على الرغم من اندماج جيل زد التكنولوجي غير المسبوق، يجد هذا الجيل نفسه محاصرًا في سياق اقتصادي واجتماعي يتميز بالهشاشة البنيوية والتحديات الهائلة، إذ تُعد المنطقة العربية موطنًا لأعلى معدلات البطالة بين الشباب عالميًا، حيث سجل المعدل 24.4% في عام 2023، مما يشير إلى أزمة هيكلية عميقة في دمج هذه الشريحة في المسارات المهنية التقليدية.
يفرض هذا الواقع غياب يقين كبير بشأن المستقبل، ويدفع الأفراد لإعطاء الأولوية للأمن الإنساني الأساسي (السلامة والأمن، التعليم، والرعاية الصحية)، كما تتفاقم الهشاشة بسبب التفاوت الاجتماعي الصارخ، وهو ما يُجبر الجيل على تبني استراتيجيات البقاء في فضاء العمل الرقمي.
في ظل هذا المشهد، لا يمكن النظر إلى التحول الرقمي بمعزل عن القوى الرأسمالية، فبالرغم من معدلات استخدام الهواتف الذكية المرتفعة في دول مثل الإمارات وقطر والبحرين (100%)، لم يترجم هذا الانتشار الرقمي بالضرورة إلى رخاء اقتصادي شامل. وهنا، تأتي “رأسمالية المنصات” (Platform Capitalism)، كآليات جديدة لتراكم الثروة والسيطرة، وليس كأدوات تحرير مجردة، حيث تعترف الرأسمالية العالمية بجدول أعمال واحد هو “إشباع شهيتها غير المتناهية لتراكم الثروة المادية“.
بالتالي، فإن الإدماج القسري في عالم المنصات، المدفوع بالبطالة الهيكلية، لا يمثل خيارًا ليبراليًا لنمط حياة مرن، بل هو استقلالية “قسرية“، وهذا ما يولد الهشاشة الرقمية، أي الإدماج غير المنصف في الاقتصاد الرقمي، وتصبح المنصات بمثابة ملاذ أخير للنجاة الاقتصادية.
في هذا المقال، نسعى إلى تقديم تحليل مترابط لتجربة جيل زد في العالم العربي من خلال طرح ثلاثة زوايا للنقاش: الأولى، وهي مفارقة العمل الحر والاستقلالية المزيفة في ظل اقتصاد المنصات، مسلطا الضوء على كيفية استخدام الجيل للذكاء الاصطناعي كأداة بقاء. وأيضا، إعادة تعريف الجيل للاستهلاك، حيث يتصادم الوعي القيمي لديهم مع الضرورة العملية، وكيف توجه رأسمالية المنصات سلوكهم الشرائي ضمن اقتصاد الانتباه. أما الثالثة، فتركز على الأبعاد الثقافية والنفسية، من حيث ظاهرة الوعي الصحي الهش وكيف يؤدي اغتراب العمل إلى تآكل حدود الحياة الشخصية والنفسية.
العمل الحر والاستقلالية المزيفة: المنصات كمسار نجاة
يُعد سوق العمل التقليدي في المنطقة العربية بيئة طاردة للشباب، حيث يواجه جيل زد تحديات عميقة في الاندماج. أولًا، هناك تحيز مؤسسي ملحوظ؛ إذ يعترف 36% من مديري التوظيف بوجود تحيز ضد المرشحين من هذا الجيل، ويرى 46% منهم أن تجنّب توظيفهم قد يكون مفيدًا للشركة. بالإضافة إلى ذلك، يشير تقرير نشره موقع “الجزيرة. نت”، إلى أن نقص الخبرة يُعد عاملا رئيسيًا يعيق تكيّف جيل زد السريع مع متطلبات الوظائف.
وهذا التحيز، إلى جانب البطالة الهيكلية، يخلق حالة من “القصور المؤسسي” الذي يمنع الاستفادة من رأس المال البشري الرقمي، ويدفع الشباب نحو البحث عن بدائل في الاقتصاد الحر الذي تجاوز إجمالي قيمته 11.22 مليار دولار أمريكي في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا لعام 2024.
أيضا، ينبع الدافع نحو العمل الحر من بحث الجيل عن المعنى والقيمة، إذ يضع هذا الجيل معايير ذاتية لقبول الوظيفة، تشمل الراتب، والتوازن بين العمل والحياة، وواجبات الوظيفة. والأهم من ذلك، يؤكد 9 من كل 10 أن الشعور بالهدف والجدوى شرط أساسي للرضا الوظيفي والرفاهية النفسية. بالتالي، فإن التوجه نحو إنشاء مشاريعهم الخاصة بدلًا من البحث عن عمل تقليدي هو محاولة لاستعادة السيطرة وضمان توافق المسار المهني مع قيمهم، وهو ما يتضح في رفض 31% منهم مهام وظيفية لعدم تماشيها مع قيمهم الشخصية.
