في قلب مدينة حماة، حيث تتداخل جراح الماضي مع آلام الحاضر، تطلق فعالية “فداءً لحماة” كمحاولة لاستعادة هوية مدينة تاريخية فقدت ملامحها تحت وطأة سنوات من القمع والتهميش. وبين بقايا الذكريات، تسعى حماة اليوم إلى استعادة روحها، وإعادة وصل ما انقطع بين ماضيها وواقعها.
لم تكن حماة مدينة عادية في التاريخ السوري؛ فقد كانت دومًا حاضرة في قلب الحراك الشعبي، وفي صدارة المدن التي دفعت أثمانًا باهظة لمواقفها. فمنذ مجزرة شباط/فبراير 1982، التي شكّلت إحدى أكثر صفحات التاريخ السوري دموية، شهدت المدينة إحدى أعنف الحملات العسكرية في التاريخ الحديث، بعدما شن نظام حافظ الأسد عملية عسكرية واسعة ضد الإخوان المسلمين والمتعاطفين معهم.
بعد حصار المدينة وقطع الماء والكهرباء والاتصالات عنها وفرض حظر تجوّل، بدأت العملية العسكرية التي تحوّلت سريعًا إلى قصف شامل للأحياء السكنية دون تمييز بين المدنيين والمسلحين، ما أدى إلى تدمير أحياء بأكملها وسقوط عدد كبير من المدنيين. قصفت قوات الأسد المدينة بالمدفعية على مدى أيام متواصلة، وبعد أن تحولت إلى أنقاض، تقدّمت الجرافات وجرّفت الأحياء بالكامل. وأسفرت الحملة العسكرية التي استمرت 27 يومًا عن مقتل ما يقدر بنحو 40,000 شخص، ودمّرت قرابة ثلثي المدينة. وبذلك، فقدت تقريبًا كل عائلة في حماة أحد أفرادها. ووُضِعت المدينة تحت وطأة تهميش ممنهج، كان ذلك التهميش قرارًا سياسيًا من نظام الأسد، الذي سعى إلى محو رمزية المدينة بالكامل.
إلى جانب القمع السياسي، عانت المدينة من إهمال اقتصادي وسياسات تمييزية ممنهجة؛ إذ حُرمت العديد من عائلات المعارضين من الوظائف الحكومية ومن الوصول إلى الخدمات الأساسية، ما اضطر كثيرًا من سكانها إلى العيش في عزلة داخل مدينتهم أو الهجرة منها خوفًا من الاعتقالات التعسفية والاختفاءات القسرية. وسعى حافظ الأسد إلى تشويه صورة أهالي حماة في عيون السوريين، محاولًا تصويرهم كمتمردين على الدولة، بغية إحداث فجوة وعزلة بينهم وبين سائر المحافظات.
وعلى مدار خمسين عامًا، تحوّلت حماة من مركز اقتصادي وزراعي وثقافي نابض بالحياة إلى كيان منعزل، أحاط به الإهمال المتواصل والمتعمّد. وهذا التهميش كان أحد الأسباب التي دفعت سكان المدينة إلى الانضمام بقوة إلى ثورة الشعب عام 2011، لتعود حماة مجددًا إلى موقعها الطبيعي كنقطة محورية للتحدي والمواجهة ضد النظام الأسدي.
في الأشهر الأولى من الثورة، احتضنت مدينة حماة بعضًا من أكبر الاحتجاجات ضد النظام، والتي قوبلت بقمع عنيف أعاد إلى الأذهان ذاكرة المجازر القديمة. وعلى الرغم من بقاء المدينة تحت سيطرة النظام خلال سنوات الحرب، فإنها شهدت تحولًا مفصليًا في الخامس من ديسمبر/كانون الثاني 2024، حين دخلتها قوات المعارضة، معلنةً تحريرها وبداية مرحلة جديدة في تاريخها السياسي والاجتماعي.
من 1964 إلى التحرير: مسيرة التضحية التي لا تنتهي
لكن الحكاية لم تبدأ في عام 1982، فلا يمكن فهم حملة “فداءً لحماة” دون الرجوع إلى مسيرة التضحية الطويلة التي بدأت منذ عام 1964، عندما كانت حماة أول مدينة سورية ترفض نظام البعث. هذه المسيرة التي استمرت عبر عقود، من مجزرة 1982 إلى ثورة 2011 وصولًا إلى التحرير في 2024، تشكل الهوية الحقيقية للمدينة.
