لكلّ بلد لحظةٌ مفصلية في تاريخه الحديث تُعدّ نقطة البداية لمعاناته، والمُشكِّلة للأعباء المُلقاة على كاهله اليوم، بتنوّعاتها المختلفة بين أعباء جيوسياسية أو عسكرية أو اجتماعية واقتصادية، فكيف يمكن استشراف المستقبل دون فقدان الذاكرة السياسية، بل انطلاقًا من هذا الحاضر المُثقَل والمسكون بالماضي القريب؟
خاضت دار النشر البريطانية “كوما برس” هذا التحدّي، الذي أرادت من خلاله إعادة تمثيل الخيال العلمي في الأدب العربي بطريقة تتجاوز القوالب الجاهزة للديستوبيا والمدينة الفاسدة المعزولة عن تاريخها والمُؤطَّرة بغلاف تكنولوجي أو بيئي. أرادت الدار أن تفكّك الهيمنة الغربية على هذا النوع الأدبي، وأن تُعيده إلى جذوره الشرقية الأولى، حيث بدأت الحكاية، وحيث دُوِّن الخيال لأول مرة في «ألف ليلة وليلة»، فالخيال العلمي، كما يقول الناشر را بيدج لـ”نون بوست”، يُنظَر إليه أحيانًا كأداة استعمارية، ما يجعل الكتابة فيه مغامرة جريئة في حدّ ذاتها.
اختار الناشر منطقة غرب آسيا كنقطة انطلاق لسلسلة تستشرف مستقبل البلدان عبر العودة إلى لحظاتها المؤسِّسة، باحثةً في رؤى متقدمة مائة عام عن هذا الحدث أو اللحظة المفصلية في تاريخ كل بلد. وبدأت السلسلة بكتاب عن العراق، وهو مجموعة قصصية تضمّ عشر قصص لعشرة كتّاب مختلفين. يقول بيدج: “لم تحظَ الذكرى العاشرة لغزو العراق عام 2013 بأي إشارة إعلامية، وكأن شيئًا لم يكن، وكأن التاريخ يُمحى، والأجيال الجديدة تكبر دون معرفة أن مليون عراقي فقدوا أرواحهم في تلك الحرب”.
عراق الغزو

صدر كتاب «العراق +100: قصص من قرنٍ بعد الغزو» عام 2016 كباكورة السلسلة المستقبلية الحالمة بمصير الإنسان، وانطلق من لحظة مفصلية هي غزو العراق عام 2003، قبل أن تسيطر داعش على البلاد عام 2014، وهو ما كان أشبه بغزوٍ ثانٍ كما جاء في كلمة الناشر. تخيّل الكتّاب المشاركون العراق في عام 2103، أي بعد مئة عام على غزو 2003، وقدّموا رؤى ديستوبية وسيريالية لأن الأدب لا يهرب من الكارثة، بل يتقدّم نحوها؛ يستعمل أدوات الخيال العلمي، والتقنية، والسخرية، والأسطورة ليواجه واقعًا فشل التاريخ والسياسة في شرحه… حنينًا لما كان، وبحثًا عن معنى الهوية والذاكرة.
يقول الكاتب العراقي حسن بلاسم، وهو مشارك بقصة ومسؤول عن التحرير، إن الكتاب يُعدّ الأول من نوعه في الثيمة والشكل في الأدب العراقي الحديث، إذ يفتقر الأدب العراقي إلى كتابات الخيال العلمي. لم يتم اختيار كتّاب محدّدين، بل أرسل بلاسم دعوة إلى مجموعة كبيرة من الأكاديميين والروائيين وكتّاب القصة القصيرة يطلب منهم المشاركة بخيالهم، فَنُشرت قصص الذين لبّوا الدعوة. يضم الكتاب عشر قصص مختلفة في اللغة والأسلوب، لكنها تلتقي جميعًا عند سؤال واحد: هل يمكن تخيّل مستقبل للعراق بعد كل هذا الخراب؟
ترسم إحدى القصص مستقبل مدينة بابل كمدينة تكنولوجية فائقة التقدّم تضم مركزًا لإنتاج القصص الرقمية يعمل فيه الراوي وسط عالم مليء بالهلوسات الإلكترونية والمخدرات الافتراضية. وقصة ثانية عن جندي عراقي منسيّ يستعيد وعيه في عالم مستقبلي غريب يعاني فيه من فقدان الهوية. وثالثة تتأمل الكرامة البشرية تحت سلطة اقتصادية شمولية عبر استشراف لمدينة البصرة وقد هيمنت عليها الشركات الكبرى التي تتحكّم في كل تفاصيل الحياة. ورابعة عن حُكم شركات طاغية تجعل البشر مجرّد أدوات لاقتصاد معولم وتحوّل العلاقات الإنسانية إلى معاملات رقمية باردة. وخامسة عن “متلازمة بغداد” كحالة نفسية وجسدية ناتجة عن قرن كامل من الحروب والضغوط البيئية والتكنولوجية. وسادسة عن الزمن كأداة للتعذيب.
