لم يكن سقوط الأسد مجرد عنوان سياسي جديد في المشهد السوري، بل محطة فاصلة مهدت لتحول ملموس طالما انتظره السوريون، فمع بداية الانفراج الأمني والإداري، بدأت طوابير الوقود التي أنهكت الناس لسنوات بالتقلّص تدريجيًا، وتراجعت أرتال الخبز التي طالما ازدحمت بها الشوارع، كما توقفت الرسائل الأسبوعية الخاصة بالحصول على الغاز عن كونها هاجسًا يثقل يوم كل أسرة. وفي موازاة ذلك، انتشرت ورشات الصيانة على الطرقات لإعادة تأهيل خطوط الكهرباء ومحطات التوزيع التي نال منها الإهمال طويلًا.
ورغم أن الطريق أمام إعادة الإعمار لا يزال طويلًا، وأن إصلاح قطاعي الكهرباء والمشتقات النفطية يحتاج إلى دعم دولي واستثمارات كبيرة، يمكن القول إن سوريا بدأت تضع قدمها أخيرًا على مسار استعادة الخدمات الأساسية وتهيئة حياة أكثر كرامة لمواطنيها.
لكن هذه الجهود، على أهميتها، تبقى طويلة الأمد ولا تنعكس بصورة مباشرة على الحياة اليومية لكثير من السوريين، لا سيما في الأرياف والمناطق النائية البعيدة عن مراكز المدن، فما تزال تلك المناطق تعاني شحًّا كبيرًا في التغذية الكهربائية يصل أحيانًا إلى الانقطاع الكامل، إضافة إلى نقص المازوت ووسائل التدفئة، ما دفع الأهالي إلى ابتكار شبكة واسعة من البدائل التي شكّلت ما يمكن تسميته اليوم بـ”الاقتصاد البديل”: اقتصاد يعتمد على حلول محلية تضمن استمرار الحياة اليومية رغم محدودية الخدمات الرسمية.
وفي قلب هذا الواقع المتحوّل، يبرز سؤال ملحّ: كيف ينجح السوريون في تأمين احتياجاتهم الأساسية وابتكار حلول تُبقي حياتهم مستمرة بينما تغيب الخدمات الرسمية عن جزء واسع من البلاد؟
أزمة الكهرباء
كشفت تقارير عديدة أن أزمة الكهرباء في سوريا ما تزال مستمرة رغم التحسن النسبي الذي شهدته بعض المناطق مؤخرًا، إذ تحصل معظم المحافظات على ما بين ساعتين وست ساعات فقط من التغذية يوميًا. وتشير الأرقام إلى فجوة واسعة بين الإنتاج والطلب، حيث تبلغ قدرة توليد الكهرباء الحالية نحو 1.3 غيغاواط مقابل طلب كامل يقارب 6.5 غيغاواط، أي بعجز يصل إلى نحو 80% نتيجة الأضرار الكبيرة التي لحقت بمحطات التوليد وشبكات النقل خلال سنوات الحرب. ومن أصل 14 محطة توليد قائمة، تعمل 11 منها بالغاز والوقود السائل (الفيول/المازوت)، بينما تعمل ثلاث محطات كهرومائية، مع فقدان أكثر من 30% من الطاقة أثناء النقل بسبب الأضرار التي طالت خطوط التوتر العالي والمحولات.
وسط أزمة الكهرباء الممتدة، اتجهت شرائح واسعة من السوريين إلى البحث عن بدائل عمليّة، لتفرض الألواح الشمسية نفسها كخيار إنقاذي. فمع تراجع التغذية النظامية إلى مستويات غير مسبوقة، باتت الطاقة الشمسية بالنسبة لكثيرين السبيل الوحيد لضمان حدٍّ أدنى من الاستقرار المنزلي ومتطلبات الحياة اليومية داخل المدن.
ولم تقتصر الألواح الشمسية على المدن والقرى فقط، بل امتدت أيضًا إلى المخيمات في إدلب، حيث يستخدم بعض المهجَّرين لوحًا واحدًا لتغذية هواتفهم وتشغيل مصابيح توفير الطاقة ليلًا، بينما يعتمد آخرون على 3–4 ألواح لتشغيل أجهزة إضافية مثل التلفزيون، ما يمنحهم قدرًا أكبر من الاستقلالية وسط صعوبات الحياة اليومية.
كما أصبح تأمين المنازل بمنظومات الطاقة الشمسية إحدى أولويات كثير من السوريين المغتربين الذين يخططون للعودة والاستقرار في البلاد، في محاولة لضمان مستوى معيشة أكثر استقرارًا بعيدًا عن أزمة الكهرباء المزمنة.
يعيش محمد في أحد الأبنية بمنطقة الميسات في دمشق، مقابل منزل والديه، وقد ركّب ثلاثة ألواح شمسية لمنزله ولوحًا واحدًا لمنزل والديه، ويروي: “تبدّلت حياتنا منذ ذلك اليوم؛ أصبح بإمكاننا تشغيل الإضاءة، الثلاجة، والتلفزيون. صحيح أن التكلفة كانت مرتفعة نوعًا ما، لكنها غيّرت شكل الحياة في منزلنا تمامًا”.
