارس وبناء المستشفيات، إضافة إلى إنشاء مرافق حيوية كالجسور ومحطات المياه، مما يعكس تنوع استخداماته وأثره المجتمعي واسع النطاق.
تعود نشأة الوقف في الإسلام إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم الذي خصّص بساتين في المدينة للفقراء، ثم واصل الخلفاء الراشدون ترسيخ هذا التقليد؛ إذ أوقف عمر أرض خيبر، وجعل عثمان بئر رومة وقفًا عامًا، فيما خصّص علي بن أبي طالب موارد من أراضيه لدعم المحتاجين وطلبة العلم.
وقد احتلت الأوقاف في بلاد الشام مكانة متميزة، ولا سيما في دمشق وسائر حواضرها، حيث أسهمت في ترسيخ نظام تعليمي واسع النطاق. فخصّصت أراضٍ وعقارات لدعم الكتاتيب والمدارس، ورُصدت أموال خاصة للجوامع ومجالس العلم. كما مكّنت هذه الأوقاف من توفير منح للطلاب والعلماء، ودعم حلقات التعليم الشرعي، وتغطية نفقات المحتاجين من مختلف الفئات. وتنوّعت مصارف الوقف لتشمل تمويل رحلات الحج لغير القادرين، وتجهيز الفتيات المقبلات على الزواج، وفكاك الأسرى، والعناية بأبناء السبيل، بل ظهرت أوقاف مخصّصة لإصلاح الطرق أو حتى لتعويض أصحاب الأواني المكسورة. ويكشف هذا التنوع عن حجم الارتباط بين المجتمع الشامي ومؤسسات الوقف، وعمق حضورها في الحياة اليومية.
@noonpostفساد متراكم وموظفون بلا كراسٍ في مديريات الأوقاف في #سوريا.. الأستاذ سامر بيرقدار يتحدث عن واقع الأوقاف في عهد النظام البائد.♬ original sound – NoonPost – نون بوست
ومع اتساع الدولة العثمانية، تعزز دور الأوقاف وتوسع نطاقها ليشمل مشاريع بنى تحتية كبرى، ومن أشهر الأمثلة الجسر الذي شيّده السلطان عبد المجيد خان لربط إسطنبول بغلطة، والذي خُصّص ريعه لدعم مستشفى خيري يعالج فقراء المرضى في العاصمة العثمانية، وهو نموذج يعكس الدور الحيوي الذي أدته الأوقاف في تمويل الخدمات العامة دون تحميل الدولة أعباء إضافية.
إلا أن مكانة الوقف شهدت تحولات واسعة في العصر الحديث. فقد أدت عوامل متعددة إلى تراجع دوره، من ضعف الوعي بالهوية التي شكّلت أساسه، إلى ممارسات الاستعمار الذي صادر كثيرًا من الأوقاف وحوّل ريعها إلى موارد تخدم سلطاته. كما ساهم تبني النماذج الإدارية الغربية في إضعاف مؤسسة الوقف وإقصائها عن دورها المجتمعي. وزاد من هذا التراجع توسّع الدولة الحديثة في السيطرة على الأوقاف في عدد من الدول العربية، بعد أن ألحقتها بالمؤسسات الحكومية وحوّلتها إلى جهاز بيروقراطي جامد، مما أضعف استقلالها التاريخي وأفقدها القدرة على تحديث سياساتها أو مواكبة احتياجات المجتمع. وهكذا انتقل الوقف، الذي كان لقرون طويلة قوة دافعة للتنمية والتعليم والرعاية، إلى مؤسسة محدودة الفاعلية، بعيدة عن الدور الذي اضطلعت به عبر تاريخها.
الاستثمار الاجتماعي امتداد حديث لثقافة الوقف
لا يمكن الحديث عن الوقف وتأثيره التاريخي في المجتمعات الإسلامية دون الإشارة إلى امتداد هذه الثقافة في العصر الحديث، الذي تجسد في ما يُعرف بـ”الاستثمار الاجتماعي“. هذا المفهوم لم يعد مجرد فكرة نظرية، بل أصبح أداة عملية لتوجيه الموارد المالية نحو مشاريع تحقق أثرًا اجتماعيًا ملموسًا، مع إمكانية توليد عائد مالي يضمن استدامة هذه الفوائد.
