في قلب اليمن الذي انهكته الحرب، تتحول الخيام البسيطة إلى حصون هشة لا تحمي ساكنيها من برد قارس يهدد حياتهم، فملايين النازحين يعيشون في ظروف مأساوية، حيث لا توفر الخيام ولا البطانيات القليلة حماية كافية، ويضطر الكثيرون لإشعال نيران صغيرة داخل المسكن لتدفئة أنفسهم، في مشهد يعكس الخطر المستمر والصراع اليومي بين البقاء والموت.
في مخيم جو النسيم الأوسط بمحافظة مأرب، يعيش النازح بسام الصلاحي مع عائلته تحت وطأة البرد القارس، ويقول لـ”نون بوست” بأن البرد شديد جدًا ويصيبهم بأمراض الزكام والالتهابات الحادة. ويصف الصلاحي الصعوبات اليومية قائلاً إن السكن في المخيم غير مناسب تمامًا ولا يوفر أي حماية، والبطانيات المتاحة بالكاد تكفي.
ويتابع: “أحاول تدفئة نفسي وأطفالي من خلال إشعال نار صغيرة، رغم أن هذا خطير جدًا وقد يؤدي إلى كارثة”.

أزمة متفاقمة
يمثل النزاع المستمر في اليمن أحد أبرز الأسباب في تفاقم الوضع الإنساني، حيث أدى تدهور الاقتصاد والصدمات المناخية إلى انعدام الأمن الغذائي بشكل واسع، وزيادة المخاطر الصحية للسكان، إذ تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن نحو 19.5 مليون شخص سيحتاجون إلى المساعدات الإنسانية وخدمات الحماية خلال عام 2025، بينهم 10.5 مليون من الفئات الأكثر ضعفا، بما في ذلك النساء والفتيات والنازحون وذوي الإعاقة.
رئيس الوحدة التنفيذية لشؤون النازحين، نجيب السعدي، أكد في حديثه لـ”نون بوست” أن خطط الاستجابة لموجة البرد هذا العام تعتمد بشكل رئيسي على البيانات الميدانية الدقيقة، رغم التحديات التي واجهت جمع هذه البيانات خلال الأشهر الماضية.
وأشار السعدي إلى أن آخر تقييم لاحتياجات النازحين من مواد الإيواء الشتوية أُجري في الربع الأول من عام 2025، وشمل تحديث الاحتياجات في المناطق المحررة سواء للنازحين في المخيمات أو في المنازل، مع تطلع لإجراء مسح جديد في الربع الرابع من العام الجاري إذا تمكنت الوحدة من تجاوز التحديات الميدانية.
وعزا السعدي فجوة الدعم هذا العام إلى تراجع دعم المانحين لليمن، نتيجة قناعتهم بأن التمويلات السابقة لم تحقق أثرا مستداما، إذ ظلت الاحتياجات على حالها رغم ضخامة التمويل.
وأوضح أن الأمم المتحدة تبنت تحولًا من الاستجابة الطارئة إلى إيجاد حلول دائمة والمشاريع المستدامة، بينما لا تزال بعض المنظمات الدولية تعمل بآلياتها التقليدية، ما يستدعي وقتا لتطوير خططها بما يتوافق مع هذا التحول، بالإضافة إلى الحاجة لإصلاحات حكومية تمكن الحكومة من قيادة جهود المساعدات الإنسانية وتوجيهها نحو حلول دائمة للنزوح.
وأكد السعدي وجود آليات واضحة للتواصل وتبادل البيانات مع المنظمات الإنسانية لضمان وصول المساعدات الشتوية بشكل سلس، مع وجود نقاط تواصل على المستويات المركزية والمحافظات والمديريات والمخيمات لتسهيل إيصال الدعم، مشيراً إلى أن هناك مخيمات تمثل أولوية قصوى نظرًا لشدة البرودة أو ارتفاع عدد السكان، وعلى رأسها مخيمات محافظات مأرب والضالع وتعز.
وبخصوص المعوقات الميدانية، أشار السعدي إلى أن ضعف الرؤية الحكومية تجاه الملف الإنساني وقلة الاهتمام بملف النازحين، إضافة إلى محدودية الدعم الحكومي للوحدة، خلقت تحديات كبيرة أمام تحسين ظروف الإيواء، رغم الجهود السابقة التي قدمتها الوحدة بموارد تشغيلية شبه منعدمة.


أعداد النازحين والفئات الأكثر ضعفا
يعيش مئات الآلاف من النازحين في مأرب والمحافظات الأخرى ظروفًا مأساوية، إذ تشير التقديرات إلى أن المخيمات تحتضن أكثر من مليوني نازح ضمن نحو 300 ألف أسرة موزعة على أكثر من 200 مخيم، معظمها في خيام مؤقتة لا توفر الحد الأدنى من الحماية. وتصل فجوة التمويل إلى 95%، بعد أن تم توفير نسبة ضئيلة من الدعم المطلوب لاستجابة الشتاء، التي تستهدف أكثر من 217 ألف شخص، بينهم نصف مليون معرضون لدرجات حرارة تقترب من التجمد.
مدير الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين في مأرب، سيف مثنى، أكد في حديثه لـ”نون بوست” أن محافظة مأرب تستضيف أكثر من 2,087,573 نازحا ضمن 299,965 أسرة موزعين على 209 مخيمات ومواقع نزوح، يعيش معظمهم في خيام ومساكن مؤقتة تفتقر إلى الحد الأدنى من الحماية أمام موجات البرد والأمطار.

