“إلى أهلي السوريين… أنتم أكثر من يعرف معنى الفقدان، ومعنى الغموض والخوف”.. بهذه الكلمات التي تختنق بالألم، وتتعثر بالقلق والوجع، وجّهت رغدة كيوان، زوجة المعارض الإماراتي الموقوف في دمشق جاسم الشامي، نداءً إلى الحكومة والشعب السوري.
ظهرت رغدة بصوتٍ مكسور وهي تستحضر لحظة اعتقال زوجها أمام عينيها في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، واقتياده إلى فرع الأمن السياسي، ثم انقطاع أثره كليًا منذ تلك اللحظة، لافتة أن الغياب ليس مؤلمًا فقط، بل قاتل، وإن الخوف الذي ينهش قلبها وقلب أطفالها الخمسة يكبر كل يوم مع غياب أي خبر رسمي أو توضيح عن مصيره أو ظروف احتجازه.
حذّرت زوجته من مخاوف جدية من احتمال تسليمه إلى أبوظبي، مؤكدة أن هذا الغموض الكثيف الذي يحيط بالقضية يفتح الباب على أسوأ الاحتمالات، وعلى خطر الترحيل القسري الذي قد يعرّض حياته للخطر ويضعه تحت تهديد التعذيب أو التنكيل أو السجن لسنوات طويلة.
“إلى أهلي السوريين، أنتم أكثر من يعرف معنى الفقدان، ومعنى الغموض والخوف”.. رسالة من السيدة رغدة كيوان، زوجة المعارض الإماراتي المعتقل جاسم الشامسي، إلى الحكومة والشعب السوري. pic.twitter.com/DReJoPY50t
— نون سوريا (@NoonPostSY) November 23, 2025
وختمت رغدة رسالتها بنداء يقطر رجاءً “يا السوريين… يا من عرفتم معنى الألم والغياب… أرجوكم لا تتركونا وحدنا، ارفعوا الصوت معنا. تضامنكم قد يكون الحاجز الأخير الذي يحمي جاسم من مصير يخشاه كل من عرفه وأحبه”.. فمن هو جاسم الشامي؟ وما حكاية المعارض الإماراتي الذي يقبع اليوم في دمشق تحت الخوف من الترحيل إلى بلاده، حيث يتهدد حياته خطر السجون والتعذيب وربما اختفاء عمرٌ بأكمله؟
ما القصة؟
جاسم راشد الشامسي معارض سياسي إماراتي بارز، شغل لسنوات موقعًا رفيعًا في وزارة المالية الإماراتية وصولًا إلى منصب مساعد وكيل وزارة، قبل أن يقدّم استقالته ويتجه إلى مسار المعارضة السياسية دفاعًا عن الحقوق والحريات.
برز الشامسي كصوت ناقد لانتهاكات حقوق الإنسان في الإمارات، وكمتضامن مع قضايا المعتقلين السياسيين، ومؤيد لثورات الشعوب العربية، ولا سيما الثورة السورية، وبعد مغادرته الإمارات عام 2011، عاش ما يقارب عقدًا من الزمن في تركيا، حيث عمل مديرًا تنفيذيًا لمركز بحثي، وواصل نشاطه الإعلامي والسياسي عبر منصات مختلفة.
لاحقًا، انتقل إلى سوريا مع زوجته السورية وأطفاله، ودخل البلاد بصورة رسمية بعد تسوية كامل وثائقه القانونية، سعيًا لاستقرار جديد بعيدًا عن ملاحقته السياسية.
من لحظة التوقيف حتى الإخفاء الكامل، تكشف زوجة المعارض الإماراتي “جاسم الشامسي” عملية إخفاء زوجها وسط إنكار وصمت رسمي. pic.twitter.com/kUIJE6DXQ9
— نون سوريا (@NoonPostSY) November 17, 2025
تعود بدايات قصته مع السلطات الإماراتية إلى مارس/آذار 2011، حين كان واحدًا من 133 شخصية أكاديمية وقضائية وقانونية وحقوقية إماراتية وقّعت عريضة تطالب بإصلاحات ديمقراطية، حينها قابلت السلطات تلك العريضة بحملة اعتقالات واسعة.
وفي يناير/كانون الثاني 2013، أُدرج اسمه ضمن قائمة الـ94 الذين اتُّهموا بتأسيس تنظيم سري لقلب نظام الحكم، في ما عُرف لاحقًا بـ محاكمة “الإمارات 94” أمام محكمة أمن الدولة في أبوظبي.
