في صباح الثلاثاء 21 يناير/كانون الثاني 2025، استيقظت السيدة سارة (65 عامًا) على أصوات غريبة تشقّ سماء مخيم جنين، مكبرات صوت معلّقة بطائرات مسيّرة أخذت تبث نداءات تطالب السكان بمغادرة المخيم فورًا عبر “تقاطع عودة” عند الجهة الشمالية الغربية.
بدا الأمر لسارة في البداية مجرد محاولة جديدة من محاولات الحرب النفسية التي اعتادتها القوات الإسرائيلية ضد سكان الضفة، خاصة أنها جاءت بعد يومين فقط من إعلان هدنة إنسانية بين فصائل المقاومة في غزة والحكومة الإسرائيلية.
لكن ما ظنّته خدعة اتضح أنه مقدّمة لكارثة. ففي صباح اليوم التالي عادت المسيّرات لتحلّق على ارتفاع منخفض، تكرر أوامر الإخلاء بين التاسعة صباحًا والخامسة مساءً، وتصرخ بالعربية: “أخلوا منازلكم. إذا لم تفعلوا ستتحملون المسؤولية. سندمّر المخيم”، كانت الطائرات تقترب حتى النوافذ وتدور فوق المنازل مرارًا، في مشهد أثار الرعب في نفوس الجميع.
تروي سارة، التي اضطرّت في النهاية لمغادرة بيتها تحت أعين الجنود: “كنا نظن أننا سنغيب ليوم أو يومين ثم نعود. خرجنا بملابسنا فقط، لم نأخذ شيئًا… حتى أدويتي تركتها. الوضع كان قاسيًا جدًا. حين يكون لديك أطفال أو شخص من ذوي الإعاقة، لا تفكر إلا بسلامتهم. وبينما كنا نتجه نحو تقاطع عودة، بدأ الجنود الذين كانوا قريبين منا يطلقون النار في الهواء، ربما لتخويفنا… لكننا واصلنا المشي حتى وصلنا. ومنذ ذلك اليوم… لم أعد إلى بيتي”.
"أخشى أن يتكرر ما حدث في 1948 معنا هنا". #إسرائيل هجرّت من مخيمات #الضفة_الغربية 32 ألف شخص هم أصلا لاجئون أو ينحدرون من لاجئين. pic.twitter.com/TkKi0ezOCi
— هيومن رايتس ووتش (@hrw_ar) November 22, 2025
لكن سارة لم تكن وحدها. فقد وثّقت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقرير صدر في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 أن أكثر من 32 ألف فلسطيني جرى تهجيرهم من ثلاثة مخيمات للاجئين في الضفة الغربية ( جنين – طولكرم – نور شمس) خلال شهري يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط من العام نفسه، وأن السلطات الإسرائيلية لا تزال تمنع عودتهم.
ويوضح التقرير الذي جاء في 105 صفحة تحت عنوان “ضاعت كل أحلامي: تهجير إسرائيل القسري للفلسطينيين في الضفة الغربية” أن المخيمات الثلاثة أُفرغت تقريبًا من سكانها، في أكبر عملية تهجير تشهدها الضفة الغربية منذ عام 1967. وبعد عشرة أشهر من العملية، ما تزال المخيمات شبه خاوية، فيما يعيش عشرات الآلاف من الفلسطينيين في حالة نزوح مستمر، محرومين من العودة رغم توقف العمليات العسكرية حولهم.
السور الحديدي.. تفاصيل العملية
بدأت عملية “السور الحديدي” (الاسم الذي أطلقه الاحتلال على العملية العسكرية في المخيمات الثلاثة) في 21 يناير/كانون الثاني 2025 عندما شنت القوات الإسرائيلية هجومها الأول على مخيم جنين، قبل أن تمتد لاحقًا إلى مخيم طولكرم في 27 من الشهر نفسه، ثم إلى مخيم نور شمس في 9 فبراير/شباط، وكان القاسم المشترك بين العمليات الثلاث هو النمط نفسه: تكتيكات واحدة، آليات واحدة، وإجبار آلاف السكان على مغادرة بيوتهم تحت وقع الخوف والنيران.
مخيم جنين.. البداية
في صباح 21 يناير/كانون الثاني، انطلقت الحملة على جنين بقوة غير مسبوقة: مروحيات أباتشي تمطر المنطقة بالرصاص، طائرات مسيّرة مسلحة، آليات مصفحة، جرافات عسكرية، ومئات الجنود الذين اقتحموا المخيم من عدة محاور.