يقول فراس منصور، أحد القائمين على إدارة الحملة لنون بوست: “هذه المحافظة قدّمت تضحيات منذ الـ64 إلى يومنا هذا… وهذا يميزها عن باقي المحافظات”. ويضيف أن السبب الجوهري لانطلاقة الحملة هو “استحضار التضحيات التي قامت بها المدينة والبلدات والقرى السورية”، مشددًا على أن هذا الاستحضار ليس غاية في حد ذاته، بل وسيلة لخلق “روح من التعاون والمحبة بين أطياف المجتمع كافة”، واستعادة ما فُقد من روابط بين الناس بفعل الحرب والانقسام.
هنا، يصبح الإحياء ليس مجرد إعادة ترميم، بل هو عملية اجتماعية ونفسية تهدف إلى إعادة بناء المجتمع. فالهدف الرئيسي هو تعزيز “الروح الوطنية” سعيًا لتحويل الألم المشترك من عبء ثقيل إلى رصيد جماعي يمكن الاستفادة منه. غير أن الأوضاع الإنسانية في حماة لا تزال متردية، حيث يعاني الكثيرون من الفقر، فيما يعرقل عدم الاستقرار وقلة الموارد بشكل كبير جهود التعافي وإعادة البناء، وهذا الإرث من النضال المتواصل هو ما يمنح الحملة شرعيتها وأهميتها.
ترميم الثقة بين الدولة والمجتمع
ومن أبرز ما يميز فعالية فداء لحماة، بحسب القائمين عليها، هو سعيها إلى الاستمرار. ويؤكد منصور أن الهدف “ليس إقامة حدث محدود بزمن أو بصورة إعلامية”، بل إنشاء مشروع يدوم طويلًا، ويساعد على إعادة بناء الثقة بين المجتمع والدولة، وهو التعبير الأكثر حساسية وتعقيدًا في السياق السوري الراهن.
فالثقة، منذ البداية وحتى الآن، تُعد من أكبر العقبات في الصراع السوري، وعلى مدى العقود الماضية، تأسست العلاقة بين سكان حماة والدولة على الخوف والقمع الممنهج. فالهجوم الذي شنّه نظام حافظ الأسد استهدف الأغلبية السنية من سكان المدينة، الذين قُتل منهم الآلاف على يد قوات النظام وميليشياته. كما تعرّضت هذه المجموعة لحملات اعتقالات عشوائية، أدّت إلى احتجاز آلاف الأشخاص في سجون سرية، ولا يزال مصير الكثيرين منهم مجهولًا حتى اليوم. وواكب هذا القمع مشروع إعلامي ممنهج لتطييف المدينة، حيث قدّم النظام أهالي حماة في الخطاب الرسمي بوصفهم إرهابيين.
واستكمل النظام سياسة الخوف هذه عبر تغول الأجهزة الأمنية في مفاصل الحياة اليومية؛ إذ انتشر عناصر المخابرات في أحياء المدينة لمراقبة السكان وقمع أي حديث سياسي أو ديني، وكانت مجرد همسة كافية لتدمير حياة الإنسان. ومع مرور الوقت، انتقل هذا الخوف من جيل إلى جيل، ليصبح حاجزًا نفسيًا واجتماعيًا هائلًا أمام أي محاولة حقيقية لبناء الثقة.
اليوم، تأتي المبادرة في مواجهة هذا التاريخ المثقل؛ فحماة، كما يشير القائمون على الحملة، دفعت “فاتورة باهظة على مدار خمسين عامًا من التهميش والقتل”، وأي محاولة لإعادة الحياة إليها لا بد أن تنطلق من مواجهة هذا الإرث، لا تجاهله. فإعادة صياغة العلاقة بين المدينة والدولة تتطلب مصالحة حقيقية مع الذاكرة، وخطوات ملموسة نحو كسر حلقة الخوف التي استمرت لعقود، وتحوّلت إلى حاجز نفسي واجتماعي عميق.
ما تحاول الحملة فعله هو تحويل الماضي من الألم إلى الوعي، ومن الذاكرة المثقلة إلى دافع للتغيير. وفي حديثه لنون بوست، يرى منصور أن أبناء حماة “ذوقوا المرارة والويلات، وخرجوا من واقع أليم، لكن ذلك علّمهم دروسًا كبيرة ستكون مفيدة في قيادة مدينتهم في المرحلة المقبلة”.
ما هي حملة “فداءً لحماة”؟
تُعد حملة “فداءً لحماة” جزءًا من سلسلة الحملات التي أُطلقت في مختلف المدن السورية منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، بهدف إعادة بناء الوطن ودعم المجتمعات المحلية المتضررة. وقد حظيت هذه الحملات باهتمام واسع من السوريين في الداخل والخارج.
