خلال تصفحي لمواقع التواصل الاجتماعي في شهر أكتوبر/ تشرين الأول وحده، قرأت عدة أخبار عن جرائم قتل، قتلت امرأة في مصر، وطفلة في سوريا وشاب في لبنان.. ومع كثرة الفيديوهات التي تنشر لجلسات إصدار حكم الإعدام في مصر خاصة في القضايا التي نالت صدىً اجتماعيًا، خطر على بالي سؤال واحد: كيف يَقتل القاتل مع علمه أن مصيره قد يكون الموت بالإعدام؟
إنّ أغلب قضايا القتل الأسري التي تعرضها الأخبار يكون الجاني فيها واضحًا، إذ إنّ الإمساك به وإثبات التهمة عليه لا تحتاج معجزة إدراكية من قِبل المتحريين. قادني هذا إلى البحث عن البعد النفسي عند القاتل الذي يدرك العاقبة الوخيمة لجُرمٍ بهذا الحجم.
وفي هذا المقال، نسعى إلى محاولة تقديم الأسباب النفسية العلمية لهذا الفعل المُجازى عليه بمثله، من ثم محاولة فهم عقلية القاتل الذي يعرف أنّ حياته هي ثمن فعله.
التأثير النفسي للاندفاع والغضب
يعدّ الغضب استجابة طبيعية للشعور بالتهديد أو الإهانة والاستفزاز، والتي تعد حوافز مباشرة تتطلب ردًا، فيقوم الغضب أحيانًا بتوليد رد فعل فوري على هذا الاستفزاز متجاوزًا التفكير المنطقي والعواقب القانونية لرد الفعل العنيف.
تعمل اللوزة الدماغية المسؤولة عن تنشيط الاستجابة الهجومية أو الدفاعية في الجسم على توليد اندفاع نفسي يقود عادة إلى السلوك العدائي، بمقابل هذه اللوزة الدماغية تعمل القشرة الجبهية الأمامية على تنظيم الانفعالات وكبح الاستجابات الفورية لتقييم العواقب الأخلاقية والقانونية لرد الفعل.
90% من جرائم القتل غير المخطط لها تحدث في لحظة غضب أو تحت تأثير الاندفاع (الجمعية الأمريكية لعلم النفس، 2022)
إلا أنّ محاولات ضبط النفس المستمرة والكبت المتواصل للانفعالات قد يضعف قدرة القشرة على التحكم دائمًا بالغضب، مما يقلل قدرة الفرد على التحكم برد فعله الغاضب والتفكير بالعواقب ما يؤدي إلى اندفاعات شديدة العدائية قد تصل إلى القتل.
أظهرت نتائج دراسة نفسية بعنوان (ضبط النفس والسلوك العدائي) أنّ الأشخاص الذين يتعرضون لاستنزاف نفسي من كبت مشاعرهم وضبط ردود أفعالهم يكونون أسرع غضبًا؛ إذ تقل قدرتهم على التحكم في اندفاعاتهم، وبالتالي فإنّهم يميلون إلى إظهار سلوك عنيف أكثر من غيرهم في لحظات الغضب، مما يحيلنا إلى الاعتقاد بأنّ الدماغ قد يستنزف بعض من قدراته في تنظيم الانفعالات والسيطرة على الغضب عندما يتعرض الشخص لضغط مستمر وضبط متواصل لانفعالاته، إضافةً إلى أنّ التفكير المستمر في الإهانة أو الاستفزاز وإعادة تخيل المشهد المثير للغضب يلعب دورًا كبيرًا في تحوّل مشاعر الغضب إلى عدائية كبيرة.
ثلثا مرتكبي جرائم العنف يعانون من خلل في وظائف القشرة الجبهية الأمامية (مجلة علوم الأعصاب 2021)
فالاندفاعية الشديدة المحمولة بالعدائية في لحظات الغضب لا تعني أنّ الشخص لا يعرف في ذاته عواقب أفعاله، إلّا أنّ التفاعل بين دوافعه العاطفية وقدرة الدماغ على تنظيم هذه العواطف والانفعالات ممكن أن يغلب فيه الشعور على المنطق في أشد اللحظات الحرجة التي تستدعي ضبط النفس والتفكير بنتائج رد الفعل الغاضب، هذا ما يفسِّر بعض حالات القتل تحت تأثير الغضب، ولا يبررها.
