وضع لقاء وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني مع نظيره الصيني وانغ يي إطارًا أوضح للملفات المشتركة بين البلدين، بما فيها التي تشكّل هاجسًا للصين، في حين تعد بكين فاعلًا دوليًا مهمًا لسوريا في مرحلة ما بعد الأسد، خاصة مع رغبة دمشق في المضي بسياسة “تصفير المشكلات” وبناء علاقات هادئة ومتوازنة.
تعد الزيارة التي جرت الاثنين 17 نوفمبر/ تشرين الثاني، أول زيارة رسمية لوزير الخارجية السوري إلى الصين بعد سقوط نظام بشار الأسد، وقد حمل البيان الختامي العديد من الملفات المشتركة والتوافقات، مع الرغبة في إعادة العلاقات إلى “مسارها الصحيح”، بعد أن كانت الصين حليفًا لنظام الأسد، وداعمة له سياسيًا ودبلوماسيًا.
نسلط الضوء في هذا التقرير، على أبرز الملفات خلال لقاء الوزيرين في العاصمة بكين، وطبيعة العلاقة بين البلدين، وتأثيرها على السياسة السورية وإمكانية موازنة سوريا بين الصين والولايات المتحدة، في ظل عدم رغبة الأخيرة بتصاعد دور بكين في شرق المتوسط.
تقارب حذر
بدت الصين حذرة ومتوجّسة في تعاملها مع الإدارة السورية الجديدة، منذ الساعات الأولى لسقوط نظام بشار الأسد. النظام الذي ربطتها به علاقات وطيدة ووفّرت له غطاءً دبلوماسيًا واسعًا، مستخدمة حقّ النقض “الفيتو” تسع مرات بعد عام 2011 ضد مشاريع قرارات في مجلس الأمن تتعلق بالشأن السوري، بهدف منع إدانته في ملفات انتهاكات حقوق الإنسان واستخدام الأسلحة الكيميائية، ولعرقلة تمرير قرارات تخص دخول المساعدات الإنسانية عبر الحدود، في مواقف مماثلة لروسيا حليفة الأسد.
وجاء تعامل بكين مع دمشق بخطوات متأنية ومترددة، يثقلها إرث اصطفافها السابق مع الأسد، وقلقها الواضح من المخاطر المحتملة المرتبطة بمقاتلي الإيغور المنضوين في “الحزب الإسلامي التركستاني” داخل سوريا، مع تكرارها التحذيرات من استمرار نشاط هؤلاء المقاتلين، وتأكيدها على ضرورة التزام دمشق بتعهداتها في ملف مكافحة الإرهاب.
وتجلّى النهج الحذر للصين في امتناعها عن التصويت على مشروع القرار المقدم إلى مجلس الأمن لشطب اسم الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب من قوائم العقوبات المرتبطة بالإرهاب، في 6 من نوفمبر/تشرين الأول الحالي. وبررت موقفها بأن القرار لا يلبّي المبادئ والاعتبارات التي تراها ضرورية لتحقيق الاستقرار في سوريا، ومكافحة الإرهاب، والتعامل مع ملف المقاتلين الأجانب.
في المقابل، تؤكد الإدارة السورية الجديدة أنها تسعى إلى بناء علاقات متوازنة وهادئة مع مختلف الدول، في إطار سياسة “تصفير المشكلات” ومحاولة تعزيز حضورها الإقليمي والانفتاح مجددًا على الساحة الدولية. وقد شدد الرئيس الشرع على أن سوريا تهدف إلى إقامة علاقات مستقرة مع الجميع.
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قال الوزير الشيباني في معرض حديثه عن العلاقة مع الصين إن سوريا قد أعادت إصلاح هذه العلاقة، مشيرًا إلى أن البلاد بحاجة إلى الصين في هذه المرحلة من أجل إعادة الإعمار، لافتًا إلى أن زيارة بكين تأتي تلبية لدعوة رسمية من الحكومة الصينية.
وخلال الأشهر الماضية، شهدت العلاقة بين الجانبين بعض اللقاءات التمهيدية، كان أولها في فبراير/شباط الماضي بين وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة تصريف الأعمال آنذاك، ماهر خليل الحسن، ووفد تجاري صيني لبحث سبل تعزيز التعاون التجاري الثنائي. كما جرى في الشهر نفسه لقاء آخر ضمّ الرئيس الشرع ووزير الخارجية الشيباني مع السفير الصيني بدمشق شي هونغ وي.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، استقبل مرفأ طرطوس باخرة تجارية قادمة من الصين، محمّلة بأكثر من 16 ألف طن من الحديد والمعدات المتنوعة، لصالح شركة “شنغهاي”، في أول عملية استيراد مباشرة من الصين عبر هذا المرفأ. كما استقبل المرفأ ذاته في سبتمبر/ أيلول، باخرة قادمة من الصين محمّلة بـ50 ألف طن من الأرز.
