بعد أربعة عقود من الحرب الدامية بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية، يشهد المشهد الإقليمي منعطفًا حاسمًا بإعلان الحزب وقف الكفاح المسلح والشروع في تفكيك جناحه العسكري.
استجابةً لنداء زعيمه المعتقل عبد الله أوجلان، أعلن الحزب طيّ صفحة السلاح والدخول في مسار سياسي جديد، في خطوة قد تُنهي صراعًا خلّف أكثر من أربعين ألف قتيل منذ عام 1984، فيما بدأت طلائع المقاتلين بالفعل الانسحاب من الأراضي التركية نحو جبال قنديل شمال العراق، في إطار عملية نزع سلاح تُنسق على مراحل مع أنقرة.
ورغم الترحيب الواسع بالخطوة بوصفها بادرة أمل لسلام طال انتظاره، تهيمن على طرفي الصراع مشاعر الحذر والقلق: هل تمثل هذه المبادرة بداية حل حقيقي؟ أم أنها ستفضي إلى إعادة إنتاج الصراع بصورة جديدة؟
تفاؤل مشوب بالحذر في تركيا
قوبل إعلان حزب العمال الكردستاني عن وقف العمل المسلح بتفاؤل الحذر في مختلف الأوساط داخل تركيا، إذ رأى فيه كثيرون فرصة نادرة لطيّ صفحة الحرب التي أنهكت المنطقة وفتح أفق جديد للعمل السياسي.
الحكومة التركية رحّبت مبدئيًا بهذه الخطوة، واعتبرتها تطورًا إيجابيًا يمهّد الطريق نحو تحقيق هدفها المعلن: “تركيا خالية من الإرهاب”، وقد كشف مسؤولون في أنقرة عن توجه لتشريع قوانين خاصة تتيح عودة آلاف المقاتلين والمدنيين الأكراد من منافيهم في شمال العراق إلى البلاد، ضمن إطار تسوية تدريجية.
وتسعى الحكومة من خلال هذه القوانين إلى إعادة دمج العائدين اجتماعيًا وتوفير غطاء قانوني يحميهم، دون أن يشمل ذلك عفوًا عامًا، فالمسؤولون يؤكدون أن ملفات بعض المقاتلين ستُحال إلى المحاكم، بينما سيُستبعد القادة البارزون بإرسالهم إلى دول ثالثة في إطار تفاهمات خاصة، ويشدد أعضاء لجنة المصالحة على أن تنفيذ هذه الخطوات يبقى مرهونًا بالتثبت من التفكيك الكامل للجناح العسكري للحزب.
كما تبقى المطالب الكردية الأساسية، مثل تحسين ظروف احتجاز الزعيم عبد الله أوجلان والمعتقلين السياسيين، وإتاحة المجال لإصلاحات دستورية وثقافية، معلّقة في ظل تردد رسمي في المضي قدمًا بهذه الملفات.
وهو ما يجعل كثيرين من الأكراد ومن الشارع التركي أيضًا إلى استحضار تعثّر مسار المصالحة السابق في عام 2015 وما أعقبه من تطورات، بما في ذلك توقيفات طالت نوابًا ورؤساء بلديات، من بينهم صلاح الدين دميرطاش، وهو ما ترك أثرًا واضحًا على مستوى الثقة المتبادلة في المرحلة الراهنة. وفي هذا الإطار، أعربت النائبة جولستان كليج كوجيغي عن قلقها من غياب الوضوح في الموقف الحكومي، مشيرة إلى أن الخطاب الرسمي ما يزال عامًا ولا يوضح خارطة طريق محددة تعيد الزخم للعملية.
المشهد #الكردي يتحول بعد تراجع دور العمال الكردستاني؛ قوى جديدة تتقدم في #تركيا وسوريا والعراق تجمع بين اليسار القومي والإسلام السياسي والحركات الإصلاحية مع بروز صيغ حكم متباينة داخل الإقليم
🔴ما بعد حزب العمال الكردستاني.. كيف تتوزع الخريطة الحزبية الكردية؟… pic.twitter.com/VikLC4qJgI
— نون بوست (@NoonPost) November 15, 2025
من جانبه، شدد الرئيس رجب طيب أردوغان على أن نزع السلاح يجب أن يكون غير مشروط، وأن الدولة لن تتراجع عن موقفها الحازم، معتبرًا أن أي تعطيل لعملية السلام سيقابل برد عسكري حاسم.
