يمثل التحول الجذري في أنماط الاتصال والتعبير في العالم العربي، من عمق السرد في المدونات والمنصات ومراكز الأبحاث إلى الإيقاع السريع لمقاطع الفيديو القصيرة والريلز، نقطة تحول حاسمة في هندسة الخطاب العام، حيث يقف جيل زد (Gen Z)، الذي ترعرع بالكامل في خضم الثورة الرقمية، في صلب هذا التغيير، معيدًا تعريف القواعد التي تُمارس بها السياسة، ويُعبّر بها عن النقد الاجتماعي، وتُستهلك بها المعرفة.
إن هذه اللغة الرقمية الجديدة، القائمة على الرمز والسخرية والانتشار الفيروسي، تمنح الجيل العربي أدوات غير مسبوقة للتحكم في وقته وطاقته النفسية والاجتماعية، وتنعكس مباشرة على وعيه الصحي ونمط حياته اليومية.
بناءً على هذا التحول، تسعى هذه المقالة إلى الغوص في الأبعاد المتعددة لهذه الظاهرة في عالمنا العربي، من خلال ثلاثة محاور رئيسية: أولها، تحليل التحول اللغوي والوزن الديموغرافي لجيل زد، مرورا بتآكل البنية السردية للمدونات إلى سيادة الريلز والذكاء الاصطناعي. ومن ثم، تناول إعادة تعريف الفعل العام، وكيف يُمارس جيل زد السياسة اللامركزية عبر الميمات ومقاطع الريلز ويشكل اقتصاد التأثير من خلال المؤثرين العرب. وأخيرًا، حول نقاش الأثر المعرفي والنفسي للغة السرعة، والبحث في السؤال الجوهري حول ما إذا كانت هذه الأدوات قادرة على إنتاج وعي نقدي مستدام، أم أنها تتحوّل سريعًا إلى مجرد وسائل للاستهلاك والتفريغ العاطفي دون أثر طويل المدى.
التحول اللغوي: من عمق التدوين إلى سرعة الترميز
يشكل جيل زد كتلة بشرية هائلة وذات أهمية استراتيجية في العالم العربي، حيث يمثل الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و35 عاما حوالي 34% من سكان المنطقة، وهو أعلى معدل ديموغرافي على مستوى العالم. هذا التكتل الهائل من الشباب، والذي نشأ بالكامل في بيئة متصلة، هو القوة الدافعة للتطورات السياسية والاقتصادية المستقبلية.
يُعرف أفراد هذا الجيل بأنهم “الجيل الرقمي الأصيل”، الذي يمتلك مهارات تكنولوجية فائقة، مما يفرض على الحكومات العربية تبني استراتيجيات رقمية متقدمة، والاستثمار في محتوى محلي يتناغم ثقافيا لتحقيق التنمية المستدامة، وهذا الانتشار الرقمي غير المسبوق يعكس تحولًا في المشهد العام؛ إذ بلغ عدد مستخدمي الإنترنت في العالم العربي نحو 348 مليون مستخدم، بينما يستخدم حوالي 228 مليون شخص وسائل التواصل الاجتماعي، وتعتبر دول مثل مصر في الطليعة بأكثر من 50.7 مليون مستخدم لهذه الوسائل.
قبل سيادة المحتوى المرئي القصير، مثلت المدونات العربية، خاصة بعد أحداث مثل الانتفاضة الثانية في فلسطين والاحتلال الأميركي لأفغانستان ومن ثم العراق، منصة حرجة للخطاب العميق والصريح، وكانت المدونات تعمل كـ “إعلام بديل” يقدم معلومات وآراء بجرأة قد لا يقدمها الإعلام الرسمي، وكانت تشبه المذكرات الخاصة التي تكتب بصدق وجرأة، متناولةً قضايا حميمية وشخصية إلى جانب التحليل الجيوسياسي.
