في قلب الشرق الأوسط، وعلى امتداد تخومه الجبلية وحدوده السياسية المتصدعة، تبرز القضية الكردية كأحد أعقد الملفات القومية وأكثرها تشعبًا، فالأكراد، الذين يُعدّون أكبر شعب بلا دولة في العالم، يتوزعون بين تركيا وسوريا والعراق وإيران على رقعة جغرافية متصلة تاريخيًا ومنفصلة سياسيًا، تتداخل فيها عوامل اللغة والثقافة والطموح القومي مع خرائط السيادة الوطنية.
ورغم وحدة الأصل والانتماء، فإن التجارب الكردية في هذه الدول تشكّلت وفق مسارات متباينة، ففي العراق ظفر الأكراد بإقليم فيدرالي معترف به دستوريًا، بينما وجد أكراد سوريا في فوضى الحرب فرصة لبناء إدارة ذاتية بحكم الأمر الواقع، في حين لا يزال أكراد تركيا يواجهون تحديات مرتبطة بالاعتراف الدستوري ومستويات المشاركة السياسية، في سياق علاقة معقدة وممتدة مع الدولة.
خريطة التوزع
يشكّل الأكراد إحدى أكبر الجماعات القومية في العالم التي تفتقر إلى دولة مستقلة، ويُقدّر عددهم عالميًا بين 36 و45 مليون نسمة، يتمركز معظمهم في منطقة تُعرف تاريخيًا بـ”كردستان”، الممتدة عبر أربع دول رئيسية هي: تركيا شمالًا، إيران شرقًا، العراق جنوبًا، وسوريا غربًا.
في تركيا، التي تضم نحو نصف مساحة كردستان التاريخية، يُعدّ الأكراد أكبر أقلية عرقية ولغوية، ورغم غياب الإحصاءات الرسمية الدقيقة نتيجة حساسية الموضوع، تتراوح التقديرات المستقلة لنسبتهم بين 15% و20% من سكان البلاد، أي ما بين 15 إلى 20 مليون نسمة من أصل 85 مليونًا. بينما يُقدّر المعهد الكردي في باريس أن نسبتهم قد تصل إلى ربع السكان، ما يجعل عددهم أقرب إلى 20 مليونًا، وهو ما يعكس حجم الثقل الكردي داخل الدولة التركية.

أما في العراق، فيحتل الأكراد المرتبة الثانية بعد العرب من حيث التعداد السكاني. ووفق بيانات هيئة الإحصاء في إقليم كردستان لعام 2023، يتجاوز عددهم 6.5 ملايين نسمة، أي ما يمثل نحو 15% إلى 17% من إجمالي سكان العراق.
يتمركز الأكراد العراقيون بشكل رئيسي في محافظات أربيل والسليمانية ودهوك وحلبجة، ضمن حدود الإقليم، إضافة إلى تواجد مؤثر في محافظة كركوك المتنازع عليها، وتجمعات أقل كثافة في محافظات نينوى وديالى وغيرها، وتختلف بعض التقديرات الأخرى، حيث تخفض العدد إلى نحو 5.2 ملايين فقط، بسبب تباين المعايير في احتساب سكان المناطق المختلطة عرقيًا.
في سوريا، يُعدّ الأكراد أكبر أقلية إثنية، وقدّر المعهد الكردي في باريس نسبتهم قبل اندلاع الحرب بنحو 15% من مجموع السكان، أي أكثر من 3 ملايين نسمة. يتركز وجودهم تقليديًا في الشمال الشرقي، خاصة في محافظة الحسكة (مدن القامشلي والمالكية/ديريك)، إضافة إلى مناطق من محافظة حلب شمال غرب البلاد مثل جبل الأكراد وعفرين (قبل سيطرة تركيا على المنطقة عام 2018)، وامتدادًا إلى السفوح الجنوبية لسلسلة جبال طوروس، كما تحتضن العاصمة دمشق حيًّا تاريخيًا يُعرف بـ”حي الأكراد” أو “ركن الدين”، تعيش فيه جالية كردية متجذرة منذ عشرات السنين.
