تؤكد الكثير من المؤشرات والقرائن أن العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر والإمارات في أدنى درجاتها، فالجزائر تتهم أبو ظبي بلعب دور “غير بريء” في المنطقة المغاربية والساحل الإفريقي بهدف إعادة تشكيل تحالفات جديدة تستند إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، ويأتي المنعطف الجديد في العلاقات الجزائرية الإماراتية التي شهدت تدهورًا ملحوظًا في المدة الأخيرة، بعد إعلان الإمارات دعمها لقرار مجلس الأمن رقم (2797) الذي يدعم الخطة المغربية بشأن الصحراء والتي اقترحتها المغرب عام 2007 كحل لنزاع عالق ما يقارب الخمسين عامًا.
يعكس هذا الموقف بوضوح الإطار الأعم والأشمل للدور الذي تلعبه أبو ظبي من أجل إعادة تشكيل التحالفات لصالح المغرب و”إسرائيل”، الحليفين الاستراتيجيين لها، مقابل تقويض الدور الجزائري الإقليمي ومحاصرته من كل الجهات، وتحدثت وسائل إعلام جزائرية عن الحراك السياسي المكثف الذي جرى من وراء كواليس الأمم المتحدة بقيادة الثلاثي الذي يضم فرنسا والإمارات و”إسرائيل” في مسعى منسق لفرض مشروع قرار يكرس سيادة المغرب على الصحراء الغربية و “شيطنة” الجزائر وتشويه مواقفها الثابتة دفاعًا عن حرية الشعوب واستقلالها.
تحوّلت قضية الصحراء الغربية، إلى ساحة جديدة للعبث الإماراتي الذي يمزج بين السياسات الخارجية والأطماع التوسعية، وتمهيد الطريق لما يخدم التطبيع مع الكيان الإسرائيلي
📌زر موقعنا الإلكتروني لقراءة تفاصيل أكثر عبر الرابط 👇https://t.co/jaBxR8SS29 pic.twitter.com/ACXp2ifNoF
— نون بوست (@NoonPost) November 12, 2025
لا يعتبر هذا الموقف مفاجئًا، لأن الإمارات سبق لها وأن افتتحت قنصليتها بمدينة العيون (كبرى حواضر الصحراء الغربية) في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 مكرسة دعمها المعلن لـ “مغربية الصحراء”، ومباشرة بعد هذه الخطوة التأسيسية سعت لتجد لنفسها موطئ قدم في المنطقة واستهلت خطتها التوسعية بتمويل أكبر وأهم الموانئ في القرن الإفريقي وهما: ميناء الداخلة مطار الداخلة (Dakhla Hub)، وكذا ميناء الداخلة الأطلسي، وتهيئة وتطوير المشروع المندمج للداخلة (Dakhla Gateway to Africa) وتطوير ساحل جهتي الداخلة وطرفاية، وكذا تمويل مشاريع الطاقات المتجددة وإنتاج الهيدروجين الأخضر ومشتقاته.
يقول الدكتور تلي عبد الله، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة تلمسان، في حديثه لـ”نون بوست”، إن “الإمارات أصبحت المحرك المالي للاستراتيجية الجيوسياسية المغربية في المنطقة، حيث تجلّى بوضوح عملها على تعزيز التكامل الاقتصادي للمغرب مع دول الساحل، مثل مشروع خط أنبوب الغاز الأفريقي الأطلسي. كما يظهر انحيازها الواضح للمغرب في قضية الصحراء الغربية، إذ افتتحت قنصليتها سنة 2020 بمدينة العيون الصحراوية المحتلة، لتكون أول دولة عربية تقدم على هذه الخطوة، في مخالفة صريحة للقوانين والأعراف الدولية. إضافة إلى ذلك، دعمت خطة الحكم الذاتي المغربية، ووضعت كل ثقلها ونفوذها الدبلوماسي لصالح تمرير قرار مجلس الأمن بما يخدم الطرح المغربي، فضلًا عن ضخ استثمارات تجاوزت 30 مليار دولار، أغلبها موجّه للمشاريع الاستراتيجية المغربية في المناطق الجنوبية”.