وفي يوليو/تموز 2013، أصدرت المحكمة أحكامًا قاسية شملت السجن لمدد بين 7 و15 عامًا بحق 61 متهمًا، إضافة إلى ثمانية آخرين غيابيًا، من بينهم الشامسي نفسه، وقد أثارت تلك المحاكمة وما رافقها من اتهامات غيابية انتقادات واسعة من حقوقيين وخبراء أمميين تجاهلت الحكومة الإماراتية مطالبهم بالشفافية والعدالة.
لم تتوقف ملاحقته عند ذلك الحد؛ ففي ديسمبر/كانون الأول 2023، وجّهت السلطات الإماراتية تهمًا جديدة لـ84 من سجناء الرأي بموجب قوانين الإرهاب، في ما وُصف بأنه انتقام سياسي ممن شاركوا قبل سنوات في تشكيل مجموعة مناصرة مستقلة، وقد شملت قائمة “الإمارات 84” عددًا من أبرز النشطاء، ومن بينهم المتهمون السابقون في قضية “الإمارات 94″، على رأسهم جاسم الشامسي.
وفي يوليو/تموز 2024 صدر حكم بالسجن المؤبد غيابيًا بحق الشامسي، ثم أدرج اسمه رسميًا في يناير/كانون الثاني 2025 على قائمة “الإرهابيين المحليين”، ضمن قائمة تضم 11 شخصًا و8 كيانات أخرى.
عاش الشامسي منفاه في إسطنبول، إلى أن اعتقلته السلطات التركية في مارس/آذار 2024 بمطار دالامان أثناء محاولة أسرته السفر، بناءً على بلاغ مرتبط بالإنتربول، ظهر حينها في مقطع فيديو يستغيث بالمنظمات الحقوقية خوفًا من تسليمه إلى الإمارات، قبل أن يُفرج عنه لاحقًا.
وفي نهاية 2024، انتقل مع عائلته إلى دمشق بشكل رسمي، واستقر فيها عدة أشهر إلى أن عاد الخطر ليلاحقه مرة أخرى، ففي 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، اعتقلته قوات الأمن السورية في العاصمة دمشق دون مذكرة قضائية أو توضيح رسمي.
جرى اقتياده إلى جهة مجهولة وانقطعت أخباره تمامًا، وسط مخاوف عميقة من ضغوط إماراتية لتسليمه، خاصة بعد محاولة فاشلة للسفر قبل ثلاثة أسابيع من اعتقاله حين أُبلغ في المطار بصدور حظر سفر بحقه داخل سوريا.
اليوم، تقف قضيته عند تقاطع السياسة والإنسان؛ معارض مُلاحَق منذ أكثر من عقد، وأسرة سورية-إماراتية تتشبث بكل بارقة أمل لمعرفة مصيره، بينما تتصاعد المخاوف من أن تتحول دمشق إلى محطة أخيرة قبل ترحيل يهدد حياته ومستقبله بالكامل.
اختفاء قسري
تتزايد المخاوف من أن يتحوّل اعتقال جاسم راشد الشامسي إلى حالة إخفاء قسري كاملة، وفق ما أكّده مركز مناصرة معتقلي الإمارات، الذي أوضح أن المعارض الإماراتي لا يزال مختفيًا منذ توقيفه في 6 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري دون أي تواصل أو معلومة عن مصيره.
وبحسب المركز، فإن آخر مرة شوهد فيها الشامسي كانت داخل ساحة الأمن السياسي في دمشق، بعد اعتقاله القسري، حيث فشلت زوجته وعائلته في الوصول إلى أي جهة قادرة على تأكيد مكان احتجازه أو التهمة الموجهة إليه، رغم محاولاتهم المتواصلة.
شهادة زوجته، رغدة كيوان، ترسم صورة قاسية للحظة الاعتقال وما تلاها، حيث تقول إنها في يوم السادس من نوفمبر الجاري كانت برفقة زوجها في السيارة باتجاه عين ترما عبر الطريق السريع الجنوبي على أطراف دمشق، قبل أن يصادفا حاجزًا أمنيًا مؤقتًا ظهر فجأة.
اقترب عناصر بلباس أسود محملين بالسلاح، وطلبوا من جاسم هويته، وبما أنه لا يحمل جواز سفر ساري المفعول، أبرز لهم رخصة القيادة التركية، لكنهم ما إن رأوها حتى طلبوا منه النزول فورًا دون أي مذكرة اعتقال أو شرح لما يجري. اقتادوه مباشرة إلى سيارة غير مميزة، في حين جلس أحد العناصر في سيارتهم وقادها خلف سيارة الاعتقال.