تحكي فاطيمة (44 عامًا) عن اللحظات الأولى للغزو: “كان الوقت يقترب من الظهيرة، وسمعت صوت طائرة كأنها تطلق النار على الناس. اختبأنا داخل المنزل، لم نعرف شيئًا عمّا يحدث. بقينا هكذا خمس أو عشر دقائق، ثم بدأ الناس خارجًا يصرخون ويقولون إن علينا أن نخرج فورًا.”
كانت أوامر الإخلاء تأتي متقطعة، غير واضحة، تصدر من طائرات مسيّرة مجهّزة بمكبرات صوت تطالب السكان بالمغادرة عبر “تقاطع عودة” في الجهة الشمالية الغربية، وتروي سارة، التي خرجت قسرًا من منزلها تحت أنظار الجنود: “عندما وصلنا إلى تقاطع عودة، وجدناه ممتلئًا بالجنود. كانت هناك نقطة تفتيش مرتجلة. لم يسمحوا لي بالمرور إلا بعد أن نظرت إلى كاميرا لفحص العين. رأيت أشخاصًا آخرين يُسحبون جانبًا بعدها… لم نفهم لماذا أو إلى أين.”
مخيم طولكرم.. تكرار المشهد نفسه
بعد ستة أيام فقط، وتحديدًا في 27 يناير، بدأت العملية تتدحرج نحو مخيم طولكرم بنفس السيناريو تقريبًا، قوات برية، طائرات مسيّرة، دبابات، وجرافات تهدم كل ما أمامها، وإجبار على التهجير تحت وطأة الصواريخ والرصاص الحي.
تقول ليلى (54 عامًا) التي كانت في منزلها في الجزء الشمالي الشرقي من المخيم حين بدأ الاقتحام: “كان الوقت ظهيرة، كنا نطهي الطعام. كنا نعلم أنهم قادمون — تابعنا الأخبار على تيليغرام. فجأة اقتحموا الباب… دخل حوالي 25 جنديًا مع كلب. كان الأمر مرعبًا… كان وكأنه نكبة جديدة.”
تتابع ليلى وهي تستعيد تفاصيل اقتحام منزلها: “كانوا يصرخون، يقلبون كل شيء، يدمرون الأثاث بلا تفسير. بعضهم كان مقنّعًا، وبعضهم يحمل قنابل ورشاشات كبيرة. دفعونا خارج المنزل. عندما طلبت ابنتي الحامل الحليب والملابس للأطفال، قال لها أحد الجنود: ليس لديكِ منزل هنا بعد الآن… يجب أن تغادري.”
في فوضى الهروب أصيبت ابنة ليلى -وكانت في شهرها الرابع -وسقطت أرضًا. تقول ليلى إنها فقدت حملها لاحقًا، وإنها كانت لا تزال تحت وطأة الحزن حين قابلتها “هيومن رايتس ووتش” في مارس/أذار الماضي، وتضيف أنها شاهدت جرافات عسكرية -إحداها جرافة كاتربيلر D9- وهي تزيل الأنقاض وتفتح الطرق، فيما كانت أجزاء واسعة من منطقتها مدمرة أصلاً من عمليات سابقة.
وبحلول الخامسة مساءً، كانت القوات الإسرائيلية قد اقتحمت المخيم من كل مداخله تقريبًا، بينما كان السكان ينقلون ما يرونه عبر تيليغرام من صور وفيديوهات وثقتها لاحقًا المنظمات الحقوقية.
مخيم نور شمس.. النسخة الثالثة من العملية
في 9 فبراير/شباط ، كان الدور قد وصل إلى مخيم نور شمس، حيث كررت القوات الإسرائيلية النمط ذاته من الاقتحامات والإجبار على المغادرة والتدمير الواسع، كل هذا كان يتم على الهواء مباشرة وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع.
تروي إحدى الشاهدات أن الجنود فجّروا باب أحد المنازل بجهاز متفجر قبل أن يقتحموا الحي: “كنا أنا وزوجي وابنتنا ذات الـ 14 عامًا ننتظر بخوف داخل المنزل. رأيناهم يستخدمون الآليات الثقيلة لهدم جدار الحديقة قبل أن يأمرونا بالمغادرة وترك المخيم”، لكن المأساة بلغت ذروتها عندما أدى الانفجار الذي استخدم في اقتحام المنزل إلى مقتل رهف الأشقر (21 عامًا) وإصابة والدها إصابة خطيرة.