وفرت المدونات مناخا “حضاريا” للحوار المتعمق، وكانت تتطلب قدرا كبيرا من الوقت والجهد في القراءة والكتابة، مما عزز الاستدلال والتحليل. في المقابل، يمثل التحول إلى الريلز تضحية بهذه البنية السردية المعقدة لصالح سرعة التلقي، إذ كانت المدونة في جوهرها أداة لـ “تأطير” الأفكار المعقدة بناءً على القراءة والبحث، أما الريلز فهي أداة لـ “تداول” الرموز السريعة والمشاعر الفورية، ما يعكس تحولا من الخطاب الذي يهدف إلى تكوين المعرفة إلى خطاب يسعى إلى توليد التفاعل اللحظي.
في الوقت الحالي، يقود جيل زد تحولا جذريا في شعبية المنصات، حيث يتصدر تيك توك المشهد بفضل استهلاك المحتوى المرئي القصير، وقد كشفت بعض الدراسات أن جيل زد يهاجر من محركات البحث التقليدية مثل “غوغل” ويفضل البحث عن المعلومات عبر “تيك توك“، وأصبح هذا التفضيل للمحتوى المكثف هو الاتجاه المستقبلي الذي دفع عمالقة التطبيقات، مثل فيسبوك وإنستغرام، إلى تبني هذه الميزة لتقديم محتوى إخباري مُكثف ودقيق في أقل من 60 ثانية، فلم تعد جودة الخطاب تقاس بالعمق بقدر ما تقاس بالقدرة على توصيل معلومة دقيقة في زمن قياسي.
ونتيجة لهذا التكثيف الإجباري، لجأت المؤسسات والأفراد إلى تحويل المحتوى الطويل إلى إنفوجرافيك أو مقاطع فيديو تلخص الأفكار، فيما يؤدي هذا الاعتماد على السرعة إلى خطر التسطيح المنهجي للمعلومات المعقدة، ورفع قيمة الإبداع البصري على حساب البحث المتعمق.
وفي الوقت ذاته، يتزايد دور الذكاء الاصطناعي (AI) في صقل المحتوى القصير وزيادة انتشاره، حيث تعتمد أدوات صناعة الريلز عليه لتحسين المؤثرات وتخصيص المحتوى بناءً على تفضيلات الجمهور، مما يعزز جاذبيته وقدرته على جذب التفاعل وتحليل البيانات، لكن هذا التطور يفاقم أزمة الثقة؛ حيث تشير إلى صعوبة التمييز وبين الصور أو مقاطع الفيديو الحقيقية والمصطنعة التي ينتجها الذكاء الاصطناعي، مما يعمق فجوة الثقة بين المستخدمين والمحتوى.
ومن بعدٍ فلسفي، قد يُرى أن علاقات جيل زد مع الذكاء الاصطناعي قد تكشف عن رؤى جديدة لفهم العالم كمزيج من الواقعي والافتراضي، مما يتحدى الثنائيات التقليدية مثل الجسد والعقل ويشير إلى فلسفة جديدة تركز على الاندماج بدلًا من التنافس.
الفعل العام: السياسة اللامركزية واقتصاد المؤثرين
لقد أعاد جيل زد تعريف أدوات النقد السياسي، مستخدمًا السخرية والميمات (الأفكار الساخرة) كآليات ضغط فعالة، وهو شكل من أشكال “العنف الاجتماعي والرمزي” الذي يمارسه الجيل للضغط على الخصوم وإقصائِهم، دون الحاجة إلى وسائل الاحتجاج التقليدية، فبالنسبة لهذا الجيل، لم تعد الجدية السياسية تقاس بالانتماء الحزبي أو حجم المظاهرات، بل بالتأثير الرقمي الفيروسي، حيث يعتبرون “صورة على إنستغرام أو مقطع على تيك توك أكثر فاعلية من مسيرة مليونية”، ما يقلب مفهوم “الجدية السياسية” رأسًا على عقب.