تروي الزوجة أنها حين وصلت إلى مقر الأمن السياسي في منطقة الفيحاء، أنزل العناصر الجميع باستثناء جاسم الذي بقي وحيدًا داخل السيارة، لم يسمحوا له بالحديث معها، ولم يسمحوا لها بالاقتراب منه، تقول: “كنت أكرر عليهم: لماذا؟ ماذا يجري؟ لكن لم يجبني أحد”، وبعد تفتيش السيارة، أمر أحد المسؤولين – بلباس مدني – بإيصالها إلى المنزل، وحين رفضت قيل لها: “لا تقلقي، إجراء روتيني وسينتهي بسرعة.” لتردّ عليه بصوت مثقل بالشك: “أتمنى أن تكون صادقًا”.
لا يزال مكان الناشط الإماراتي #جاسم_الشامسي مجهولاً ومصيره غير واضح، حيث اختفى قسرياً في دمشق يوم 6 نوفمبر 2025. آخر مرة شوهد فيها كانت زوجته في ساحة الأمن السياسي بعد أن تم اعتقاله بشكل قسري، ولم تتمكن عائلته أو زوجته من معرفة مكان احتجازه أو التهمة الموجهة إليه رغم محاولاتهم… pic.twitter.com/bFhJpTiuJ1
— مركز مناصرة معتقلي الإمارات (@EDAC_Rights) November 18, 2025
وتتابع أنها سألت أحد رجال الأمن عمّا إذا كان يعرف من هو زوجها، فأجاب: “لا، من يكون؟” وعندما أوضحت له أنه معارض إماراتي وأنها تخشى اختطافه، ردّ عليها: “أنتِ في مركز أمني، لا أحد يخطفه.” ثم أُجبرت على المغادرة، ومنذ ذلك اليوم لم تر زوجها ولم يصلها عنه أي خبر.
تقول رغدة إن المشهد الأخير الذي بقي في ذاكرتها كان رؤية جاسم جالسًا في المقعد الخلفي داخل ساحة الأمن السياسي، محاطًا بعناصر الأمن، عاجزًا عن الكلام. “نظر إليّ نظرة صامتة… نظرة شخص لا يعرف لماذا يُحتجز. ثم أُغلق الباب، وكان ذلك آخر ما رأيته منه.”
في صباح اليوم التالي، عادت الزوجة إلى مقر الأمن السياسي لأنها كانت متأكدة أنها رأت زوجها يدخل إليه، انتظرت ثلاث ساعات، قبل أن يُقال لها إن السيارة التي وصفتها “لم تدخل أساسًا”، رغم أنها شاهدتها بعينيها — ما عزّز لديها أن ما يحدث ليس مجرد إجراء روتيني، بل بداية اختفاء قسري.
توالت بعدها محاولاتها اليائسة، ففي إدارة السجون بساحة المرجة، أرسل الموظف استفسارًا رسميًا لرئيسه وطلب منها العودة بعد ساعتين، لكنها عند عودتها سُمعت الجملة ذاتها: “لا يوجد رد… ولا معلومات”، وفي وزارة الداخلية، استقبلها مدير مكتب العلاقات العامة، ووعد بمتابعة الموضوع، وأعطاها ورقة رسمية لمراجعة ضابط برتبة عقيد… لكنها خرجت مرة أخرى بلا أي معلومة.
تقول زوجة الشامسي إن هذا الإنكار المتكرر—على الرغم من رؤيتها الواضحة لنقله إلى مقر الأمن السياسي—لا يترك مجالًا لأي شك: “نحن أمام حالة إخفاء قسري مكتملة”، وتضيف بأسى: “لا نعرف مكانه، ولا وضعه الصحي، ولا إن كان ما يزال في الأمن السياسي أو نُقل إلى جهة أخرى. منذ لحظة إغلاق باب السيارة عليه… اختفى تمامًا.”
الوضع النفسي داخل الأسرة، كما تقول، “مؤلم جدًا”، الأطفال يعيشون في خوف وارتباك لأنهم لا يفهمون ما جرى، ولا تملك أمهم جوابًا على سؤالهم الذي يتكرر كل يوم: “وين بابا؟”، الغموض، كما تصفه، “يمزقهم”، ويجعل كل يوم يمر أصعب من سابقه.