تحوّل تاريخي في تركيا بعد إعلان حزب العمال الكردستاني التخلي عن السلاح استجابةً لنداء أوجلان، وبدء انسحاب مقاتليه من الأراضي التركية، في خطوة تمهّد لطيّ صفحة أربعة عقود من الصراع المسلح. فإلى أين وصلت مبادرة “تركيا خالية من الإرهاب”؟ pic.twitter.com/j1cdiHaEs2
— نون بوست (@NoonPost) November 9, 2025
هذا التباين بين نبرة التطمين الرسمية وتوجس الأكراد يجعل المشهد التركي دقيقًا وحافلًا بالاحتمالات، فبالرغم من المؤشرات الإيجابية، مثل السماح بزيارة نواب أكراد لعبد الله أوجلان في محبسه بعد سنوات من العزلة، والدعم غير المتوقع من حليف الحكومة دولت باهتشلي، لا يزال التساؤل مطروحًا لدى كثير من الأكراد: هل ما يجري هو تمهيد فعلي لمصالحة سياسية تاريخية؟
ارتياح حذر في كردستان العراق
رحّبت سلطات إقليم كردستان العراق بالتطورات الأخيرة في مسار المصالحة بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني، وسط حالة من الارتياح المشوب بالحذر، فلطالما وجدت حكومة الإقليم نفسها عالقة بين وجود المقاتلين في جبالها الحدودية وما يترتب عليه من عمليات قصف تركي متكررة ألحقت أضرارًا بالأمن والاقتصاد والبنية الاجتماعية في المناطق الحدودية، ومع شروع الحزب في تفكيك قواعده وانسحاب مقاتليه تدريجيًا، تلوح أمام أربيل فرصة لوقف حالة الاستنزاف المستمرة واستعادة بعض التوازن على الشريط الحدودي.
رئيس الحكومة مسرور بارزاني وصف المبادرة بأنها خطوة أولى نحو سلام دائم، داعيًا إلى بناء عهد جديد من التفاهم والاستقرار، وعبّرت القوى الكردية الرئيسية في الإقليم – سواء الحزب الديمقراطي الكردستاني أو الاتحاد الوطني الكردستاني – عن دعمها الواضح للعملية، مؤكدة في لقاءات مع وفود كردية من تركيا، رغبتها في أن تشكّل هذه الخطوة بداية حقيقية لإنهاء حالة الصراع المزمن.
فعليًا، تكبّد الإقليم خلال السنوات الأخيرة كلفة باهظة جراء استمرار وجود حزب العمال الكردستاني، لا سيما بعد انهيار جهود السلام عام 2015، حيث تحوّلت مناطق شمال العراق إلى ساحة مفتوحة للمواجهة بين الحزب والجيش التركي، وقد توغلت القوات التركية داخل الإقليم إلى عمق يتجاوز 15 كيلومترًا، وأقامت عشرات القواعد والمواقع العسكرية شمال محافظة دهوك، ما حدّ من قدرة سلطات الإقليم على بسط سيادتها الكاملة في تلك المناطق.
وتسببت هذه العمليات في نزوح آلاف السكان من القرى الجبلية، وتكررت حالات سقوط ضحايا مدنيين، كما حدث في قصف منتجع زاخو صيف عام 2022، والذي أسفر عن مقتل عدد من السائحين، ما عزز قناعة أربيل بأن تفكيك حزب العمال الكردستاني خطوة ضرورية لاستعادة الاستقرار ووقف العمليات العسكرية المتكررة.
ومع ذلك، لا تُخفي حكومة الإقليم قلقها من مستقبل السيطرة على المناطق الحدودية بعد رحيل المقاتلين، فرغم ترحيب الحكومة الاتحادية في بغداد أيضًا بالمسار السلمي، إلا أنها طالبت أنقرة علنًا بإنهاء وجودها العسكري وسحب قواتها من الأراضي العراقية، مؤكدة أن المبررات الأمنية التي طالما استخدمتها تركيا أصبحت غير قائمة.