اختار الناشر للعراق لحظةً مفصلية في تاريخه لينطلق منها في سلسلة كتب المستقبل؛ فماذا يحدث حين يكون الماضي كل شيء؟
فلسطين النكبة
يقول الناشر: “ربما النكبة هي أكبر حدث مُتجلٍّ، وما نتج عنها من قيام إسرائيل على أراضي الفلسطينيين المسروقة”.
وجاء في مقدمة كتاب فلسطين: “الخيال العلمي بالنسبة للفلسطينيين رفاهية… لا يمكنهم الهرب من الواقع المرير.” وفي عام 2019 صدر كتاب «فلسطين +100: قصص من قرن بعد النكبة» بوصفه عملًا جماعيًا يصوّر فلسطين في عام 2048 أو بعده، أي بعد مئة عام من النكبة الأولى، وقد حرّره بشار معروف.
تتمحور الكثير من القصص حول التكنولوجيا: فلسطينٌ شديدة المراقبة تتشابك فيها الرقابة مع الاحتلال، هوية تُحدَّد عبر خوارزميات ومساعي النجاة من الانزلاق للعالم الآخر، أجهزة تمحو الذكريات وأخرى تتيح الانتقام، ودولة رقمية كاملة ذات وجود افتراضي بعد انهيار الجغرافيا. وتظهر البيروقراطية كأداة قمع لا تقل فتكًا عن السلاح. وفي الكتاب قصة بعنوان “لعنة صبي كرات الطين” للكاتب الفلسطيني مازن معروف تحولت إلى رواية بنفس العنوان وصدرت عن دار هاشيت أنطوان 2024.
كردستان الدولة
في سنة 2023، صدر الكتاب الثالث في السلسلة بعنوان «كردستان +100: قصص من دولة مستقبلية» ليطرح سؤالًا جريئًا هو: كيف سيكون شكل كردستان بعد مئة عام من اليوم؟
طلب المحرر من الكتّاب والصحفيين والروائيين والمخرجين السينمائيين أن يتخيّلوا كردستان سنة 2046، أي بعد مرور قرن على تأسيس جمهورية مهاباد القصيرة عام 1946، حين تحقق الحلم الكردي أو انهار مرة أخرى، وكانت النتيجة أنطولوجيا فريدة تجمع بين الخيال العلمي والسياسة، بين الحنين والأسطورة، بين الأمل في الحرية والخوف من تكرار المأساة. شارك في الكتاب ثلاثة عشر كاتبًا وكاتبة من كردستان العراق وسوريا وتركيا وإيران، كتبوا قصصهم بالكردية أو التركية أو العربية أو الإنجليزية، ثم تُرجمت نصوصهم إلى لغة عالمية لتُقدَّم كردستان بوصفها فكرةً كونية، لا كحدود على خريطة، بل كذاكرة بشرية وأفق روحي.
ولا يتعامل الكتاب مع “الدولة الكردية” بوصفها حقيقة سياسية بقدر ما يعرضها كاختبار أخلاقي. فبعض القصص تذهب إلى مستقبل طوباوي (يوتوبيا) يسوده السلام والمساواة، فيما تتخيّل أخرى مستقبلًا قاتمًا تنهار فيه الذاكرة الكردية مرّة أخرى تحت أنقاض التكنولوجيا أو السلطة أو النسيان (ديستوبيا). والقاسم المشترك بينها هو الخوف من أن يتحول الحلم بإنشاء الدولة إلى نسخة أخرى من الكابوس، ومن تكرار النكبة. فحتى حين تتحقق “كردستان”، تبقى الأسئلة القديمة معلّقة: ماذا نفعل بالذاكرة؟ وهل يمكن أن نكون أحرارًا من دون أن نتذكّر جراحنا؟
تدور القصص حول اللغة المقموعة كهوية. ويكتب صلاح الدين دميرطاش، الزعيم السياسي المعتقل، نصًا عاطفيًا عن العلاقة بين النضال والذاكرة، قبل أن تروي بطلة إحدى القصص كيف فقدت والدها الذي أعدمه النظام، لتصبح بعد عقود رئيسةً لجمهورية كردستان.
ويستعيد كاتب يُدعى “محرم”، وهو سجين سياسي سابق، مأساة جيلٍ من المثقفين والأسرى الكرد عبر قصة رمزية عميقة، تظهر فيها تكنولوجيا متقدمة تحفظ الوعي الإنساني بعد الموت. وفي قصة أخرى يعود الزعيم الكردي التاريخي قاضي محمد إلى الحياة في مدينة مستقبلية هي “جمهورية كردستان الكبرى”، مدينة تخلو من البشر وتديرها الروبوتات.
مصر يناير
من الدولة المستقبلية لكردستان إلى الدولة المأمولة التي حلم بها شباب مصر في ثورة يناير فكانت هي لحظتهم المفصلية قبل أن تنتهي “التجربة شبه الديمقراطية بانقلاب عسكري ضد الرئيس المنتخب” كما جاء بمقدمة الكتاب. في سنة 2024، صدر كتاب: «مصر +100: قصص من قرن ما بعد التحرير». يضم الكتاب اثنتا عشرة قصة لاثنتى عشرة كاتب وكاتبة من مصر وحرّره الكاتب أحمد ناجي.