الهندسة الإماراتية في الساحل
لا يقتصر الصراع على قضية الصحراء الغربية فقط، إذ امتدّت السياسات الإماراتية الإمبريالية إلى منطقة الساحل الإفريقي، انطلاقًا من محور بنغازي شرقي ليبيا، مرورًا بنيامي وباماكو، وصولًا إلى واغادوغو، عاصمة بوركينا فاسو وأكبر مدنها، والمبتغى من هذا التمدد تطويق الجزائر جيوسياسيًا وإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية على حسابها.
في هذا السياق، يؤكد البروفيسور نور الصباح عكنوش، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة بسكرة، في حديثه لـ”نون بوست”، أن “السلوك الإماراتي في المنطقة الممتدة من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي ليس جديدًا؛ فهو يندرج ضمن سياسة خارجية تستهدف محاصرة الجزائر جيوسياسيًا عبر دعم أنظمة هشّة وغير شرعية، واستخدامها كورقة ضغط تستهدف عمقها الاستراتيجي في مالي والنيجر وليبيا”.
وبحسب قوله، توجد مجموعة من العوامل والمحددات التي تؤثر في هذا السلوك، من بينها استغلال الإمارات لذهب باماكو وتحويله لصالحها بدعم من دول غربية، وهو ما يمثّل نموذجًا واحدًا من نماذج نهب أبوظبي للموارد في القرن الإفريقي.
أما المحدد الثاني، وفق المحلل السياسي، فهو “تل أبيب؛ إذ تعمل الإمارات حاليًا على تجسيد الاختراق الصهيوني للإقليم عبر الاستثمار في إسقاط الدول والمجتمعات، من خلال ضخ أموال ضخمة في دعم وتمويل فواعل الاحتراب الداخلي على نحو ممنهج ومستدام”.
وتجسّد الجولة الدبلوماسية للشيخ شخبوط بن نهيان آل نهيان، التي شملت دول تحالف الساحل في مايو/أيار 2025، تقاربًا غير مسبوق في المصالح الاستراتيجية، وأثارت أكثر من سؤال حول أهداف هذه الجولة المكوكية غير المعلنة، لا سيما أنها جاءت في ظرف حساس بفعل التوتر المتزايد بين السلطات المالية الانتقالية والجزائر بسبب الانقلابات، إضافة إلى بروز تغيّر واضح في مواقف العواصم الجديدة في باماكو ونيامي.
بينما تدعي الإمارات أن هذه الاتفاقيات تمثل بداية مرحلة جديدة من التكامل الاقتصادي المشروع بين بلدين لتحقيق مصالح مشتركة، تثبت الوقائع أنها مكافأة سياسية إماراتية لتشاد على مواقفها في الملف السوداني
📍زر موقعنا الإلكتروني لتفاصيل أكثر 👇https://t.co/GXveHPqy2s pic.twitter.com/HfG2np1DYu
— نون بوست (@NoonPost) November 14, 2025
قدّمت الإمارات للمجالس العسكرية الحاكمة في كلٍّ من مالي والنيجر وبوركينا فاسو ما تعجز عن تقديمه أيّ قوة كبرى، رغم أنّ هذه المجالس مؤقتة بطبيعتها لأنها تشكّلت خلال فترات انتقالية بين سقوط نظام وقيام آخر جديد، ففي باماكو، التزم الصندوق الإماراتي بتمويل مصفاة جديدة لتعدين الذهب ستقام في سينو (جنوب باماكو) على مساحة تناهز 6 هكتارات، وستضم الورش المرتبطة بالصناعة التعدينية، التي لا تقتصر على معالجة الأحجار الثمينة فحسب، بل تشمل أيضًا صناعة مجوهرات رفيعة. وتقدّر قيمة التمويل بـ29 مليون دولار أمريكي.
وتُوّجت الدورة الثانية للجنة المشتركة بين مالي والإمارات، المنعقدة في 18 آب/أغسطس الماضي، بتوقيع 11 اتفاقية ومذكرة تفاهم في مجالات الأمن والزراعة ومشاريع الاستثمار في الطاقة الشمسية، من بينها محطتا طاقة شمسية بقدرة 50 ميجاواط في تياكادوغو – ديالاكور. أما في النيجر، فتشير تقارير نيجيرية إلى وجود تعاون تعديني جديد وغير رسمي بين النيجر والإمارات.