معدل جرائم القتل عالميًا: 5.8 لكل 100,000 شخص، ويصل عدد ضحايا القتل إلى 440 ألف إنسان سنوياً (الأمم المتحدة، 2023)
هذا إن سلمنا أنّ الدافع الرئيس وراء القتل هو الغضب؛ لأنّ ميزة الغضب هي عدم التفكير بعقلانية وبالتالي عدم التفكير بالعواقب، ولكن قد يقتل الإنسان خارج مزاج الغضب وبتخطيط متأني مبني على المنطق والحسابات وفي حالةٍ من الهدوء النسبي، ولا يكون التخطيط هنا لتفادي العقاب؛ إذ تبين حالات قتل كثيرة أنّ الجاني كان مكشوف الهوية والدوافع لجريمته، وأنّه قتل بإصرار وترصد، أي بكامل قدراته الواعية، ومنهم من يسلِّم نفسه شخصيًا للعدالة، كأن يقتل ابن عمه لخلاف عائلي بعد أن انتظره لساعات حتى يخرج من بيته، هنا مثلًا يبدو جليًا أنّ الغضب الذي يحجب الوعي ليس هو المحرّك للجريمة.
سوغ المبررات
عندما يخطط إنسان لقتل إنسان آخر خارج سياق رد الفعل الانفعالي الغاضب، فإنّ عقله قبل حدوث الجريمة يعتمد على آليات تبريرية تجعل هذا الفعل العنيف جدًا مقبولًا في نفسية الجاني، مما يقلل من شعوره بالخوف أو القلق من العواقب القانونية والاجتماعية.
إنّه هنا يقوم بعملية تأطير معرفي للواقع تضع القتل كخيار مشروع ومفهوم الأسباب، بل وضروري الحدوث لما يخدم به مصالح القاتل، كأنّ يسوغ مبرر الشرف والدفاع عنه للقتل وهو السبب المفهوم في بعض العقليات/القوانين الموجودة في مجتمعاتنا، ما يعزِّز شرعية القتل بذريعته في مجتمع يتقبل هذا الرد العنيف أمام هذا المسوِغ، أو حتى لسبب الانتقام أو للتكسب وتحقيق المصالح المادية والنفسية.
نسبة القتل العائلي (القتل داخل الأسرة): 14% من مجموع جرائم القتل
ما يحدث هنا هو أنّ الفرد يكون في حالة ألم بين التوتر الداخلي الذي يعيش به والصراع الأخلاقي المبني فيه، فيبدأ في خلق سردية جديدة غير واقعية تعيد تشكيل الحدث لإعطائه صبغة تبريرية قوية تُخرج فكرة القتل من دائرة المسألة الأخلاقية، بل وتجعل الضحية مستحقة لعقاب القتل للصفات والأفعال التي يلصقها الجاني بها، وتجردّها أحيانًا من إنسانيتها ليسهل قتلها بدون ألم بالضمير، هذا التحوير الإدراكي لا يلغي فكرة العواقب، بل يجعلها هينة أمام الرواية العظيمة التي بناها القاتل وأعطته شرعنة شعورية للقتل.
يعمل المجتمع في أحيان كثيرة إلى بناء هذه الشرعنة الزائفة للقتل؛ لأنّ الفرد المنتمي إلى جماعة ويحظى بدعمها الاجتماعي والثقافي يرى أنّ بعض مسائل القتل هي واجب أخلاقي تجاه هذه الجماعة يتطوّع هو بتقديمه أو يُدفع إليه بالتحفيز الجماعي، وتتجلى خطورة المجتمع في سوغ مبررات القتل عند الفرد أنّها تبني مشروعية أخلاقية للقتل تضعف معها المقاومة النفسية للفِعل عند القاتل، وتجعله يرى العواقب ضريبة عمل شريف خدم به الجماعة التي ينتمي إليها ويفتخر به، كأن يقتل الفرد تحصيًلا لثأر دمٍ أو كرامة لعشيرته أو حتى في سبيل حماية شرفه أو الانتقام منه، فيُقبل على العاقبة القانونية معتزًا بالقتل.
نسبة النساء اللواتي يُقتلن على يد أحد أفراد الأسرة: حوالي 58% من مجموع القتلى النساء في جرائم قتل
تعدّ الإهانة زرعًا قويًا لخلق دوافع ومبررات للقتل لما تحويه من شعور قوي بالاضطهاد أو قلة الكرامة، فيستجيب الجاني لهذا الشعور بمحاولة استرداد اعتباره الذاتي وصورته أمام نفسه والآخرين، أو بمعنى آخر استعادة سيطرته على مشاعره التي استبيحت بالإهانة، فتكون شرعنة القتل في عقله خاضعة لثقل الامتهان الذي قد شعر به، باعتبار أنّ المقتول قد تجاوز لحد غير مقبول وصار وجوده يشكّل تهديدًا لا بد من القضاء عليه، وبالتالي فإنّ المقتول هنا يكون قد استحق العقاب، كأن يتعرض موظف لإهانة متكررة من مديره على مرآى من زملائه فيقدم بعد التفكير على الانتقام من المدير لوضع حد لهذا الذل على معرفته بعاقبة فعلته، إلّا أنّها تكون ثمنًا مستحقًا للكرامة هنا فلا تشكّل قلقًا كبيرًا عند القاتل.