كانت انطلاقة تلك السلسلة من “أربعاء حمص” التي جمعت أكثر من 13 مليون دولار لدعم التعليم والصحة والبنى التحتية، تلتها حملة “أبشري حوران” بتبرعات بلغت 44 مليون دولار، ثم “دير العز” بقيمة 30 مليون دولار، وحملة “ريفنا بيستاهل” التي جمعت 76 مليون دولار. أما حملة “الوفاء لإدلب“، التي شهدت تفاعلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، فقد تمكنت من جمع 208 مليون دولار. وجمعت حملة “فجر القصير” وهي أحدث الحملات في السلسلة، تبرعات بلغ إجماليها نحو “10 ملايين و81 ألف دولار، خُصصت لدعم المشاريع الخدمية والتنموية في منطقة القصير بريف حمص الجنوبي الغربي” حسب تقرير تلفزيون سوريا.
وتأتي حملة “فداءً لحماة” بوصفها الحملة السابعة ضمن هذه المبادرات، وهي حملة إنسانية وتنموية تُنظَّم برعاية محافظة حماة وبالتعاون مع الجهات الإنسانية والمجتمعية والاقتصادية؛ لكنها تحمل رؤيةً أعمق تهدف إلى تجاوز نموذج التبرعات المؤقتة. فبحسب منصور فإن الطموح هو تحويلها إلى “صندوق وطني للمحافظة” وتهدف الحملة إلى إعادة الحياة والاستقرار إلى القرى والبلدات المتضررة في المحافظة.
وأضاف منصور أن الحملة لا تقتصر على الجمع التبرعات، بل تمتد إلى “خطة مستدامة” تُدار من خلال هيكل تنظيمي محكم. حيث تشكلت لجان متخصصة تعمل بتوجيهات مباشرة من محافظ حماة، لكل لجنة فترة عمل ومهام محددة، تتراوح بين إطلاق الحملة وإدارتها لاحقًا. ويركّز الهدف الأساسي للحملة على تأمين عودة الأهالي من المخيمات، وتعزيز الاستقرار في المناطق المتضررة، إلى جانب تشجيع التعاون بين القطاع الخاص والدولة في سبيل تحسين الخدمات ودعم السكان.
وبحسب ما أكده فراس منصور لنون بوست، فإن الفعالية ستشهد حضورًا رفيع المستوى من شخصيات حكومية وإدارية، في إشارة إلى اهتمام رسمي واضح بالحدث، رغم عدم الإعلان مسبقًا عن هوية الحضور لدواع تنظيمية.
بقيت حماةُ جرحا لا يندمل في ضمير الإنسانية، كأنها صرخةٌ علقت في أرواحنا، تستنهض فينا العزم منذ نعومة أظافرنا. ومنها استلهمنا حكاية مدينة شامخة تُساق إلى العذاب فلا تنحني، وتنوء تحت سوط الطغاة فلا تستسلم.
فهي المدينة التي لها في أعناقنا دينُ الصمود، وحان اليوم وقت السداد والوفاء. pic.twitter.com/YGfn3ldPbZ— أسعد حسن الشيباني (@AsaadHShaibani) November 22, 2025
ومن المقرر أن تشمل الحملة مختلف مناطق محافظة حماة، مع إعطاء الأولوية وفقًا لدرجات الحاجة التي ستُقسم إلى ثلاث فئات بناءً على تقييم اللجان المختصة. كما ستُنشأ لجنة مشاريع بعد انتهاء الحملة لتحديد ثلاث أولويات رئيسية لتنفيذ الأعمال الميدانية. ويُركَّز في هذه المرحلة بشكل خاص على مناطق الريف، نظرًا لحجم الأضرار الكبيرة التي لحقت بها، ولحاجتها الماسة إلى مشاريع إنعاش وخدمات أساسية مثل المستشفيات.
وتُظهِر المنشورات على الحساب الرسمي للحملة على إنستغرام جانبًا آخر لأهدافها، يتمثل في التركيز على مستقبل الأطفال وإعادة تأهيل المدارس المدمرة، باعتبار التعليم حجر الأساس في إعادة بناء المجتمع وتحقيق التنمية المستدامة. وتحت شعارات مثل “التعليم مستمر رغم كل شيء” و”لأن أطفالنا يستحقون مستقبلًا أفضل، آن الأوان فداءً لحماة”، تظهر المنشورات اهتمامًا واضحًا لواقع الأطفال المؤلم وأهمية توفير بيئة تعليمية آمنة تُعيد لهم الأمل وتساعد على استقرار أسرهم.
ودعا ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى التبرع لمدينة حماة، نظرًا لحجم الدمار الهائل الذي تعرّضت له خلال الخمسين عامًا. فلم ينسَ أحد اختلاط الدم بالخبز في مجزرة حلفايا، كما لا يمكن نسيان مجزرة الحولة، ومجزرة التريمسة، وغيرها الكثير. ويقول الناشطون: “حماة مدينة أبي الفداء تستحق أن نقف معها ونكون يدًا واحدة حتى نرد لها الجميل.”