تطهير عرقي ممنهج
تقول الباحثة الأولى في حقوق اللاجئين والمهاجرين في هيومن رايتس ووتش، نادية هاردمان، وهي تستعيد مشاهد الأشهر الأولى من عام 2025: “في تلك الفترة، دفعت السلطات الإسرائيلية نحو 32 ألف فلسطيني بعيدًا عن بيوتهم في مخيمات الضفة الغربية، اقتلعوهم من جذورهم بلا سند قانوني، ولم يُتح لهم الطريق للعودة. وبينما كان العالم يحدّق في غزة، كانت في الضفة الغربية جرائم تُرتكب في الصمت: جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وتطهير عرقي… كل ذلك يستدعي تحقيقًا لا يعرف المجاملة، ومحاسبة لا تعرف التساهل.”
استندت المنظمة في حكمها هذا على شهادات 31 نازحًا حملوا قصصهم فوق أكتافهم، وعلى صور فضائية التقطت الخراب من علٍ، وعلى بيانات هدم وفيديوهات وثّقت ما جرى لحظة بلحظة، وبحسب التقرير، فإن الأشهر الستة الأولى من العملية شهدت تحطيم 850 مبنى في المخيمات الثلاثة، كأن جرافات الحرب كانت تحاول محو ذاكرة كاملة، لا مجرد حجارة. وفي الوقت نفسه، كانت تقارير الأمم المتحدة تسجل مشاهد تتكرر: شوارع ممزقة، آليات عسكرية رابضة، حواجز ترسم حدودًا جديدة بالقوة، وجرافات تحفر طريقها فوق البيوت والذكريات.
هذه العملية لم تكن مجرد انتهاك، بل صفعة صريحة لاتفاقية جنيف الرابعة التي تنص، بوضوح لا يحتمل التأويل: “لا يجوز لقوة الاحتلال أن تزيح السكان قسرًا، جزئيًا أو كليًا، من أرضهم المحتلة، مهما كان الدافع.”
تمنع #إسرائيل عودة 32 ألف شخص إلى بيوتهم في مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس، ما يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية https://t.co/2s5enGU5AC
— هيومن رايتس ووتش (@hrw_ar) November 20, 2025
ومع ذلك، كان الواقع شيئًا آخر تمامًا؛ فقد وثقت المنظمة سلسلة من الانتهاكات التي جعلت مشهد التهجير أكثر قسوة مما تصفه النصوص:
غياب الإخلاء الآمن.. ورحيل تحت فوهات البنادق
اقتحمت القوات الإسرائيلية المخيمات بلا إنذار واضح، وبلا خطط تُشبه ما يسمى “إخلاءً”، دخل الجنود وأُطلقت النار، واختلط صراخ المدنيين بصوت الطائرات فوق رؤوسهم، فيما كان القناصة يعتلون الأسطح يراقبون كل خطوة يخطوها الهاربون.
طرق خروج بلا اتجاه
في جنين، لم تكن هناك طرق محددة… فقط أوامر عائمة بالمغادرة، في طولكرم ونور شمس، بدت التعليمات أشبه بالفخاخ؛ متضاربة، مربكة، وأحيانًا قاتلة، إذ وثقت المنظمة حالات أُطلقت فيها النار على أشخاص حاولوا الهرب بحثًا عن ممر آمن.
نزوح بلا سند.. ولا سقف يحمي
حين خرج الناس من المخيمات، خرجوا إلى المجهول، لجأ بعضهم إلى بيوت أقارب ضاقت بهم، فتكدست العائلات فوق بعضها، آخرون افترشوا المساجد والمدارس والجمعيات الخيرية، لم تكن هناك خيمة منصوبة لهم، ولا غذاء، ولا دواء، ولا يد رسمية تمتد لتقول: “أنتم لستم وحدكم.، فالكيان المجرم الذي هجّرهم، تركهم بعدها يواجهون مصيرهم بأنفسهم.
أكبر عملية تهجير منذ 1967
يشير تقرير هيومن رايتس ووتش إلى أنّ ما جرى في المخيمات الثلاثة لم يكن مجرد عملية عسكرية عابرة، بل أكبر موجة تهجير يتعرض لها الفلسطينيون منذ عام 1967. شيئًا فشيئًا، بدأت الصورة تنجلي؛ فالحديث عن “إعادة تشكيل المنطقة” أو “فتح مسارات دخول جديدة” -كما ادّعت السلطات الإسرائيلية- لم يكن سوى ستار لغوي رقيق يخفي خلفه واقعًا أشد قسوة. فـ”فتح المسارات”، كما زعم الاحتلال في رده، كان يستلزم، وفق تعبيرهم، “هدم صفوف من المباني”، بينما كانت الحقيقة على الأرض تقول شيئًا آخر تمامًا: اقتلاع بشر، لا إزالة حجارة.