ورغم التداخل الطويل مع المكونات الأخرى، حافظ أكراد سوريا في الشمال الشرقي – لا سيما أولئك الذين نزحوا من تركيا في عشرينيات القرن الماضي – على طابعهم الثقافي واللغوي المميز، في حين اندمجت شرائح أخرى، خصوصًا في شمال غرب البلاد ودمشق، بدرجات متفاوتة في المجتمع العربي، متحدثين العربية إلى جانب الكردية ومتعايشين مع محيطهم دون أن تفقد هويتهم بالكامل.
تركيا: من وعود الجمهورية إلى تعقيدات الملف الكردي
منذ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة عام 1923، تبنّت أنقرة مشروعًا قوميًّا صارمًا سعى لدمج كافة مكونات المجتمع ضمن هوية تركية أحادية، أُقصي الأكراد خلالها من أي اعتراف رسمي بخصوصيتهم القومية، فعلى الرغم من أن مصطفى كمال أتاتورك قدّم وعودًا لقادة أكراد بدور إداري لهم في تركيا الجديدة مقابل دعمهم لحرب الاستقلال، فإن توقيع معاهدة لوزان وتكريس مفهوم الدولة القومية أنهى تلك التفاهمات الوليدة، لتُطوى معها مرحلة وُصفت بـ”الوعود الضائعة”.
خلال العقود الأولى للجمهورية، قوبلت أولى الانتفاضات الكردية، مثل ثورتي 1925 و1937، بردّ عسكري عنيف، تلاه فرض واقع من الإنكار السياسي والثقافي، حُظرت فيه اللغة الكردية، وأُزيلت الإشارات إلى الهوية الكردية من الخطاب العام، بل ووُصف الأكراد رسميًا بـ”أتراك الجبال”.
مع تصاعد الحركة القومية الكردية في الستينيات، وتنامي وعي سياسي جديد، تأسس في 1978 حزب العمال الكردستاني بقيادة عبد الله أوجلان، ليُطلق عام 1984 تمردًا مسلحًا مطالبًا بحقوق قومية ودرجة من الحكم الذاتي، فدخلت تركيا إثر ذلك في صراع دموي طال أمده، تجاوز عدد ضحاياه 40 ألف قتيل، وخلّف موجات نزوح وتهجير واسعة، شملت إخلاء آلاف القرى الكردية، وتهجير نحو مليون كردي من مناطق جنوب شرقي البلاد.
في عام 1999، مثّل اعتقال أوجلان منعطفًا في مسار التمرد، إذ أعلن الحزب وقفًا أحاديًا لإطلاق النار، قبل أن يستأنف نشاطه مجددًا عام 2004 بعد تعثّر التسويات. ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، أطلقت أنقرة ما عُرف بـ”الانفتاح الديمقراطي” عام 2009، متضمّنًا خطوات غير مسبوقة نحو الاعتراف الثقافي بالأكراد، شملت السماح بالتعليم بالكردية في مدارس خاصة، وفتح قنوات إعلامية ناطقة بها، ورفع الحظر عن الأسماء الكردية، إلى جانب دعم مشاريع تنموية في المحافظات ذات الغالبية الكردية.
سياسيًا، شهد العقد الأخير تصاعدًا في تمثيل الأكراد داخل البرلمان، وبرز صلاح الدين دميرطاش كوجه كردي صاعد خاض انتخابات الرئاسة عام 2014، في حين حقق حزب الشعوب الديمقراطي إنجازًا بارزًا بدخوله البرلمان بقوة عام 2015، لكن بوادر الأمل تلك لم تُترجم إلى حل دائم، فمع انهيار مفاوضات السلام مع حزب العمال منتصف 2015، وإعلان الأخير عن إدارات ذاتية في مناطق كردية، ردّت أنقرة بحملة عسكرية شاملة، أطاحت بتلك الإدارات وشددت الإجراءات الأمنية.
ازداد التوتر بعد أن ربطت أنقرة بين النفوذ الكردي في سوريا، حيث أسس الأكراد هناك إدارة ذاتية بدعم غربي، والنشاط المسلح لحزب العمال داخل تركيا، ووسّعت القوات التركية عملياتها العسكرية لتطال شمال العراق وشمال شرق سوريا، في محاولة لتفكيك البنية اللوجستية للمسلحين الأكراد. بالمقابل، تبنّى حزب العمال هجمات دموية استهدفت قلب المدن التركية، ما عزز قناعة المؤسسة الأمنية بأن الملف الكردي تهديد أمني استراتيجي لا يحتمل التساهل.