فالاستثمار الاجتماعي يقوم على مبدأ جوهري مفاده أن مواجهة الفقر وضعف فرص العمل والفجوات التنموية لا يمكن أن تعتمد على الحكومات أو العمل الخيري وحدهما، بل تحتاج إلى مشاركة مجتمعية وأدوات تمويل مبتكرة تجمع بين العائد الاقتصادي والمسؤولية الاجتماعية.
وبالتالي يعكس الاستثمار الاجتماعي امتدادًا حديثًا لفكرة الوقف، إذ يترجم مبدأ حبس الأصول وتوجيه عوائدها للصالح العام مع استخدام أدوات معاصرة أكثر فاعلية، فهو يعتمد على آليات مثل السندات الاجتماعية وصناديق الاستثمار ذات الأثر والشراكات بين القطاعين العام والخاص، بما يسمح بقياس النتائج، وتحسين الكفاءة، وتمويل مشاريع تنموية مستدامة تحافظ على جوهر الوقف في خدمة المجتمع، مع إضافة بعد جديد يقوم على الابتكار المالي واستدامة الأثر.
استعادة الأوقاف كرافعة مجتمعية
مع كشف الحقائق عن حالة قطاع الأوقاف بعد عقود من الإهمال والاستيلاء على الأملاك الوقفية، باتت الحاجة إلى إعادة توجيه هذا المورد الهائل إلى وظائفه الأصلية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، وفي هذا الإطار، أكد السيد سامر بيرقدار، مدير أوقاف دمشق، في عدة تصريحات ومقابلات سابقة أن “مال الوقف هو مال الله، ويجب أن يُستثمر لخدمة المجتمع، لا أن يُستغل لمصالح خاصة أو عقود رمزية”، مشددًا على أن إعادة ضبط القطاع ليست مجرد مسألة إدارية، بل مسار لإحياء رسالة اجتماعية ضاعت لعقود.
وأوضح بيرقدار أن الرقمنة الشاملة لجميع العقارات الوقفية، وعددها نحو 34 ألف عقار، إلى جانب اكتشاف أكثر من 600 عقار مغمور و300 عقار تم التبرع به حديثًا، ستشكل قاعدة بيانات دقيقة تساعد على وقف التعديات وضمان إدارة شفافة للأصول الوقفية،وأضاف أن الوزارة ستشرع في مزادات علنية للأملاك التي تم استردادها، مع إصدار قانون جزائي يحفّز التصريح الطوعي عن أي عقار وقفي مستولى عليه، ويعاقب من يتبين أنه استولى على الوقف دون وجه حق، بما يضمن عدم تكرار التجاوزات التي دمرت القطاع لعقود.
كما شدد بيرقدار على أن استثمار الأوقاف ينبغي أن يرتكز على الأولويات المجتمعية: التعليم، الرعاية الاجتماعية، دعم الفقراء والطلاب، تمويل المستشفيات والمرافق العامة، واستمرار المبادرات التي خدم بها الوقف المجتمع على مدى قرون. وفي حديثه، أبرز أن إعادة التوجيه هذا لا يقتصر على استرداد الأموال أو العقارات، بل يعكس رؤية لإعادة الوظيفة التاريخية للوقف كمؤسسة مستقلة قادرة على تحقيق التكافل والتنمية، مواصلة إرثها الطويل في دمشق وحواضر الشام، ومساهمة حقيقية في مواجهة الفقر.
تشكل عودة الأوقاف إلى مركزها التاريخي في المجتمع استجابة لصوت تاريخي لم يُخمد؛ فهي محاولة لإعادة بناء ما تهدّم أو أُحيِد قسرًا من واجب التضامن والتكافل ، وهي ليست مجرد مراجعة إدارية أو استرجاع عقاري، بل استعادة لرسالة وقفية ضاعت تحت وطأة النفوذ والسلطة، كما يعكس هذا النهج امتداد مفهوم الاستثمار الاجتماعي الحديث، الذي يدمج بين العائد المالي والهدف المجتمعي ومن خلال الإصلاحات الراهنة — الرقمنة، إعادة التقييم، والتشريعات — يمكن تحويل هذه الثروة العقارية إلى موارد قوية لدعم التعليم والمشاريع الخدمية، واستعادة الدور الاجتماعي الحقيقي للأوقاف.
في هذا السياق، تصبح الأوقاف أرض انطلاق لإعادة بناء نسيج اجتماعي متماسك، ليس كآلية ريعية فحسب، بل كرافعة أمل مجددة تخدم المحتاجين والمجتمع ككل، وتجدد ربط المستقبل بقيم الماضي التي أخلصت لمصلحة العامة عبر القرون.