وأكد مثنى أن التقييمات الميدانية الأخيرة تشير إلى اتساع فجوة الاستجابة الإنسانية هذا العام، حيث لم تتجاوز التدخلات المقدمة نسبة 19% من الاحتياج الفعلي، في وقت تحتاج فيه المخيمات بشكل عاجل إلى ما يزيد عن 19,110 حقيبة إيواء شتوية وأكثر من 10,045 بطانية وغطاء، إضافة إلى توفير وسائل تدفئة آمنة بديلة عن الأساليب البدائية التي تسببت خلال الأعوام الماضية بحوادث حرائق واختناق داخل الخيام.
ويضيف أن الفئات الأشد ضعفا داخل المخيمات تواجه أوضاعا أكثر خطورة هذا الشتاء، إذ تضم مخيمات مأرب ما يزيد عن 21,652 شخصا من ذوي الأمراض المزمنة، إضافة إلى 30,156 امرأة من الحوامل والمرضعات، و8,415 من كبار السن فوق سن الستين، إلى جانب 8,123 من ذوي الإعاقة الحركية، و9,632 من ذوي الإعاقة الذهنية، فضلا عن وجود 1,341 طفلًا غير مصحوبين، و3,624 طفلًا يعيلون أسرهم وسط ظروف معيشية شديدة الصعوبة.
ويشرح مثنى أن هذه الفئات تحديدًا هي الأكثر عرضة للمضاعفات الصحية الخطيرة مع انخفاض درجات الحرارة، خصوصا في ظل ضعف الخدمات الصحية داخل المخيمات وانتشار الأمراض التنفسية خلال المواسم الباردة.
ويحذر مثنى من أن استمرار تراجع التمويل وغياب التدخلات العاجلة قد يؤدي إلى تكرار المآسي التي سجلت في المواسم الشتوية الماضية، حيث ارتفعت حالات الوفاة بين الأطفال وكبار السن نتيجة البرد القارس وعدم توفر وسائل التدفئة الملائمة.
وضع صحي متفاقم
يشهد اليمن أزمة صحية حادة، إذ يواجه ملايين السكان مخاطر كبيرة نتيجة تفشي الكوليرا المستمر منذ عام 2016، والذي تفاقم بشكل كبير في السنوات الأخيرة بسبب النزاع المسلح وانهيار البنية التحتية للمياه والصرف الصحي. بين مارس 2024 وأغسطس 2025، سجّل اليمن نحو 332 ألف حالة اشتباه بالكوليرا و1073 حالة وفاة، مع تزايد المخاوف من تفاقم الوضع خلال موسم الأمطار بسبب تلوث المياه وسوء شبكات الصرف الصحي.
كما أن نقص التمويل الدولي، الذي تجاوز 80% من متطلبات خطة الاستجابة الإنسانية، حدّ من قدرة المنظمات الإنسانية على تنفيذ برامج الوقاية والعلاج الضرورية، مما زاد من انتشار المرض، خصوصًا بين الأطفال والنساء والفئات الأكثر ضعفًا في المخيمات والمناطق المكتظة.

مدير الإعلام والتثقيف الصحي في مكتب الصحة بمحافظة مأرب، زياد الراعي، أوضح في تصريح خاص لـ “نون بوست، أن موجة البرد الشديدة التي تشهدها المحافظة أدت إلى تفاقم الوضع الصحي داخل مخيمات النازحين بشكل ملحوظ، خاصة بين الأطفال، في ظل ضعف الإمكانات الصحية وتراجع الدعم الإغاثي.
وأوضح الراعي، أن المرافق الصحية تسجل انتشاراً واسعاً لالتهابات الجهاز التنفسي بين الأطفال، إضافة إلى ارتفاع حالات الإصابة بالدفتيريا، التي تتركز غالباً بين الفئة العمرية دون سن الخامسة. كما أشار إلى أن حالات سوء التغذية ما تزال في تزايد مستمر نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة ونقص الغذاء الذي يعاني منه النازحون على مدار العام.
وأكد الراعي أن المرافق الصحية داخل المخيمات أو القريبة منها تواصل تقديم خدمات الرعاية الصحية الأولية، لكنها تعاني من نقص كبير في الأدوية، فيما توقفت بعض المرافق التي كانت مدعومة سابقاً من منظمات دولية، بينما تعمل أخرى بقدرات محدودة للغاية لا تتناسب مع حجم الاحتياج.
وبيّن أن الفرق الطبية المتنقّلة التي كانت تزيد عن 45 فريقاً في السابق تقلّصت اليوم إلى أربعة فرق فقط بسبب توقف التمويل، وهو ما أدى إلى فجوة كبيرة في التغطية الطبية داخل المخيمات التي تضم عشرات الآلاف من النازحين.
وأضاف الراعي أن أبرز الاحتياجات العاجلة تتمثل في توفير الأدوية والمستلزمات الطبية الأساسية، خصوصاً أدوية الأطفال، لتعزيز جاهزية المرافق الصحية في مواجهة الحالات المتزايدة خلال فصل الشتاء.
وأشار الراعي، إلى أن نقص الدواء وضعف الإمكانات ينعكسان مباشرة على جودة الخدمات الصحية، خاصة في التعامل مع الحالات الطارئة، لافتاً إلى أن انسحاب بعض المنظمات الدولية أدى إلى خلو عدد من المرافق من الكادر الطبي، ما ضاعف من معاناة النازحين وحدّ من القدرة على الاستجابة للحالات الحرجة.