وتشير أخيرًا إلى أن إقامة العائلة في سوريا كانت قانونية بالكامل، إذ دخلوا البلاد رسميًا، وكان جاسم على وشك الحصول على إقامته، ما يجعل ما جرى له أكثر قسوة وغموضًا، ويزيد الحاجة إلى كشف مصيره ووقف ما يتعرض له.
مخاوف الترحيل للإمارات
تتعاظم المخاوف من احتمال ترحيل جاسم الشامسي إلى الإمارات استجابةً لطلب رسمي، خاصة بعد أن صدر بحقه في يوليو/تموز 2024 حكم السجن المؤبد غيابيًا، وأُدرج اسمه في يناير/كانون الثاني 2025 على قائمة “الإرهابيين المحليين” ضمن لائحة شملت 11 شخصًا و8 كيانات أخرى.
وفي محاولة لطمأنة السلطات السورية، شدّدت زوجته رغدة كيوان على أن الشامسي لم يعد يمارس أي نشاط معارض منذ دخوله سوريا، قائلة: “دخلنا البلاد بأمان، ومنذ ذلك الحين توقف زوجي عن الكتابة عبر منصات التواصل الاجتماعي. لم يُبدِ أي موقف سياسي ضد أي دولة، وكان يحترم تمامًا رغبة الحكومة السورية في بناء علاقات جيدة مع كل الدول العربية.”
بيان حول التطورات في قضية المختفي قسرياً جاسم راشد الشامسي
لقد وصل إلى مركز مناصرة معتقلي الإمارات، عبر مصادر متعددة داخل سوريا وقريبة من دوائر صنع القرار، أن القيادة السورية اتخذت بالفعل قرارها بالمضي نحو تسليم الناشط الإماراتي جاسم راشد الشامسي إلى دولة الإمارات. هذه… pic.twitter.com/pqTFnDHhjK
— مركز مناصرة معتقلي الإمارات (@EDAC_Rights) November 22, 2025
لكن رغم ذلك، تؤكد كيوان أن ما يصلها من معلومات غير رسمية يثير فزعًا بالغًا، إذ تشير تلك الأخبار إلى وجود نية لتسليمه إلى الإمارات، حيث يُعتبر مطلوبًا سياسيًا. وتضيف بأسى: “أنتم تعرفون جيدًا واقع العدالة والسجون في الإمارات… إذا سُلّم جاسم فسيكون ضحية.”
وتوجّهت بندائها إلى الشعب السوري، مستنجدة بوعيه وتجربته مع الألم والخسارات: “أرجوكم… ارفعوا الصوت، طالبوا بكشف مصيره. تضامنكم قد يكون الجدار الأخير الذي يحميه من خطر يهدد حياته”.
لماذا كل هذا القلق؟
ترتكز مخاوف زوجة جاسم الشامسي وأطفاله وعائلته من احتمال ترحيله إلى الإمارات على سجل طويل ومظلم من ملاحقة أبوظبي لمعارضيها داخل البلاد وخارجها، وحتى ملاحقة الأصوات الناقدة من جنسيات أخرى. فهو سجل يحمل في طياته شواهد مؤلمة وجرائم عابرة للحدود تجعل الأسرة تعيش في خوف دائم من تكرار السيناريوهات ذاتها.
ومن أكثر القضايا التي ما تزال تثير الرعب في نفوس الضحايا وأسرهم قضية اختطاف المعارض خلف الرميثي في مايو/أيار 2023، حين اختفى الرجل في عملية تشبه أساليب العصابات والمافيا، نفّذها عملاء أردنيون وإماراتيون، قبل أن يُرحَّل سرًا إلى الإمارات. المدهش أن أبوظبي صنّفته “إرهابيًا” قبل حتى بدء أي محاكمة أو فتح تحقيق قانوني معه.
كان الرميثي يعيش في تركيا، واعتُقل أثناء سفره إلى الأردن بناءً على طلب من الإمارات. ورغم أن محكمة عمان رفضت طلب تسليمه، إلا أنه رُحِّل في 17 مايو/أيار 2023 بدون أي إجراءات قضائية، واختفى أثره منذ ذلك اليوم.
ولم يقف الأمر عند حدود المنطقة، بل امتد إلى أوروبا، فقد كشف تقرير بريطاني أن الإمارات تنفّذ حملة ممنهجة لملاحقة معارضيها داخل الأراضي البريطانية، تشمل التهديد والمراقبة والاختراق الرقمي وتشويه السمعة، مستغلة نفوذها السياسي والاقتصادي لتعطيل أي مساءلة.