الاستقرار والعودة
الصورة التي يتمناها القائمون على الحملة لمحافظة حماة هي الاستقرار الكامل وعودة اللاجئين من المخيمات. حيث أشار منصور أن “أكثر من 60% من ريف حماة مدمر، وأهلها موزعون بين مخيمات الداخل والمنفى”، مؤكدًا أن استعادة “التنمية المستدامة” في جميع القطاعات، وخاصة الزراعة، ستُمكّن المحافظة من استعادة دورها التاريخي “كسلّة غذائية لسوريا”.
وأشار منصور أن حماة تتميز بتنوع سكاني خاص، حيث تضم “طوائف كبيرة مثل المسيحيين والعلويين والدروز والمرشدين والسنة”؛ وهو تنوعٌ لطالما كان مصدر غنى ثقافي واجتماعي للمدينة، وتحول في ظل الظروف السياسية إلى عامل انقسام. وأكد منصور على أهمية أن تكون “حماة استثنائية بكل تفاصيلها، لتستعيد مكانتها كمدينة حاضرة بتاريخها وكوادرها” مما يعكس أن الروح الوطنية السورية الشاملة هي التي ستعيد لحماة قيمتها ومكانها ضمن باقي المحافظات.
أن يتمكّن أبناء حماة اليوم من الاجتماع علنًا، والتخطيط لفعالية اجتماعية من دون خوف أو مداهمات أمنية، هو بحد ذاته حدث غير عادي في ذاكرة المدينة. ويكتسب هذا التحول رمزيته من تأكيد منصور على وجود اهتمام مباشر من محافظ حماة بالحملة، ودعم من الدولة، موضحًا أن “الفريق يعمل بكل طاقته وبروح واحدة لتكون الفعالية استثنائية في تفاصيلها كافة”، مشيرًا إلى وجود “مفاجآت كبيرة على مستوى التنظيم والحشد والإعلام، وكذلك في حجم التفاعل الدولي والحكومي مع الحملة”.
لحظة تحرر مختلفة
في لحظة دخول قوى معركة ردع العدوان إلى حماة، لم تكن المدينة تشهد مجرد تحريرٍ عسكري؛ كانت تستعيد نبضها الأول. انفجرت الشوارع بالهتافات والدموع، وانتشرت على مواقع التواصل عشرات المقاطع التي وثّقت حجم الفرح غير المسبوق. ومن بين أكثر الأصوات التي عبّرت عن هذه اللحظة كان صوت الناشط والصحفي هادي العبدالله، الذي ظهر في فيديو مؤثر يتم تداوله حتى هذه اللحظة: “يا حمويّة… يا حمويّة، حماة اتحررت، النواعير حرّة، عاصي حماة حر.. والله العظيم ماني مصدق!”
هذا الانفعال لم يكن مجرد حماس ميداني؛ كان شهادة على خصوصية حماة نفسها. فهي ليست مدينة عابرة في الجغرافيا السورية، بل مدينة حملت إرثًا من الألم والتضحية بدأ منذ الستينيات وبلغ ذروته في الثمانينات، حين كانت أول مدينة تجرؤ على الوقوف بوجه النظام الأسدي. ولذلك قال العبدالله: “حماة اللي ما بس إلها دين علينا.. لها دين على آبائنا وأجدادنا. كانت أول مدينة ثائرة ضد عائلة الأسد.. وما سموها حماة أم الفداء عن عبث.”
الأمر الذي ميّز تحرير حماة لم يكن سقوط حاجز أمنيّ وعسكرية، بل عودة مدينة بكامل رمزيتها. إذ لا توجد مدينة سورية أخرى تحمل هذا القدر من الذاكرة المكبوتة، من المقابر الجماعية المنتشرة في الريف إلى آلاف العائلات التي ما زالت تجهل مصير أبنائها. ولهذا قال العبدالله عبارته الأشد وقعًا: “وين ما طلعتوا بحماة وريفها بتلاقوا مقابر جماعية… بتدل على تضحيات حماة وعلى فداء أولادها.”
بهذا المعنى، كانت لحظة التحرير استثنائية لأنها جمعت بين الماضي والحاضر: بين مدينة قُمعت حتى الموت، ومدينة تنهض الآن، وهي تُدرك حجم الخراب الذي لحق بها. ما حدث في حماة لم يشبه أي مدينة أخرى؛ فلم يكن مجرد تحرير جغرافي، بل تحرير ذاكرة كاملة.
ومن خلال الحملة، تبدأ حماة فصلها الجديد، تستعيد فيه ذاك النداء الذي صدح به عبد الباسط الساروت قبل رحيله: “يا حماة سامحينا.. والله حقّك علينا”.