ما حدث لم يكن تحسينًا هندسيًا، ولا عملية تنظيم عمراني، بل تهجيرٌ ممنهج، إخراجٌ مدروس بنيةٍ صريحةٍ لعدم العودة، وقد وثقت المنظمة هذا النمط من خلال مؤشرات لم يكن بالإمكان تجاهلها: فخلال الأشهر الستة التي تلت العملية، بقيت المخيمات مغلقة تمامًا في وجه سكانها، وأُطلقت النار على من حاولوا العودة إلى بيوتهم ولو لإلقاء نظرة أخيرة عليها، أما القلة القليلة التي سُمح لها بالدخول، فكان ذلك تحت شرط قاسٍ: دقائق معدودة لجمع الضروريات، ثم مغادرة لا رجعة بعدها.
كل تلك التفاصيل تُشكّل خيوطًا متشابكة تحيك رواية واحدة، ما حدث لم يكن طارئًا ولا اعتباطيًا، بل خطّة سبقت التنفيذ، نية مبيتة لإفراغ المخيمات وتحويلها إلى مساحة بلا سكان، ثم إدراجها ضمن مشروع أكبر، مشروع يسعى إلى إعادة تشكيل الضفة الغربية نفسها، لا كمجتمع يعيش على أرضه، بل كمستوطنة مترامية الأطراف تمتد حيث كانت المخيمات ذات يوم تنبض بالحياة.
دعوة للمحاسبة
أكدت المنظمة، استنادًا إلى شهادات حيّة وأدلة بصرية وميدانية لا يرقى إليها الشك، أن السياسات التي اتبعتها قوات الاحتلال داخل المخيمات الثلاثة ليست مجرد ممارسات متفرقة، بل جزءٌ مترابط من جريمتي الفصل العنصري والاضطهاد اللتين تمارسهما السلطات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.
وتشير المنظمة إلى أن حجم الانتهاكات وطبيعتها يضعان كبار المسؤولين الإسرائيليين في دائرة المساءلة الدولية، على أساس “مسؤولية القيادة”، تلك المسؤولية التي لا تسقط بالتقادم ولا تُعفى بالتبرير، وقد حدد التقرير عددًا من القيادات السياسية والعسكرية التي ينبغي -وفقًا للمنظمة- تقديمها للمحاكمة بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
من بينهم، بنيامين نتنياهو، يسرائيل كاتس، بتسلئيل سموتريتش، اللواء آفي بلوط، اللواء هرتسي هاليفي، اللواء إيال زامير… أسماء تتكرر في رأس هرم السلطة، وتتشابك في صلب القرار الذي قاد إلى ما شهده الفلسطينيون من تهجير ومحو متدرج للوجود.
ولم يكتفِ التقرير بالإدانة، بل دعا إلى اتخاذ إجراءات ملموسة منها فرض عقوبات محددة الهدف، حظر تصدير الأسلحة، تعليق الاتفاقيات التجارية التفضيلية، منع التعامل مع منتجات المستوطنات، وتنفيذ أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية… خطوات تريد المنظمة أن تكون بمثابة رسالة واضحة بأن العالم لا يتغاضى عن الظلم حين يصبح علنيًا إلى هذا الحد.
نتنياهو وغيره من المسؤولين الإسرائيليين يجب أن يخضعوا للتحقيق لدورهم في التهجير القسري في #الضفة_الغربية.
على الحكومات أن تفرض عليهم عقوبات.
اقرؤوا المزيد https://t.co/2s5enGU5AC pic.twitter.com/HkO3CYygQI— هيومن رايتس ووتش (@hrw_ar) November 21, 2025
ومن جانبها، كررت الباحثة الأولى في حقوق اللاجئين والمهاجرين، نادية هاردمان، دعوة تحمل ثقل اللحظة ومرارتها، قائلة:””على الحكومات في مختلف دول العالم التحرّك فورًا لمنع تفاقم القمع في الضفة الغربية، وفرض العقوبات على نتنياهو وكاتس والمسؤولين الضالعين في الجرائم الخطيرة ضد الفلسطينيين”.