وفي تطور لافت قد يطوي واحدة من أطول حلقات التمرد في التاريخ الحديث لتركيا، بدأت أنقرة في عام 2024 تنفيذ استراتيجية شاملة تحت عنوان “تركيا بلا إرهاب”، تسعى من خلالها إلى إنهاء الصراع مع حزب العمال الكردستاني عبر مزيج من الضغط الأمني والسياسي والمبادرات الاجتماعية.

سوريا: من عقود التهميش إلى تجربة الحكم الذاتي
تاريخيًا، لم يكن حال الأكراد في سوريا مختلفًا عن نظرائهم في دول الجوار، فبعد الاستقلال، وخصوصًا مع صعود حزب البعث إلى الحكم عام 1963، جرى التعامل مع الوجود الكردي بوصفه تهديدًا لوحدة الدولة القومية.
وشكّل الإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة عام 1962 محطة مفصلية في هذا السياق؛ إذ تم بموجبه تجريد نحو 120 ألف كردي من الجنسية السورية، ليُصنفوا رسميًا كـ”أجانب” محرومين من حقوق المواطنة، في وقت نشأ فيه جيل جديد عُرف بـ”المكتومين” دون أي وضع قانوني، في واحدة من أشد السياسات الإقصائية التي طالت الأكراد في المنطقة.
تزامن ذلك مع تنفيذ خطة “الحزام العربي”، والتي استهدفت تغيير البنية الديموغرافية للمناطق الكردية على طول الحدود مع تركيا، وترافق ذلك مع حظر شامل للغة والثقافة الكردية، ومنع تسمية المواليد والأماكن بأسماء كردية، في محاولة لصهر الهوية الكردية داخل القالب العربي للدولة، غير أن مشهد التهميش هذا انقلب رأسًا على عقب مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، ففي ظل انسحاب القوات الحكومية من مناطق الشمال الشرقي عام 2012، وجدت الأحزاب الكردية فرصة نادرة لبناء إدارة ذاتية على الأرض.
استثمر النظام في تلك اللحظة بالتراجع عن بعض السياسات السابقة، أبرزها منح الجنسية لعدد كبير من الأكراد “المجردين”، وترك مساحة محدودة للنشاط الثقافي والتعليم باللغة الكردية.
خلال الحرب، تأسست وحدات حماية الشعب كقوة عسكرية كردية، وانضوت لاحقًا ضمن “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي لعبت دورًا محوريًا بدعم أميركي في قتال تنظيم “داعش”. وبفضل هذا الدور، توسّع نطاق سيطرة الأكراد إلى مناطق تتجاوز الثقل السكاني الكردي التقليدي، وأعلنوا عام 2014 إنشاء “الإدارة الذاتية” التي تطورت لاحقًا إلى نظام فيدرالي في 2016، مثّلت لأول مرة نموذجًا لحكم كردي محلي في سوريا.
مع تسارع التحولات الميدانية والسياسية في أواخر عام 2024، وجد أكراد سوريا أنفسهم أمام منعطف غير مسبوق، بعدما انهار نظام بشار الأسد بصورة مفاجئة في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، منهياً خمسة عقود من الحكم المطلق.
وعلى هذا الأساس، دخلت القيادة الكردية في مفاوضات عاجلة مع السلطة الانتقالية الجديدة برئاسة أحمد الشرع، أفضت إلى توقيع اتفاق في دمشق بتاريخ 10 مارس/آذار 2025، ينص على وقف شامل لإطلاق النار ودمج قوات سوريا الديمقراطية ضمن مؤسسات الدولة، واعتبار المجتمع الكردي مكوّنًا أصيلاً من الهوية الوطنية السورية، مع ضمان كامل لحقوقه السياسية والدستورية.
وتضمّن الاتفاق أيضًا التأكيد على رفض التقسيم وخطاب الكراهية، وضمان عودة النازحين تحت حماية الدولة، والتعاون في مواجهة فلول النظام السابق وأي تهديدات إرهابية أو انفصالية. وتم تحديد نهاية عام 2025 كموعد لإتمام جميع هذه الإجراءات تحت إشراف لجان مشتركة.