وعلى الرغم من أن العمل الحر يُسوَّق كرمز للاستقلالية، فإنه في إطار رأسمالية المنصات يصبح استقلالية مزيفة تعمق الهشاشة، حيث يتم نقل مخاطر العمل، وغياب التأمينات الاجتماعية، ومسؤولية إدارة الدخل غير المنتظم، بالكامل إلى الفرد. من هنا، يعيش الجيل تناقضًا وجوديًا، يسعى للبحث عن المعنى والهدف الوظيفي، ولكنه أيضا يجد نفسه مضطرًا للتضحية بهذا المعنى، حيث يوجد استعداد 41% منهم للتضحية بالعمل من المنزل، و37% بالهوايات، و34% بالحياة الاجتماعية، مقابل الحصول على راتب أعلى.
كما يواجه العاملون المستقلون تحديات تشغيلية تزيد من الهشاشة المالية، مثل صعوبة استلام المدفوعات الدولية وعدم كفاية البنية التحتية لسرعة الإنترنت، وفي هذا النظام الجديد، يختلف اغتراب العمل؛ فبينما كان الاغتراب التقليدي يتعلق بالمنتج، فإن العاملين على المنصات يغتربون عن بياناتهم والخوارزميات التي تتحكم في توزيع العمل والتسعير، مما يجعل المنصة هي الرأسمالي الجديد الذي يسيطر على العملية الإنتاجية دون تحمل مسؤوليات الحماية الوظيفية.
لكن، ومن جهة أُخرى، تُعد قدرة جيل زد على التكيف مع التكنولوجيا سلاحهم الأقوى لمواجهة الهشاشة، فهم يرون الذكاء الاصطناعي (AI) ليس كتهديد لعملهم، بل كفرصة للنجاة وإعادة تعريف مسارهم المهني، إذ إن 70% من جيل زد في الشرق الأوسط يستخدمون أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، سواء في التصميم أو كتابة المحتوى أو إطلاق المشاريع، وهي نسبة تفوق المعدل العالمي لاستخدامه.
هذا التبني المبكر يعكس وعيًا بالتحولات القادمة، حيث ستغير التقنيات 22% من الوظائف الحالية وتخلق 170 مليون وظيفة جديدة بحلول 2030، ما يعني أن الجيل يتبنى مبدأ “التعلم مدى الحياة” ويبحث عن فرص التدريب كاستراتيجية للبقاء في سوق العمل المتغير. ومع ذلك، يظل التناقض الهيكلي قائمًا؛ فبينما الجيل مستعد تقنيًا، ترى 63% من الشركات في الشرق الأوسط أن نقص الكفاءات التقنية هو أكبر عقبة أمام التحول الرقمي، ما يوضح أن التحدي يكمن في بطء استجابة المؤسسات.

من اقتصاد الوفرة إلى اقتصاد القيمة
كما ذكرنا من قبل، يتميز جيل زد بوعي قيمي مرتفع، هذا يتضح من رفضهم لمهام وظيفية تتعارض مع قيمهم. ومع ذلك، يتصادم هذا الوعي مع الواقع الاقتصادي القاسي، فالضغط الناجم عن العيش “من راتب إلى راتب” يفرض عليهم الوعي السعري المرتفع؛ حيث يفضل 32% منهم شراء المنتج الأرخص، و37% يحرصون على البحث عن العروض والتخفيضات.
هذا الانقسام يعني أن الوعي القيمي هو الرغبة، بينما الوعي السعري (الراتب) هو الحاجة؛ فالهشاشة المالية تُحيّد دور الأخلاق في قرارات الشراء اليومية، فيما تظهر مفارقة أخرى في أنهم، بالرغم من عدم امتلاكهم مدخرات كافية لتغطية نفقات شهر واحد، يميلون إلى الإنفاق على الفئات التقديرية مثل السفر والترفيه، حيث ارتفع إنفاقهم على السلع غير الأساسية بأكثر من 25% مقارنة بالعام الماضي، ويُفسّر هذا سوسيولوجيًا كـ“تعويض عن عدم اليقين”؛ فصعوبة تحقيق الأهداف الكبيرة (كالمنزل أو الزواج المستقر) تدفع الجيل إلى التركيز على الاستثمار في التجارب القريبة وكشكل من أشكال التنفيس، أو بالمعنى الدارج بالمصري، “عيش اليوم بيومه“.