ملفات والتزامات
في بيان مشترك عقب لقاء وزيري الخارجية، أكد الجانبان أن المحادثات جرت في “أجواء بنّاءة”، وشهدت تبادلًا واسعًا لوجهات النظر حول العلاقات الثنائية والقضايا ذات الاهتمام المشترك، مع بحث حزمة من الملفات التي عكست رغبة مشتركة في توسيع التعاون وتأكيد أهمية “علاقات الصداقة التاريخية”، وكانت أبرز المحاور:
- بحث التعاون في مجالات الاقتصاد والتنمية وإعادة إعمار سوريا وبناء القدرات وتحسين الظروف المعيشية، إلى جانب مجالات الاهتمام المشترك الأخرى.
- الاتفاق على مكافحة الإرهاب وتعزيز التنسيق الأمني، مع التأكيد على أهمية منتدى التعاون الصيني–العربي ومواصلة العمل ضمن إطاره.
- تجديد التزام سوريا بمبدأ الصين الواحدة، والتأكيد على أن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين، ودعمها لسيادة الصين ووحدة أراضيها ورفضها أي تدخل خارجي في شؤونها، ودعمها لجهود إعادة توحيد البلاد.
- تعهد سوريا بمراعاة الشواغل الأمنية الصينية وضمان عدم استخدام أراضيها بما يضر أمن الصين أو مصالحها.
- تأكيد الصين احترام سيادة سوريا واستقلالها ووحدة أراضيها واعتبار الحكومة السورية الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري، ودعم العملية السياسية بقيادة دمشق، والإشادة بجهودها في مكافحة المخدرات وتعزيز سيادة القانون وحماية حقوق السوريين، إضافة إلى التأكيد على أن الجولان أرض سورية محتلة.
وبالتزامن مع اللقاء، نقلت وكالة “فرانس برس” عن مصدرين سوريين (حكومي ودبلوماسي)، أن سوريا تعتزم تسليم 400 مقاتل من أقلية الإيغور المسلمة إلى الصين. غير أن الخارجية السورية سارعت إلى نفي ذلك، إذ أكد مصدر في الخارجية أنه لا صحة لما أوردته الوكالة.
ويرى الباحث آرون لوند، الزميل في مؤسسة “Century International” البحثية، أن السلطات الصينية تشعر بقلق بالغ من أن تتحول سوريا إلى قاعدة لانفصال الإيغور، نظرًا لوجود حركة تركستان الشرقية الإسلامية في سوريا وعلاقتها الوثيقة بـ”هيئة تحرير الشام” (قادت معركة ردع العدوان التي أدت لسقوط نظام الأسد). ويرجّح أن دمشق عرضت إبقاء السلطات الصينية على اطلاع ومراقبة أنشطة الإيغور في البلاد لضمان عدم اتخاذ أي إجراء ضد الصين.
ويقول لوند لـ”نون بوست” إن زيارة الشيباني لبكين تعكس استمرار الحوار بين الجانبين حول هذه القضية، كما تؤكد حرصهما على المضي قدمًا وبناء علاقة جيدة، مشيرًا إلى أن سوريا أدلت بكل التصريحات المتوقعة لطمأنة الصين بشأن مكافحة الإرهاب ومعارضة استقلال تايوان، فيما جددت الصين بدورها دعمها لوحدة أراضي سوريا.
من جانبه، يقول المحلل السياسي درويش خليفة لـ”نون بوست” إن اللافت في البيان المشترك هو إعلان الوزير الشيباني اعترافه بسيادة الصين على تايوان، وذلك بعد أقل من أسبوعين على امتناع المندوب الصيني عن التصويت على قرار رفع العقوبات المفروضة على الرئيس الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب.
ويرى خليفة أن هذا التطور يعكس أن الدوافع السورية تتراوح بين الضرورة والحسابات الاستراتيجية. فدمشق تريد، مقابل هذا الاعتراف، دعمًا اقتصاديًا لإعادة الإعمار وتنويع الشركاء، فيما تُظهر بكين استعدادًا لدعم التنمية الاقتصادية، وبناء القدرات، وتحسين مستويات المعيشة، مع التركيز على التعاون في ملفي مكافحة الإرهاب والمخدرات.
في المقابل، تلتزم سوريا بعدم السماح باستخدام أراضيها ضد المصالح الصينية، ولا سيما فيما يتعلق بـ”حركة التركستان الشرقية” التي تعدّها بكين تهديدًا مباشرًا للأمن في شينجيانغ. في حين جاء الموقف الصيني في البيان قريبًا من موقفها تجاه “إسرائيل”، إذ أكد دعمه لسوريا في قضية الجولان باعتباره أرضًا سورية محتلة. كما يفتح البيان الباب لتعزيز التعاون ضمن المنتدى الصيني–العربي، بما يمنح دمشق أوراقًا إضافية في المنطقة.