ويعكس هذا التحول تآكلا في شرعية النخب التقليدية والقنوات الوسيطة، فالشباب لا يهاجمون بالضرورة رموز الدولة القصوى، بل يوجهون نقدهم نحو النخب التي احتكرت الخطاب باسمها، كما تتميز مطالب جيل زد بتحولها الجذري من القضايا المادية إلى القضايا القائمة على القيمة والأخلاق، مثل التغير المناخي، والعدالة الاجتماعية، ومكافحة الفساد، وهو ما يعزز من قوة التعبئة اللامركزية، حيث أثبتت آليات الخطاب الجديد فعاليتها في حركات التضامن والنقد الاجتماعي داخل العالم العربي، متجاوزة حدود الجغرافيا والتنظيم التقليدي.
كانت تمثلات هذه الآليات مُتجلية في حرب غزة، إذ كان جيل زد لاعبا أساسيا في “جبهة الوعي“. لقد أدى التضامن الرقمي العابر للحدود، الذي غذته المقاطع الساخرة والميمات، إلى كسر احتكار الرواية التقليدية وإحراج وسائل الإعلام الغربية التي تبنت الخطاب الرسمي، حيث تحولت قوائم المقاطعة الاقتصادية إلى “ميمز” وفيديوهات ساخرة، كسلاحٍ غير تقليدي نجح في تحويل سلوك المستهلك إلى أداة ضغط سياسي فعالة.
وأيضا، في الحراك الاجتماعي في المغرب ظهر حراك جيل زد المغربي كنموذج للحراك الذي بدأ رقميا عبر تيك توك وديسكورد، ثم تحول إلى ضغط ميداني للمطالبة بتحسين الخدمات ومحاسبة النخبة السياسية، فيما تميز هذا التحرك بأنه غير منظم من أحزاب أو قيادات تقليدية، بل كان لا مركزيا وقائما على التواصل الرقمي والتحفيز الجماهيري المباشر، وأجبر الحكومة على سحب بعض قراراتها واستقالة بعض المسؤولين تحت ضغط الشارع الذي بدأ رقميا.
كذلك، يمتلك جيل زد قوة شرائية عالمية تزيد عن 400 مليار دولار، ويتم توجيه أنماط إنفاقه واستهلاكه بشكل متزايد عبر المنصات الرقمية، حيث يعمل المؤثرون كـ “وسطاء شرعية”، ويملؤون فجوة الثقة في بيئة رقمية متضخمة بالمعلومات المُصنّعة.
كما تظهر البيانات تفَوق تيك توك في توليد المؤثرين العرب؛ وهو ما يؤكد أن هذا التفضيل للمحتوى القصير أصبح المحرك الرئيسي لتشكيل الرأي العام والسلوك المالي، حيث تشير الأرقام إلى هيمنة تيك توك على نفوذ المؤثرين في دول رئيسية مثل المملكة العربية السعودية (2.7 مليون مؤثر) والعراق (2.4 مليون مؤثر) والإمارات (1.3 مليون مؤثر)، متفوقاً بحدة على أعدادهم في إنستغرام.
إن المؤثر العربي الناجح يدمج التوجيه الاستهلاكي (كاستخدام خدمات الشراء الآجل BNPL) مع الوعي المالي (حيث يميلون للتوفير والاستثمار في العملات المشفرة)، مما يدل على أنهم جيل “أذكياء ماليًا” ويقودون تحولات في آليات الاقتراض والاستثمار بعيدًا عن المؤسسات التقليدية.
تحديات الوعي النقدي المستدام
إن الآثار المعرفية للمحتوى القصير متعددة الأوجه ومعقدة، فقد أثر الانتشار الواسع للمقاطع القصيرة معرفيا بصورة كبيرة على قيم وسلوكيات الأفراد، فيما يمثل هذا النمط من المحتوى تحدياً جديًا أمام التفكير النقدي، ومدى الانتباه، والقدرة على معالجة المعلومات المعقدة، إذ يُثير هذا التحول نقدا فلسفيا للسطحية المعولمة، حيث يتم التركيز على الإثارة الآنية بدلاً من التحليل العميق. وعلى الرغم من أن المحتوى القصير يتيح الوصول السريع إلى المعلومات والترفيه، فإنه يعيق “تكوين القيمة” المعرفية لدى النشء.