65% من جرائم قتل النساء في مصر تصنّف كجرائم “عنف أسري” (المجلس القومي للمرأة)
وبهذا، فإنّ القتل الذي يخرج من دائرة رد الفعل اللحظي للغضب إلى القتل الواعي المدعوم بالمبررات الداخلية والخارجية، يكشف لنا عن العدائية في الطبيعة البشرية التي يستطيع فيها الإنسان إقناع نفسه بأنّ القتل فعل مقبول، ما يكشف عن خطر أعمق يتعلق بعدم القدرة على التنبؤ بالسلوك العدائي ما يستوجب عمل دراسات نفسية أكثر للعوامل الثقافية والنفسية للجناة.
الاضطرابات النفسية والقتل
إلى جانب الغضب اللحظي وتبرير فعل القتل، تساهم الاضطرابات النفسية بشكل كبير في تفسير الإقدام على القتل سواءً بشكل اندفاع عاطفي أو تخطيط وترصد؛ إذ تؤثر بعض الاضطرابات النفسية على العمليات الإدراكية والتحليلية للمواقف أو التحكم بالانفعالات أو حتى على مدى الشعور بالمسؤولية الأخلاقية للفعل مما قد يؤدي إلى تجاوزات عدوانية شديدة من قِبل المضطرب.
فعلى سبيل المثال، قد تجعل الأوهام والهلاوس، مريض الفُصام، يشعر أنّه في خطر ما وأنّ هناك تهديدًا مباشرًا على حياته أو حياة أحد من أحبائه، ما يقوده هذا التصديق إلى اتخاذ إجراء دفاعي يبدو له كحلٍّ منطقي للتصدي لهذا الخطر، فممكن أن يقدِم على القتل لاضطرابه الإدراكي المتمثل بتصوراته غير المنطقية أو المشوهة عن الواقع.
فقط 5–10% من الجرائم العنيفة عالميًا تُرتكب بسبب اضطراب نفسي حاد بحد ذاته.
بالإضافة لاضطراب الشخصية الحدية الذي يجعل المصاب يصدر ردَ فعل عنيف على شعوره بالإهانة أو الخطر متأثرًا بنشاط اللوزة الدماغية التي تهيمن على الاستجابة الانفعالية؛ إذ وضحت الدراسات المتعلقة باضطراب الشخصية الحدية أنّ القشرة الجبهية الأمامية تكون أقل كفاءة في ضبط الانفعالات والتفكير العقلاني أثناء الغضب، مما لا يساعد في كبح اللوزة ويزيد من احتمالية استخدام العنف كرد فعل على الاستفزاز الذي يتعرض له المضطرب، ما يخفف من إدراكه للعواقب القانونية بطبيعة الحال خلال هذه النوبة الانفعالية المندفعة.
وتؤثر كذلك الاضطرابات المزاجية مثل الهوس في اضطراب الاكتئاب ثنائي القطب على السيطرة على الانفعالات ما يحدّ من قدرة الفرد على تقييم المخاطر خلال نوبة الهوس، ويعاني المصابون باضطراب ما بعد الصدمة من فرط في الاستجابة التحذيرية، ما يصيّر أي تهديد خطرًا وجوديًا قد يقابل برد فعل عنيف.
مرضى الفصام الذين يعانون من هلاوس اضطهادية تزيد لديهم احتمالية العنف بنسبة 20 مرة مقارنة بغيرهم، لكن عند غياب العلاج (الجمعية البريطانية لعلم النفس).
وتجد الإشارة إلى أنّ العنف الصادر عن المضطربين نفسيًا لا يحدث بسبب الاضطراب نفسه، إلاّ أنّ الاضطرابات النفسية تزيد من ضعف الفرد في التحكم بانفعلاته عند الغضب، وكما وقد تعزّز تبرير الفعل العنيف أو تخفف من الاعتبارات الأخلاقية والشعور بالخوف أحيانًا لا سيما في البيئات التي لا توفر الدعم النفسي للمضطرب.
عمومًا، فإنّه لفهم الدوافع النفسية وراء القتل المرسومة مسبقًا عواقبه لا بد من الربط بين الأسباب المذكورة: الغضب الانفعالي وعقلية التبرير والاضطرابات النفسية؛ لأنّها معًا تشكل الفعل العدائي مع استعداد عالٍ على تجاوز الخوف من العقاب، وبالتأكيد، يصعب على أي دارس لأي ظاهرة في المجتمع أن يحصر أسبابها كاملةً؛ ذلك أن لكل مجتمع خصائصه ودوافعه للعنف التي من الممكن أن يغذيها في عقول أفراده، ولأنّ العوامل الدافعة تتداخل كذلك وتتراكم ما يجعل عملية فصل الأسباب أمرًا يحتاج إلى دراسات مستفيضة تتجاوز صفحات مقال.