ويأتي التحرك الإماراتي في منطقة الساحل، وفق المحلل السياسي تلي عبد الله، في “لحظة حساسة تمرّ بها المنطقة بعد تراجع النفوذ الفرنسي وتنامي حضور قوى جديدة، من بينها الإمارات، وهو ما أثار تساؤلات حول خلفيات تسليحها للعديد من الجيوش الإفريقية. فقد قامت بتقديم مركبات مدرعة للقوات المالية والنيجيرية والبوركينابية، ومَوّلت في موريتانيا كلية عسكرية، وزوّدت الجيش الموريتاني بعتاد متنوع، منها طائرات نقل ومركبات عسكرية مدرعة، كما أعلنت عن تقديم 30 مليون يورو لدعم القوة المشتركة لدول الساحل الإفريقي”.
وفي 13 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وجّهت السلطات العليا في الجزائر، عبر وسائل الإعلام الحكومية الرسمية، اتهامات مباشرة وصريحة لدولة الإمارات بتقديم تمويل مالي ضخم لحملة إعلامية تستهدف الإضرار بالجزائر وعلاقاتها مع دول الساحل الإفريقي، وخاصة مالي والنيجر، ونقلت الإذاعة الرسمية حينها عن مصادر مطلعة قولها إن “أبوظبي منحت 15 مليون يورو للمغرب من أجل إطلاق حملة إعلامية وحملات عبر المنتديات الاجتماعية تهدف إلى ضرب استقرار بلدان الساحل”.
تخريب مشروع الغاز العابر للصحراء
ذراع الإمارات الطويلة طالت أيضًا المشاريع الاقتصادية الاستراتيجية الكبرى، مثل مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء “تي.أس.جي.بي” الذي يربط نيجيريا بأوروبا عبر الجزائر، ففي مايو/أيار 2025 أعلنت الإمارات العربية المتحدة انضمامها رسميًا إلى قائمة الممولين الرئيسيين للأنبوب الذي سيربط بين نيجيريا والمغرب، رغم صعوبة تجسيده بالنظر إلى المعيقات التي تواجهه.
ويشير مسؤول بارز في شركة الطاقة الجزائرية المملوكة للدولة “سوناطراك”، طلب عدم الكشف عن هويته، إلى أبرز تلك المعيقات التي تشمل أزمة التمويل؛ إذ يمتد المشروع المغربي لمسافة 5660 كيلومترًا عبر 15 دولة قبل الوصول إلى أوروبا، وقد تصل تكلفته إلى نحو 50 مليار دولار. يضاف إلى ذلك المخاطر الجيوسياسية والأمنية والعقبات السياسية، فالمشروع يحتاج إلى موافقة جميع الدول التي يمر عبرها، بما في ذلك منطقة الصحراء الغربية المتنازع عليها، وهو ما أكده وزير النفط النيجيري تيمييري سيلفا لوكالة “فرانس برس” في مارس/آذار 2023، حين قال إن “مشروع أنبوب الغاز مع المغرب مرهون بموافقة كل الدول التي يمر عبرها”.
هذا الدعم المالي الكبير من أبوظبي يستهدف “وأد” مشروع خط أنابيب الغاز الجزائري العابر للصحراء، الذي يمتد من نيجيريا مرورًا بالنيجر وصولًا إلى الجزائر، بطول يبلغ نحو 4 آلاف كيلومتر، وهو المشروع الذي يتمتع بميزة استراتيجية تجعل الجزائر في موقع تنافسي متقدم، تتمثل في جاهزية أنبوب “ميدغاز” الذي ينطلق من حقول الغاز في حاسي الرمل (جنوب البلاد) إلى مدينة بني صاف غربًا، ثم يمتد عبر البحر الأبيض المتوسط إلى سواحل ألميريا الإسبانية، ما يعني أن الجزء الثاني من مشروع الأنبوب العابر للصحراء (TSGP) جاهز لاستقبال الغاز النيجيري في أي لحظة.
وفي مايو/أيار 2024، حاولت الإمارات الاستحواذ على حصة في شركة “ناتورجي” الإسبانية، الشريكة لـ”سوناطراك” الجزائرية في سوق الغاز داخل هذا البلد الأوروبي، في ظل توتر غير مسبوق بين البلدين، لكن الجزائر أوقفت الصفقة بعد تهديدها بإلغاء شحنات الغاز إلى “ناتورجي”، التي تربطها عقود توريد مع “سوناطراك” لتصدير ما يصل إلى 5 مليارات متر مكعب سنويًا.