“جيل زد” يقود موجة احتجاجات عالمية من كينيا إلى المغرب، مطالبًا بالإصلاح، العدالة الاجتماعية، ومكافحة الفساد.. تعرف على أبرزها. pic.twitter.com/inCpJY4cEO
— نون بوست (@NoonPost) October 6, 2025
أيضا، الإفراط في الاستهلاك يؤدي إلى إضعاف القدرة على التركيز الطويل ويؤثر سلبيًا على الذاكرة طويلة المدى وجودة النوم، كما أن ضعف القدرة على التركيز المستدام يجعل الجيل أقل استعدادًا للدفاع المعرفي ضد المعلومات المضللة (Disinformation) في بيئة تزداد فيها أزمة الثقة بسبب الذكاء الاصطناعي. وفي ظل هذا التدفق الهائل، تتحول أدوات التعبير نفسها، التي كان الهدف منها التفاعل الجماعي، إلى أدوات للاستهلاك السريع والتفريغ العاطفي المؤقت الذي لا يترك أثرا طويل المدى، ما يعزز من السطحية المعرفية، كما يوصف جيل زد بأنه “أكثر وعيا وأكثر هشاشة في الوقت نفسه”، وهو ما يمثل تناقضا نفسيا عميقا نابعا من البيئة الرقمية.
كما أن الانغماس الرقمي يُعرضهم لضغوط اجتماعية متزايدة، حيث يركزون باستمرار على تحديث حياتهم ومواكبة الموضات على وسائل التواصل الاجتماعي لتقديم صورة ذاتية مثالية، وهذا الضغط يؤدي إلى زيادة مستويات القلق، كما تشير الدراسات إلى أن إدمان تطبيقات التواصل الاجتماعي يمثل تهديدا للصحة النفسية ويؤثر على جودة النوم وإدارة الوقت، وهذا الانفصال بين الوعي الذاتي الرقمي (صورة الأنا المثالية) ومهارات التواصل الاجتماعي الواقعي يفاقم من الهشاشة، ويخلق جيلا واعيا بذاته ولكنه قد يفتقد مهارات التواصل الاجتماعي الواقعي الضرورية للتكيف في الحياة اليومية.
نهاية، يمثل التحول من عمق التدوين إلى سرعة الريلز تحولا جذريا في البنية المعرفية والسياسية في العالم العربي، حيث نجح جيل زد، بقوته الديموغرافية ولغته القائمة على الرمز والسخرية، في تجاوز النخب التقليدية وتشكيل حراك لامركزي ذي مطالب قيمية وأخلاقية، محوّلاً سلوك المستهلك إلى ضغط سياسي فعّال، لكن هذا الانتصار في سرعة التعبير يصاحبه ثمن وجودي؛ إذ تظل القوة الرقمية لهذا الجيل محفوفة بالمخاطر المتعلقة بالتآكل المنهجي للوعي النقدي المستدام وارتفاع الهشاشة النفسية، ما يجعل أدوات التعبير نفسها عرضة للتحول إلى مجرد وسائل للاستهلاك والتفريغ العاطفي المؤقت.
لمواجهة هذا التحدي العميق، يجب أن تنصب الجهود على استراتيجية شاملة ترتكز على محو الأمية الرقمية النقدية لتمييز المحتوى البشري عن المولّد بالذكاء الاصطناعي، واستعادة قيمة التحليل المعمق، بالتوازي مع تبني استراتيجيات لاحتواء الهشاشة الاجتماعية، لضمان أن الوعي الذاتي المرتفع للجيل يتحول إلى قدرة صلبة ومستدامة على النقد والمشاركة الفعالة، وتحويل الضغط الرمزي اللحظي إلى إصلاح هيكلي طويل المدى.