ولا تزال المخاوف قائمة بشأن كيفية ترجمة هذه التعهدات عمليًا، فسنوات عدم الثقة بين الأطراف لا تُمحى بسهولة. وما زالت تفاصيل شكل اللامركزية ومكانة الأكراد في القرار المركزي قيد النقاش ضمن مسار الانتقال السياسي. كما تراقب تركيا التطورات بحذر؛ فعلى الرغم من ارتياحها لانهيار كيان روج آفا واندماج قوات قسد في الجيش السوري، تخشى أنقرة بقاء عناصر مرتبطة بحزب العمال الكردستاني ضمن البنية الجديدة.

العراق: من الاضطهاد إلى الفيدرالية وترسيخ الحكم الذاتي
قطع أكراد العراق مسارًا طويلًا ومليئًا بالمنعطفات الدامية قبل أن يصلوا إلى النموذج الأكثر تطورًا من الحكم الذاتي بين أجزاء كردستان، فمنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى، وجد الأكراد أنفسهم أقلية مهمّشة داخل دولة ذات غالبية عربية، ما دفعهم إلى سلسلة من الانتفاضات قادها الشيخ محمود الحفيد بين 1919 و1940، لكنها أُخمدت بالقوة.
استمرت القضية الكردية بالتصاعد خلال العهدين الملكي والجمهوري، إلى أن تحقق أول اختراق حقيقي في اتفاق 11 آذار/مارس 1970 بين بغداد وقيادة الثورة الكردية بزعامة الملا مصطفى البارزاني، والذي نصّ على منح الحكم الذاتي لثلاث محافظات (أربيل ودهوك والسليمانية) والاعتراف بالكردية لغة رسمية إلى جانب العربية، إضافة إلى إشراك الأكراد في الحكم، غير أن الاتفاق سرعان ما انهار بفعل خلافات حول التنفيذ، لا سيما مسألتي كركوك وتقاسم الثروة النفطية.
في عام 1974، رفضت قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني قانون الحكم الذاتي الجديد الذي طرحته حكومة البعث، معتبرةً إياه تراجعًا عن روح اتفاق 1970، وردّ النظام بشن حملة عسكرية واسعة، ثم عقد اتفاقية الجزائر 1975 مع شاه إيران، ما أدى إلى وقف الدعم الإيراني للبارزاني وانهيار حركته المسلحة.
بعد حرب الخليج الأولى عام 1991، انتفض الأكراد مجددًا قبل أن يتعرضوا لقمع قاسٍ، لتتدخل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بفرض منطقة حظر جوي شمال خط 36، ما أفسح المجال أمام انسحاب قوات النظام من كردستان فعليًا، وسمح للأكراد بتأسيس أول إدارة ذاتية على الأرض.
أُجريت انتخابات محلية عام 1992 نتج عنها تشكيل برلمان وحكومة لإقليم كردستان، رغم ما شهده الإقليم لاحقًا من اقتتال داخلي بين الحزبين الكرديين الرئيسيين (الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني) بين 1994 و1998، قبل أن تتدخل واشنطن لفرض اتفاق أنهى الحرب الأهلية وسمح بعودة الاستقرار تدريجيًا.
شكل سقوط نظام صدام حسين عام 2003 نقطة التحول الكبرى، فقد كرس دستور 2005 الشكل الفيدرالي للدولة العراقية، واعترف بإقليم كردستان ككيان اتحادي يمتلك برلمانه وحكومته وقواته الأمنية (البيشمركة)، وأقرّ الكردية لغة رسمية للعراق.
شارك الأكراد بقوة في العملية السياسية، وتولى جلال طالباني رئاسة الجمهورية، فيما حافظ الإقليم على صلاحيات واسعة في إدارة شؤونه، من التشريع المحلي إلى الاستثمار وتصدير النفط، وأدى الاستقرار الأمني والاقتصادي الذي نعِم به الإقليم خلال العقدين الماضيين إلى تحويل مدنه – ولا سيما أربيل ودهوك والسليمانية – إلى مراكز عمرانية مزدهرة وجاذبة للاستثمارات والنازحين.