داخل الغرفة الفندقية في منطقة كزلاي بالعاصمة التركية أنقرة، يقف أديب المدهون (18 عامًا) ممسكًا بيده اليمنى قطعة الخبز وسكينة يقطع بها شرائح الجبنة والمارتديلا، وثبتهما في زاوية المجلى بيده الوحيدة.
يتذكّر أديب كيف فقد يده اليسرى: “كُنت نازحًا في مخيم النصيرات الذي وصلته قادمًا من مخيم جباليا للنجاة بنفسي من القصف، لكن أربعة الصواريخ الإسرائيلية حولّت رحلتنا لشراء الحطب لِطهي الطعام والخبز، إلى مذبحة، استفقت بعد أسبوع من الغيبوبة بإصابة بلغية في جسدي، بترت يدي، وأصيب عيني بشظايا، واستئصل الطحال وفقدت جميع أصدقاء رحلة الخبز”.
يضع أديب يده على رأسه ويكمل: “كنت أُصارع النجاة، لكني اليوم أُصارع الإصابة، والتأقلم، والغربة هنا”.
غادر أديب قطاع غزَّة في ديسمبر/ كانون الأول 2023، بتحويلة طبية بهدف إنقاذ ما تبقى من يده اليسرى، واستقبلته تركيا، لكن كان الوقت قد نفد على إمكانية نجاة يده.
يعود المدهون بذاكرته للوراء قليلًا، ويقول:”كانت الدهشة تسيطر على الأطباء، في مشفى Etlik Şehir (إتليك شهير)، لكثرة الإصابات الحرجة القادمة من غزَّة، بالنسبة لإصابتي، فقد كانت يدي ملتهبة ومتعفة مما دفعهم لبتر المزيد منها كون الجرح مفتوحًا حين قدمت من غزَّة، وبقيت أتعالج لمدة ثلاثة أشهر متتالية على السرير الطبي”.
“بيد واحدة، وغربة مرّة مستمرة لعامين، بعيد عن العائلة، وبلا دعم الأصدقاء، لا أستطيع التأقلم حتى اللحظة”.. يضيف أديب.
ورغم ذلك، بدأ أديب تعلم اللغة التركية لمحاولة الاندماج في المجتمع الذي يستضيفه، ويسعى للتفوق في الشهادة الثانوية.
منذ اندلاع حرب الإبادة في تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، اضطرّ آلاف الفلسطينيين إلى مغادرة قطاع غزَّة بعدما قلبت الحرب موازين حياتهم رأسًا على عقب.
ومنذ عامين يعيش أديب رفقة والدته، التى خرجت معه كمرافقة وداعمة في رحلة علاجه، تقول أم أديب: “الحياة تكون حياة فقط بين أسرتك وأحبابك، الغربة غربة مرَّة، مهما حاولنا تجميلها لا ننجح وخصوصًا في الإصابة والعلاج ومحاولة التأقلم”.
وعن حياة الغربة في أنقرة، رغم الدعم الكامل الذي منحته حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لجرحى الإبادة، إلا أن المدهون يفضل أن يتناول الطعام الذي تطهيه والدته.
مع دخول وقف إطلاق النار، يترقب أديب ووالدته فتح معبر رفح البري، للعودة إلى مدينة غزَّة، بعدما حصولهم على الجنسية التركية التي مُنحت لجرحى الإبادة.
وإلى لبنان، حيث تتنقل الطفلة كنزي آدم (6 سنوات) بين عدَّة مشاف لتركيب طرف صناعي يتوائم مع نموها، بعدما نجت بمعجزة من قصف إسرائيلي وحشي يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
يصف والد كنزي المشهد ذلك اليوم: “قصف الطيران الحربي الإسرائيلي منزل جيراننا، كانت طفلتي تحتمي بحضن جدها حين أصيبت إصابة بالغة، فقد كسرت جمجمتها وحوضها وساقها، وبترت يدها اليمنى، فيما أصيبت والدتها وشقيقتها، ودفنا يدها مع جثمان جدها الذي استشهد رحمه الله”.
وعن الغربة والعودة إلى قطاع غزَّة يقول الأب الثلاثيني: “بعد وقف إطلاق النار، أتابع الأخبار وأشاهد الوضع في غزَّة، دمار بل إبادة صحية خلفتها الحرب الإسرائيلية، لم يتبق من البنية التحتية الصحية والمراكز التأهيلية شيء تقريبًا، طفلتي كنزي بحاحة لعلاج مستمر لسنوات حتى تتعافى وتتمكن من الاستقلال، ولن نعود قبل أن يتحسن واقع الرعاية الصحية في القطاع”.

عبر سماعة الهاتف، أسمع صوت ضحكة كنزي وشقيقتها، فيما يختتم والدهما حديثه بصوتٍ مثقل باليأس “غزَّة مدينتي، بها عائلتي، وكل الذكريات والضحكات والنجاحات. لكن النجاة وعدم توفر ظروف الحياة هي من جعلت الغربة خيارًا”.
فجر الجمعة 10 تشرين الأول/أكتوبر 2025، دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس برعاية أميركية مصرية قطرية، وتضمنت بنوده فتح معبر رفح البري، إلا أن “إسرائيل” لا تزال تمنع ذلك، ما يجعل عودة الجرحى مستحيلة.
بابتسامة تشبه اسمها، تبدأ الشابة العشرينة لطيفة الجراح حديثها معنا: “انتظر فتح معبر رفح بفارغ الصبر، أريد أن أشعر بطعم الحياة بعد عامين من النزوح والفقد، مشتاقة لجمعة وضحكات العائلة بعدما غادرنا بيت سيدي (جدي) أثر إصابتهم البالغة وخروجهم العلاج بالخارج”.
لطيفة صبيّة من بين أكثر من مليونيّ غزَّي، يترقبون عودة أحبابهم المغتربين والتي دفعتهم حرب الإبادة إلى المغادرة قسرًا.
“في نهاية عطلة الأسبوع، كنا نجتمع كعائلة واحدة ونعدّ أطباق الطعام المتنوعة في بيت جدي وسط جمعة الأخوال والخالات، وتغمرنا الضحكات وسط حديث مشوق ومطول، لكن حرب الإبادة قتلت هذه الطقوس وحلت المكالمات الهاتفية بديلًا عن الجَمعات واللمّات”.. تقول لطيفة.
لا تزال مسألة إعادة فتح معبر رفح بين غزَّة ومصر، والمقررة ضمن خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوقف إطلاق النار في القطاع المحاصر والمدمّر، معلقة رغم دعوات الوكالات الأممية والمنظمات الدولية.