أما على مستوى اللغة، فيشير خليفة إلى أن البيان جاء إيجابيًا وشاملًا، ومن الطبيعي أن تحمل الوثيقة الأولى بين الجانبين طابعًا دبلوماسيًا يتفادى الملفات الخلافية. لكن ذلك لا يلغي التحديات المرتبطة بعلاقة سوريا بالغرب، وهو ما ظهر من خلال انضمامها إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة، بالإضافة إلى ملف المقاتلين الأجانب، حيث تقول بكين إن أعداد الداخلين عبر مطاراتها تفوق بعشر مرات مما تعترف السلطات السورية.
سياسة التوازنات وموقف واشنطن
بدأت سوريا مرحلة سياسية جديدة بعد إسقاط نظام الأسد، ترتكز على تصفية الإرث الثقيل وتسوية الخلافات مع دول عدة، ولم تغلق قنوات التواصل مع حلفاء الأسد وداعميه لا سيما روسيا والصين، كما تبنت سياسة خارجية قائمة على الحوار والتعاون واحترام السيادة، مع مقاربة واقعية لتوازن القوى. وشهدت دمشق حراكًا دبلوماسيًا وتنشيطًا لعلاقاتها مع دول كانت على قطيعة معها، بما فيها الولايات المتحدة.
وفي خضم الحراك الدبلوماسي المتسارع الذي تشهده دمشق، ومع محاولتها إعادة رسم سياستها خارجيًا، يبقى ملف موازنة سوريا لعلاقاتها مع القوى الدولية المتنافسة موضع نقاش، لا سيما التنافس بين الصين والولايات المتحدة، ومدى انعكاس عودة العلاقات بين سوريا والصين على علاقة دمشق وواشنطن، أو وضعها في دائرة الإرباك.
ويرى الباحث آرون لوند أن التواصل مع الصين جزء من سياسة القيادة الجديدة في دمشق القائمة على الانفتاح على جميع الدول وتجنب الصراع، خاصة مع القوى العظمى والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، مشيرًا إلى أن الصين تبدو مستعدة للرد بالمثل.
ويشير الباحث إلى أن الصين لم تقدّم أي وعود باستثمارات كبيرة في سوريا، كما أنها لم تنفق الكثير من المال لدعم حكومة بشار الأسد قبل عام 2024. ولم تشكل التفاهمات الاقتصادية بين سوريا والصين في عهد الأسد فارقًا ملموسًا في الاقتصاد السوري، بما فيها اتفاقية للتعاون الاستراتيجي التي وقّعت خلال زيارة الأسد لبكين عام 2023.
ولا يتوقع الباحث أن تعيق الولايات المتحدة تحسين العلاقات السورية الصينية، إلا ربما في حال حدوث أزمة كبيرة في علاقات واشنطن مع بكين، مشيرًا إلى أن واشنطن تشعر بالقلق إزاء الوجود الاقتصادي الصيني المتزايد في شرق البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، ولكن من المستبعد أن تصبح الصين وسيطًا رئيسيًا في سوريا في أي وقت قريب.
وبشكل عام، يرجح الباحث أن يتجاوز اهتمام واشنطن بسوريا مستقرة وناجحة -الآن بعد أن قرر ترامب دعم حكومة الشرع- أي مخاوف بشأن دور الصين في سوريا. وقد تشيد واشنطن حتى بسوريا لحل مشاكلها مع الصين، لصالح الاستقرار.
ويضيف لوند لـ”نون بوست” أن الولايات المتحدة قد تغير رأيها في هذا الصدد مستقبلًا، إذا برزت الصين كلاعب اقتصادي مهم للغاية في سوريا، أو إذا تطورت العلاقات العسكرية الصينية السورية بشكل كبير، حينها من المؤكد أن ذلك سيثير معارضة الولايات المتحدة، مستبعدًا احتمالية هذا الأمر في الوقت الحالي.
ويقول المحلل السياسي درويش خليفة لـ”نون بوست” إن سوريا لا تبدو في وضع يسمح ببلورة توجهات خارجية مستقرة في المدى القريب أو المتوسط، فمشكلاتها الداخلية لا تقل ثقلًا عن تعقيداتها الخارجية المرتبطة بالعقوبات، والتدخلات الإسرائيلية، والإرث الثقيل الذي خلّفه النظام السابق، معتبرًا أن هذه العوامل مجتمعة تضع البلاد أمام سلسلة من العقد المتراكمة التي تحتاج إلى تفكيكها تدريجيًا.
وعلى المستوى الداخلي، واجهت الإدارة السورية الجديدة عدة تحديات ومطبات لا تزال تداعياتها مستمرة، أبرزها اشتباكات وانتهاكات في الساحل السوري والسويداء، مع دعوات في المحافظة للاستقلال وحق تقرير المصير، بينما تسير قضية دمج “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في الجيش السوري ببطء مع عراقيل وتحديات تعيق تقدمها.