هذا الترقب المزدوج يجعل موقف الإقليم بين ارتياح لتحقيق مكاسب أمنية محتملة، وحذر من أن تُستبدل قوات الحزب بقوة تركية دائمة، ويُجمع مراقبون على أن ضمان استقرار طويل الأمد في شمال العراق يستدعي ترتيبات أمنية متوازنة، تشمل تعزيز حضور قوات البيشمركة وحرس الحدود، منعًا لأي فراغ أمني قد تستغله جماعات متطرفة أو قوى خارجية.
المشهد المعقّد في شمال سوريا
يظهر شمال سوريا اليوم بوصفه الحلقة الأكثر تشابكًا في مسار المصالحة بين أنقرة والأطراف الكردية، إذ تتداخل فيه الحسابات الإقليمية مع تعقيدات المشهد المحلي، فمع أن قوات سوريا الديمقراطية، ذات الغالبية الكردية، لا ترتبط تنظيمياً بحزب العمال الكردستاني، فإن تركيا ترى فيها الامتداد السوري للحزب، وتعتبر نزع سلاحها شرطًا موازيًا لإنهاء وجود الحزب المسلح. وعلى مدار سنوات، ربطت أنقرة أي فرصة للتقارب مع الأكراد السوريين بتفكيك وحدات حماية الشعب التي تمثل القوة الرئيسية داخل قوات سوريا الديمقراطية، معتبرة أن استمرار هذا الكيان المسلح يشكّل تهديدًا يماثل تمرد حزب العمال جنوب تركيا.
تحقيق: أكثر من 4500 من فلول النظام السابق ينضمون لقسد ويتمركزون بحقول العمر وكونيكو شمالًا.
📌 مصادر متعددة تؤكد انضمام عناصر وضباط من جيش النظام السابق إلى “قسد” منذ سقوطه، بعدد يتجاوز 4500.
📌 التمركز الأساسي في حقلي “العمر” النفطي و“كونيكو” الغازي، مع دفعة أولى بنحو 2200 وصلت… pic.twitter.com/AaaVSEzefr
— نون سوريا (@NoonPostSY) November 22, 2025
ومع بدء عملية السلام بين أنقرة والحزب، ضغطت تركيا لإدراج قوات سوريا الديمقراطية ضمن الترتيبات الأمنية الجديدة، وطالبت عبد الله أوجلان بتوجيه نداء صريح لمقاتلي هذه القوات للتخلي عن سلاحهم، انطلاقًا من اعتباره مرجعية رمزية لهم، وأكدت القيادة التركية صراحة أنها تتوقع أن تحذو القوات الكردية في سوريا حذو مقاتلي حزب العمال، خصوصًا في ظل وجود إدارة ذاتية شمال البلاد تراها أنقرة امتدادًا لمشروع الحزب الإقليمي.
في المقابل، يؤكد قادة قسد أنهم لا يرتبطون تنظيميًا بالحزب، ويرفضون تحميلهم تبعات تفاهماته مع أنقرة، ومع ذلك سارع قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، إلى الترحيب بدعوة أوجلان للسلام، واعتبرها خطوة قد تخفف التوترات في المنطقة، لكنه شدّد في الوقت ذاته على أن ما يعلنه أوجلان “لا ينطبق على وضع شمال سوريا”.
وأكد أن قواته لن تتخلى عن سلاحها لأنها تتحمل مسؤولية حماية مناطقها في ظروف شديدة التعقيد، حيث تواجه تهديدات تركية مستمرة عبر الحدود، وفلول تنظيم داعش، وغموضًا يحيط بمواقف الحكومة السورية الجديدة تجاه مستقبل الوجود الكردي.
وترى الإدارة الذاتية الكردية أن التخلي عن السلاح من دون ضمانات أمنية وسياسية ودولية سيكون مخاطرة قد تترك مناطقها مكشوفة أمام الأطماع، بينما تؤكد تركيا في المقابل أن استمرار وجود قوة مسلحة كبيرة قرب حدودها يمثّل مخاطرة أمنية موازية.