يقول الناشر في تصريحاته لـ”ن بوست”: “يبدو أن هناك ثقافة نسيان أو ثقافة صمت فيما يتعلق بمصر، كما لو أن ثورة 2011 القصيرة لم تقع قط، وكأن عبثية الديكتاتورية العسكرية ليست عبثية”.
ويتندّر المحرر في مقدمة الكتاب قائلًا: “ما الذي يمكن أن يأمل الخيال العلمي الأدبي في تحقيقه ضد نظام شمولي يستقي ادعاءاته في العالم الحقيقي مباشرة من دليل اللعب للخيال العلمي؟”، لافتًا إلى الشهية غير المحدودة لجماليات الخيال العلمي عند الديكتاتوريين العرب، وإلى خيالاتهم السياسية التي تتحول بدورها في النهاية إلى أسوأ كوابيس المواطنين.
ويشير ناجي إلى إرث كتابات الخيال العلمي المصرية وروّاد هذه المدرسة التي بدأها نبيل فاروق في الثمانينيات و”العرّاب” أحمد خالد توفيق في التسعينيات، كما لفت إلى التحفّظ بوصفه سمة غالبة على هذا النوع من الأدب الذي دأبت على نشره “المؤسسة العربية الحديثة” في مصر، دون التطرق إلى موضوعات شائكة في السياسة أو الدين أو الجنس، قبل أن يتحرر توفيق من هذه القيود التحريرية وينشر رواية “يوتوبيا” التي تتناول فصلًا مجتمعيًا بين الأثرياء والفقراء، لتتحقق نبوءته بعد سنوات قليلة مع إنشاء الرئيس المصري للعاصمة الإدارية الجديدة.
وتتنوع القصص في كتاب “مصر” بين امرأة تعيش عزلة شبه كاملة داخل نظام مراقبة شديد المركزية، ورجل يبحث عن زوجته التي تعرّضت للإخفاء القسري، ومستقبل يعيد إنتاج الاغتراب داخل مدينة تعِدُ بالكثير لكنها تقدّم القليل، وآخر تُدار فيه الحقيقة بتطبيقات وأجهزة إلكترونية، وثالث تُحوَّل فيه الفئات المهمّشة إلى مادة لمعرض أو متحف حيث يصبح الآخرون معروضين للفرجة من الطبقة المهيمنة، ورابع يشهد صراع الإنسان مع التكنولوجيا والذاكرة، وحياة من العبث والفوضى والعنف في عالم ما بعد انهيار الدولة.
وفي الكتاب قصة بعنوان “يونيكورن 2512” للكاتبة المصرية نورا ناجي، وقد نافست على القائمة القصيرة لجوائز الجمعية البريطانية للخيال العلمي والفانتازيا لعام 2025.
إيران الانقلاب
أحدث إصدارات هذه السلسلة المستقبلية هو كتاب إيران الصادر هذا العام بعنوان «إيران +100: قصص من قرنٍ بعد الانقلاب». يتخيّل الكتّاب المشاركون شكل البلاد عام 2053 بعد قرن من الانقلاب الذي أطاح برئيس الوزراء المنتخب ديمقراطيًا محمد مصدق، وعزّز حكم الشاه الموالي للولايات المتحدة، وأفضى، عبر الثورة والثورة المضادة، إلى النظام الاستبدادي الحالي. ويقول الناشر إن الذاكرة لم تعد تحفظ أن كل ما يحدث في إيران بدأ عام 1953، حين عزلت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية مصدق، وأن العديد من الإسلاميين الذين استولوا على السلطة في الثورة المضادة عام 1979 كانوا في الواقع من الأحزاب نفسها التي ساعدت في تنفيذ الانقلاب عام 1953.
تنطوي هذه السلسلة على صعوبات ومخاطر تتطلّب اتخاذ تدابير احترازية على مستويين، كما أوضح لنا الناشر البريطاني. في المستوى الأول يستخدم بعض الكتّاب الأمريكيين المشاركين عناوين بريدية خاصة وأسماءً مستعارة للتواصل حتى لا يتعرضوا للمساءلة أو العقوبات من المؤسسات التعليمية التي يعملون فيها، والتي تخشى أن تقطع الإدارة الأمريكية الدعم الذي تحصل عليه. وربما كان هؤلاء الكتّاب معرّضين أيضًا للإقصاء أو الإلغاء.
أما المستوى الثاني فيتعلّق باستخدام بعض الكتّاب أسماءً مستعارة، وعدم الإشارة إليهم على وسائل التواصل الاجتماعي أو نسب العمل لهم، إلى جانب اللجوء إلى الاستعارة والمجاز كحِيَل كتابية للالتفاف على الرقابة السياسية، فالتخفّي، كما يذكّر الناشر، يظل حيلة دائمة للكاتب لقول ما يريد، حتى في غياب الرقابة. ويتوقّع صدور الكتاب السادس عن أفغانستان العام المقبل ضمن هذه السلسلة المستقبلية التي تستشرف ما ستؤول إليه البلاد.