ووصف تقرير لجنة حقوق الإنسان البريطانية هذه الممارسات بأنها انتهاك صارخ للقانون البريطاني والاتفاقيات الدولية، محذرًا من أن استمرار التغاضي عنها سيحوّل المملكة المتحدة إلى ساحة مفتوحة للقمع العابر للحدود، وداعيًا الحكومة البريطانية إلى التعامل مع الإمارات بالصرامة ذاتها المطبقة على الصين وروسيا.
ولم يقتصر الاستهداف على المعارضين الإماراتيين، بل طال كل من ينتقد سياسات أبوظبي، ففي 11 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، تم اعتقال الصحفي والناشط اليمني عادل الحسني في مطار نيودلهي بالهند بناءً على طلب إماراتي.
وأدانت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا العملية ووصفتها بأنها انتهاك خطير للقانون الدولي، مشيرة إلى أنها تُمهّد لتسليم معارضين إلى دولة “معروفة بممارسات التعذيب وسوء المعاملة في سجونها”، وأن مثل هذه العمليات تجعل العالم كله ساحة مطاردة مفتوحة لمعارضي النظام الإماراتي.
وفي السياق نفسه، شهد شهر يناير/كانون الثاني الماضي توقيف الشاعر المصري عبد الرحمن يوسف القرضاوي في مطار بيروت وتسليمه لاحقًا إلى الإمارات، حيث انقطعت أخباره تمامًا منذ ذلك الحين، رغم المناشدات الحقوقية المنادية بالكشف عن مصيره.
هذه الحالات وغيرها تجعل مخاوف عائلة الشامسي اليوم ليست مجرد هواجس، بل قلقًا حقيقيًا مبنيًا على شهادات حيّة وسوابق مرعبة. بالنسبة لزوجته وأطفاله، فإن احتمال ترحيله يعني احتمال اختفائه إلى الأبد… وهذا وحده كفيل بأن يبقيهم في حالة خوف لا ينطفئ.
سجل حقوقي مشين يعمق القلق
يمتد سجل الإمارات الحقوقي المظلم ليجعل من محاكمة أي معارض أو ناشط داخل منظومتها القضائية مخاطرة حقيقية، في ظل قناعة راسخة بأن القضاء هناك تحوّل إلى أداة بيد الأجهزة الأمنية، تُستخدم لإسكات الأصوات المطالِبة بالإصلاح وتصفية الحسابات السياسية.
وتعكس قضية “الإمارات 84” واحدة من أبرز الأمثلة على هذا النهج؛ فبعد أحكام قاسية صدرت في يوليو/تموز 2024 — بينها السجن المؤبد لـ43 شخصًا وأحكام بالسجن بين 10 و15 عامًا لآخرين — رفضت المحكمة الاتحادية العليا في مارس/آذار 2025 جميع الطعون، مؤكدة مسارًا قضائيًا مغلقًا لا يسمح بالعدالة ولا بفرصة حقيقية للدفاع.
هذه الأحكام صدمت خبراء أمميين مستقلين، الذين أصدروا بيانًا يستنكر استخدامها للتهم الأمنية ذاتها التي سُجن بموجبها معظم المتهمين أصلًا لعقد كامل، محذرين من أن من بينهم مدافعين بارزين عن حقوق الإنسان أنهوا محكومياتهم منذ سنوات لكنهم ما زالوا رهن الاحتجاز التعسفي، مثل محمد الركن، وهادف العويس، وسالم الشحي، ومحمد المنصوري.
هذه القضية ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة محاكمات سياسية تُدار بسرية مطلقة، حيث تُقدَّم ملفات أمنية جاهزة بدلًا من الأدلة، وتُستبعد شهادات الدفاع، ويُمنع المراقبون والصحافة من حضور الجلسات، أما المتهمون، فكثير منهم أُجبروا على الاعتراف تحت التعذيب وسوء المعاملة، وفق تقارير حقوقية وثّقت ما يجري داخل السجون الإماراتية من عزل انفرادي، وحرمان طبي، وإهانات وتعذيب نفسي وجسدي.
ومما يعمق المأساة اعتماد السلطات الإماراتية على قوانين فضفاضة تتيح لها قمع الحريات وتكميم الأفواه، مثل قانون مكافحة الإرهاب الذي يُستخدم لتجريم النشاط الحقوقي والسياسي باعتباره “عملًا إرهابيًا”، وقانون الجرائم الإلكترونية الذي يقيد حرية التعبير على الإنترنت.