حاولت هاردمان بصرختها تلك أن تبعث بجرس إنذار، لا يطالب بالعدالة فقط، بل يسعى لأن يستنهض ضميرًا عالميًا نائمًا وحثه على الاستفاقة لأجل أن يوقف انهيارًا إنسانيًا يتوسع في الظل في غيبة تامة عن أصحاب الشعارات المزدوجة والمبادئ المزيفة.
وخلصت المنظمة في تقريرها إلى أن مجموع الحقائق والشهادات والصور الموثقة يكشف -بصورة لا تحتمل التأويل- عن سياسة متعمدة انتهجتها السلطات الإسرائيلية، لا تهدف فقط إلى إزاحة السكان مؤقتًا، بل إلى تدمير المخيمات نفسها ومنع عودة أهلها بشكل دائم.
ما جرى، كما تؤكد المنظمة، يتجاوز كل ما يمكن تبريره تحت مظلة القانون الدولي الإنساني، ويدخل بوضوح في إطار جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
هذا التوثيق الدقيق، المدعوم بالأدلة الميدانية، يفتح الباب واسعًا أمام المجتمع الدولي -إن امتلك الإرادة- للتحرك نحو المساءلة وإحقاق العدالة للضحايا ولمن شهدوا هذه الانتهاكات بأعينهم، كي لا تُطوى هذه الصفحات الثقيلة بلا حساب.
الكرة في ملعب الحكومات مجددًا
ربما لا يحمل ما وثقته هيومن رايتس ووتش من انتهاكات في الضفة الغربية جديدًا لمن تابع مسار الأحداث؛ فمنذ اندلاع الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، قتلت القوات الإسرائيلية ما يقارب الألف فلسطيني في الضفة، ووسّعت سلطات الاحتلال من استخدام الاعتقال الإداري بلا تهمة أو محاكمة، وكثّفت هدم المنازل وعمليات الاستيطان غير القانوني، وفي الوقت ذاته، ازداد عنف المستوطنين المسلحين والمدعومين من الدولة، كما تصاعدت شكاوى التعذيب وسوء المعاملة بحق المعتقلين الفلسطينيين.
من هذا المنظور، يشكّل التهجير القسري وغيره من أنماط القمع الممنهج جزءًا من جريمتي الفصل العنصري والاضطهاد اللتين ترتكبهما السلطات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وفق ما توثقه الأدلة، وهذه المعطيات ليست مجرد سجل انتهاكات، بل مواد قانونية قابلة للتوظيف في مسار ملاحقة الاحتلال أمام المنابر القضائية الدولية.
إنّ هذا الكم من الأدلة الموثقة يعزز قدرة الجانب الفلسطيني على دفع ملفاته القانونية قدمًا، سواء في سياق فضح ممارسات الاحتلال أو في كشف زيف ادعاءاته بالالتزام بالقانون الدولي ومعاييره الحقوقية. ويمكن للتقرير، بما تضمنه من شهادات وصور وبيانات، أن يشكّل عنصرًا مهمًا أمام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.
ولا يقف الأمر عند حدود المحاكم الدولية فحسب؛ فثمة دول تملك تشريعات تسمح بمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب خارج إقليمها، بالإضافة إلى مسارات قانونية موازية مثل المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان وبعض الآليات الإقليمية الأخرى.
في المحصلة، فإن تلاقي هذه المسارات القانونية والدبلوماسية يمكن أن يشكّل شبكة ضغط دولية متنامية، رأسية وأفقية، تسهم في تعميق عزلة إسرائيل وفضح وجهها الحقيقي أمام الرأي العام العالمي، كما يعيد هذا الزخم المتصاعد القضية الفلسطينية إلى موقعها الطبيعي في صدارة الاهتمام الدولي، ممهدًا الطريق لإلقاء الكرة مجددًا في ملعب الحكومات العربية والإسلامية، إذ لم تعد هناك حاجة لمبررات أو أدلة إضافية لإدانة المحتل.
فهذه الحكومات، إن امتلكت الإرادة، قادرة على ترميم ولو جزء يسير من الشروخ العميقة التي خلّفها صمتها وخذلانها للفلسطينيين منذ اندلاع الحرب، واستعادة دور طال غيابه في حماية الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ليبقى السؤال المعتاد: هل تسُتغل الفرصة أم يتحول الخذلان إلى جينات لا يمكن التخلص منها على الأقل لدى الجيل الحالي من الأنظمة والحكومات؟