رغم أن الجيل يولي أهمية كبيرة للتوازن بين العمل والحياة، فإن الضغوط المالية تجعلهم يتنازلون عن هذا المبدأ؛ فيصبحون مستعدين للتضحية بحياتهم الاجتماعية (34%) وهواياتهم (37%) مقابل راتب أعلى
كذلك، تعتمد المنصات الرقمية على استغلال “اقتصاد الانتباه” (Attention Economy) لتوجيه سلوكيات جيل زد الاستهلاكية، لذلك فإن المنصات البصرية القصيرة مثل (Instagram Reels) و(TikTok) هي المفضلة لاستهلاك المحتوى، مما يعكس تفاعلا سريعا مع المحتوى البصري، فيما أن هذه الجوانب البصرية للإعلانات تلعب دورا حاسما؛ فـ 90% من المشاركين يرون أن التصاميم الجذابة والمبتكرة تلفت انتباههم وتزيد اهتمامهم بالمنتج، ويعتمد 47% من الجيل على ترشيحات المؤثرين المحليين كمصدر موثوق للإلهام عند الشراء. ومع ذلك، فقرارات الشراء ليست فورية؛ فبالرغم من التأثر بالمحتوى التسويقي، يحتاج 23% من جيل زد إلى مشاهدة الإعلان أربع أو خمس مرات قبل الإقدام على الشراء، ما يدل على وجود حذر استهلاكي يعكس عملية بحث وتقييم معمقة قبل إنفاق المال الهش الذي تم تحصيله بصعوبة.
الوعي الصحي والنفسي: جيل الوعي الهش
أظهر جيل زد وعيًا متزايدًا بالصحة النفسية، وهو وعي ينبع من بيئة اجتماعية مضطربة تفتقر إلى الأمن البنيوي، فيتميز هذا الجيل بأنه معولم ومنفتح، يتابع ثقافات وقضايا عالمية متعددة، كما يظهر حساسية اجتماعية وتضامنًا ملحوظًا مع قضايا إنسانية كبرى. هذا الوعي هو امتداد لمطلب أوسع بجودة الحياة والحوكمة الرشيدة التي توفر الأمن الإنساني الأساسي. ومع ذلك، تؤثر المنصات الرقمية سلبًا على هوية الجيل ووعيه بذاته (Self-awareness)؛ فتصبح الهوية مرتبطة بالصورة وعدد التفاعلات والمشاهدات، ما يولد شعورًا بالقلق أو النقص نتيجة المقارنة مع الحياة “المثالية” على الإنترنت. يعيش هذا الجيل في “فضاء مزدوج” بين الواقع التقليدي والفضاء الرقمي المفتوح، مما يضعهم في حالة من “الضبابية” حيث تتأثر هويتهم بـ“ترند” اليوم والغد والأمس.
كما تظهر الهشاشة النفسية أيضا في ظاهرة “تسليع الرفاهية” (Commodification of Wellness)، حيث يتحول الوعي الصحي إلى “موضة” عبر المنصات، فيؤدي هذا إلى الإفراط في التشخيص الذاتي السطحي؛ حيث يتم وصف أي ضغط بسيط بأنه “اكتئاب”، أو قلق عادي بأنه “نوبة هلع”، كما يُستخدم مصطلحات سيكولوجية معقدة بطريقة سطحية، غالبا كوسيلة لجذب الانتباه عبر المنصات بدلًا من السعي للفهم الحقيقي للذات وما تُعانيه، مما يفاقم الخلط بين التعب النفسي الطبيعي والمرض النفسي.
ربما يوجد ترابط عضوي بين الهشاشة الاقتصادية والنفسية، إذ ينبع القلق الأساسي للجيل من الأخبار المقلقة حول التضخم والبطالة وغير ذلك من أخبار الكوارث والحروب، ورغم أن الجيل يولي أهمية كبيرة للتوازن بين العمل والحياة، فإن الضغوط المالية تجعلهم يتنازلون عن هذا المبدأ؛ فيصبحون مستعدين للتضحية بحياتهم الاجتماعية (34%) وهواياتهم (37%) مقابل راتب أعلى.
نهاية، يمثل جيل زد في العالم العربي نقطة تحول تاريخية، حيث يلتقي التمدد الرقمي بالهشاشة البنيوية، ما يطرح تحديا وجوديا عميقًا: هل هذا الجيل هو نتاج للاستلاب البياني والاقتصادي الذي تفرضه رأسمالية المنصات، أم أنه حامل بذرة الوعي لـ “إنسانٍ جديد”؟. فقد أسفرت هذه الظروف عن وعي نقدي يمتد من رفض التوظيف التقليدي وصولاً إلى المطالبة بالكرامة الشاملة.
وإن الطاقة الأخلاقية الهائلة التي يظهرها الشباب، والتي أطلق عليها المُنظّر الأميركي جورج كاتسيافيكاس اسم “الأيروس الجمعي“، ليست مجرد غضب عابر، بل هي مطالبة بالحق في الأمن الأنطولوجي، أي الحق في وجود آمن ومُقدَّر يتجاوز المنطق المادي البحت للإنتاج والاستهلاك. والتناقض الأكبر يكمن في أن هذا الجيل يمتلك أدوات التغيير التقنية (70% يستخدمون الذكاء الاصطناعي)، لكن مصير وعيه سيتوقف على قدرته على العبور من مجرد “الانفعال الواعي” إلى “التنظيم المؤسسي” الفعّال الذي يبني جسرًا بين الصرخة الوجودية والقدرة على تغيير الأنظمة القديمة.