#الحرية_للشاعر #عبدالرحمن_يوسف_القرضاوي #FreeARahmanYusuf #HumanRights #Justice #StandWithPoets #VoiceNotSilenced #AbdulrahmanYusuf #Poet #FreedomForWriters pic.twitter.com/f1ckr3cVoL
— الشاعر عبدالرحمن يوسف (@arahmanyusuf) October 29, 2025
إضافة إلى قانون العقوبات الجديد الذي يفرض عقوبات قاسية تصل إلى الإعدام والسجن المؤبد بتهم مبهمة مثل “المساس بهيبة الدولة”، وتمنح هذه المنظومة القانونية الأجهزة الأمنية سلطة مطلقة لاستهداف المعارضين السلميين وسجنهم لسنوات طويلة دون أدلة حقيقية، ما جعل الإمارات من أكثر الدول قمعًا لحرية التعبير.
وفي السجون الإماراتية يواجه المعتقلون السياسيون ظروفًا قاسية تتضمن الإخفاء القسري، ومنع التواصل مع العائلة والمحامين، والتعذيب النفسي والجسدي، بما في ذلك الصعق والضرب والحرمان من النوم، إضافة إلى الإهمال الطبي المتعمد الذي تسبب بوفاة عدد من السجناء. كما يُحرم المعتقلون من محامين مستقلين وتُقيّد الزيارات العائلية لمدد طويلة.
هذا القمع المتصاعد يأتي ضمن سياسة ممنهجة لإسكات المجتمع المدني وإغلاق المجال العام؛ فقد حُظرت المنظمات الحقوقية المستقلة، وقُمعت الصحافة، وتعرض كل من يُشتبه بانتقاده للسلطة للاعتقال، وسط غياب شبه كامل لأي محاسبة دولية.
في ظل هذا الواقع، تبدو مخاوف عائلة الشامسي من تسليمه إلى الإمارات مخاوف إنسانية حقيقية، نابعة من معرفة دقيقة بما ينتظر أي معارض يقع في قبضة هذا النظام القضائي المسيس.
دمشق أمام اختبار حساس
تقف السلطة السورية اليوم أمام اختبار حقيقي، ربما هو الأول من نوعه، يتجاوز حدود ملف فردي، ليكشف طبيعة التوازنات التي تريد تأسيسها في مرحلة سياسية حساسة وفارقة، فقرارها بشأن جاسم الشامسي سيُقرأ على أنه مؤشر على شكل العلاقة التي تنوي بناءها مع الإمارات.
هل ستختار دمشق تعميق تقاربها مع أبوظبي عبر خطوة مكلفة إنسانيًا وسياسيًا، عبر تسليم رجل ملاحق بتهم سياسية، ومتزوج من سورية، ودفع من سنوات عمره ثمن موقفه المؤيد لثورة السوريين؟ أم أنها ستتمسك بما تعلنه عن استقلال قرارها وسيادة مؤسساتها، وترفض أن تتحول إلى محطة عبور لإعادة إنتاج عمليات ترحيل وانتهاكات سبق أن جرت في الأردن والهند ولبنان؟
في الأخير ومع كل يوم يمرّ وجاسم الشامسي ما يزال مختفيًا، تتزايد الأسئلة الأخلاقية والسياسية في آن واحد، فالعائلة التي احتمت بسوريا، واعتقدت أنها وجدت فيها ملاذًا آمنًا بعيدًا عن المطاردات، تجد نفسها اليوم أمام مصير غامض قد يكرر تجارب أخرى انتهت بالترحيل والصمت والاختفاء.
ويبقى السؤال الأهم: هل ستسمح السلطة السورية بأن يختفي رجل كان من أبرز الأصوات التي ساندت الثورة السورية حين كانت في أشد لحظاتها ضعفًا؟ أم أنها ستختار أن تكتب فصلًا جديدًا مختلفًا ينحاز للعدالة، ويحمي إنسانًا قد يعني ترحيله حكمًا مسبقًا بتعذيب أو غياب لا عودة منه؟ بين هذه المفترقات، سيتحدد ما إذا كانت دمشق ستنجح في هذا الاختبار الصعب… أم ستتكرر المأساة ذاتها، على نحو يعرفه السوريون أكثر من أي شعب آخر.