قائد قسد مظلوم عبدي:
📌 سوريا يجب أن تكون لا مركزية وعلينا أن نقبل بهذا الواقع
📌اتفاقية 10 آذار حالت دون الحرب ونطلب من دول الجوار أداء دورا إيجابيا لتطبيق الاتفاق
📌نأمل أن ننهي تنفيذ كل بنود اتفاق 10 من آذار بحلول نهاية العام
📌نأمل أن نتوصل إلى حوار وطني لمعالجة المشكلات… pic.twitter.com/fjU3zvDzJB
— نون سوريا (@NoonPostSY) November 19, 2025
وباختصار، يشكل شمال سوريا امتدادًا للصراع التركي الكردي لكنه يحمل خصوصيات تجعله أكثر تعقيدًا، وأي خطوة ناقصة في هذا الملف قد تنسف ما يتحقق في تركيا، ما يدفع أكراد الشمال السوري إلى متابعة التفاهمات التركية الكردية بحذر شديد، مطالبين بضمانات دولية واضحة قبل التفكير في أي مسار يؤدي إلى تسريح قواتهم أو تغيير موقعهم العسكري.
سلام دائم أم فراغ أمني؟
مع وصول المسألة الكردية في تركيا والمنطقة إلى محطة مفصلية، يبرز سؤال محوري: هل يكفي إسكات البنادق لبناء سلام طويل الأمد؟ أم أن غياب التسويات السياسية العميقة سيعيد إنتاج النزاع في صور جديدة؟ فرغم أنّ تفكيك البنية العسكرية لحزب العمال الكردستاني خطوة استثنائية تُعدّ الأولى من نوعها منذ تأسيس الحزب، فإن السلام الحقيقي لا يمكن اختزاله في نزع السلاح وحده، بل يتطلّب معالجة الأسباب التي فجّرت الصراع قبل أربعة عقود.
بالنسبة لتركيا، يضع الخبراء قائمة واضحة لما يعتبرونه شرطيّ السلام والاستقرار: الاعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية للأكراد، وإنهاء التمييز القانوني، وتوسيع المشاركة السياسية في مؤسسات الدولة، وتحقيق تنمية حقيقية في الولايات ذات الغالبية الكردية، إضافة إلى إغلاق ملف المعتقلين السياسيين وإنهاء سياسات الإقصاء التي رسّخت حالة الاحتقان.
ويؤكد قادة من حزب العمال الكردستاني أن التنظيم قد يختفي، لكن الأسباب التي ولد منها ستظل قائمة ما لم تُعالج جذور المشكلة، فقد شدّد رمزي كارتال على أن العمل المسلح كان ردّ فعل على إنكار الهوية الكردية، بينما رأى مراد قريلان أن التخلي عن السلاح مرهون بتسوية عادلة تشمل وقفًا متبادلًا لإطلاق النار وضمانات سياسية، وفي مقدمتها إطلاق سراح عبد الله أوجلان.
وتثير مرحلة ما بعد حلّ الحزب مخاوف أخرى، إذ ما يزال آلاف المقاتلين بانتظار تحديد مصيرهم، وإن لم تُفتح أمامهم مسارات اندماج آمنة في الحياة المدنية أو المجال السياسي، يخشى محللون من أن يتحول بعضهم إلى مجموعات أكثر تشدّدًا، أو أن تُستغلّ أوضاعهم الهشّة في تجديد دوائر العنف.
أما إقليم كردستان العراق وسوريا، فلهما مصلحة مباشرة في نجاح عملية المصالحة التركية الكردية وما قد تحمله من استقرار إقليمي، إلا أن هذا الاستقرار يظل مرهونًا بتفكيك منظومة الحرب بالكامل ووقف العمليات العسكرية التركية خارج حدودها، ودمج القوى الكردية المحلية في ترتيبات سياسية واضحة تُبدد المخاوف الأمنية، وتضمن الحفاظ على مكتسباتهم ضمن إطار دستوري معترف به.
في النهاية، لا يكفي مشهد إحراق الأسلحة لإعلان انتهاء الحرب، فالمسار يحتاج التزامًا متبادلًا، وضمانات سياسية وأمنية، ورؤية مشتركة للمستقبل تتقاطع فيها مخاوف الطرفين، ومع غياب هذه الشروط، سيظل الحذر حاضرًا، وستبقى إمكانية انبعاث الصراع واردة ولو بأسماء جديدة، أما إذا استُثمرت هذه اللحظة سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، فإن الطريق قد يفتح لأول مرة أمام سلام تاريخي يطوي صفحة أطول نزاع شهدته الجمهورية التركية الحديثة.