ورغم توافر هذه الألواح في الأسواق السورية، إلا أن هذه المنظومات لم تكن في متناول جميع السكان بسبب تكلفتها العالية، ما جعلها حكرًا على فئات محدودة، لكن مع التغيرات الأخيرة وتوافر خيارات أكثر تنوعًا في أسواق إدلب، أصبح بإمكان سكان دمشق وحلب شراء ألواح شمسية وإنفرترات وبطاريات بأسعار أكثر معقولية، وتجهيز منازلهم بالطاقة الشمسية بشكل كامل، في ظل استمرار التقنين وارتفاع أسعار الكهرباء الحكومية.
ومن بين هؤلاء كريم، الذي يقطن في حي الحيدرية بحلب، وقد اشترى أربعة ألواح شمسية مع إنفرتر ومدخرتين من أسواق إدلب، مستفيدًا من فرق السعر، وقد مكّنه ذلك من تشغيل الإضاءة والثلاجة والتلفزيون طوال اليوم، مؤكدًا أن هذه الخطوة أضفت قدرًا أكبر من الاستقرار على منزله.
مشكلات الطاقة الشمسية
تكشف شهادات السكّان عن تباين كبير في القدرة على تركيب منظومات الطاقة الشمسية بين المقتدرين والفئات الأشد ضعفًا، فبحسب حديث روان، التي تقطن في مخيم اليرموك: “العائلات التي تتلقى دعمًا ماليًا من أقارب في الخارج أو تمتلك قدرة مادية، تمكّنت بالفعل من تركيب منظومات طاقة شمسية كاملة، أما العائلات غير الميسورة أو التي لا معيل لها فلا تستطيع التفكير بهذا الخيار أصلًا، وتعتمد فقط على بطاريات صغيرة وتشغيل “لدّات” للإنارة الأساسية”.
وتضيف أن وضع المخيم، على سبيل المثال، أكثر تعقيدًا من القابون، إذ إن البنية التحتية الكهربائية داخله شبه مدمّرة، والمحولات القديمة التي وُضعت مؤخرًا تسببت بأعطال واسعة نتيجة رداءة الأسلاك، ما أدى إلى تلف أجهزة كهربائية في عدد من المنازل. وفي ظل غياب محولات فعّالة، تلجأ بعض العائلات إلى مدّ خطوط كهربائية من خارج المخيم لمسافات طويلة فقط لتشغيل الحد الأدنى من الأجهزة كالسخان والغسالة والبراد، لأن البطاريات وحدها لا تكفي لتحمّل هذه الأحمال.
وفي حديثنا مع خالد، فني تركيب ألواح شمسية، أشار إلى أن السوق شهد ازدهارًا كبيرًا في الطلب على الألواح، لكنه يعاني أيضًا من تحديات تتعلق بالجودة والأسعار: “الكثير من الألواح المستوردة رديئة، ولن تعطي النتيجة المرجوة، وسيضطر الناس إلى شراء مدخرات وألواح جديدة خلال فترة قصيرة، أقل بكثير من المتوقع”.
ويضيف: “إن بعض الألواح المستعملة تُباع على أنها جديدة، ما يضع المستخدمين في مأزق بسبب كفاءة منخفضة لا تتجاوز 15٪ في بعض الحالات”، كما يشير إلى أن حتى أبسط المنظومات تحتاج إلى بطاريتين، وإنفرتر، وخطوط وقواعد حديدية، ما يجعل التكلفة النهائية مرتفعة نسبيًا بالنسبة لكثير من الأسر.
تأمين المياه في ظل الجفاف
تحت وطأة الجفاف الممتد وتراجع الهطولات وتضرّر شبكات الضخ، يبحث السوريون عن طرق متباينة لتأمين المياه لمنازلهم، تجمع بين حلول طارئة وأخرى مكلفة أو غير آمنة،في المدن الكبرى كدمشق وحلب وحمص، حيث تنقطع المياه يومًا كاملًا وتصل في اليوم التالي بشكل محدود، أصبحت الخزّانات البلاستيكية والخرسانية—سواء الموضوعة على الأسطح أو المدفونة تحت الأرض—أداة أساسية لضمان حدٍّ أدنى من المياه في ظل وصول غير منتظم من الشبكات أو صهاريج التوزيع.
أمّا في الأرياف، حيث تكاد حصة الشبكة تكون معدومة وتصل المياه إلى المنازل يومًا واحدًا فقط في الأسبوع، يعتمد السكان بشكل شبه كامل على الصهاريج الخاصة، يقول أحمد أحد سكان “جديدة عرطوز” إن عائلته تنتظر صهريج المياه كل يومين لملء خزان المنزل، مشيرًا إلى أن أي تأخير يجبرهم على تشديد إجراءات الترشيد،ويأتي هذا الاعتماد الواسع على الصهاريجي رغم ارتفاع الأسعار وعدم ضمان صلاحية المياه للشرب دون معالجة منزلية.
وفي درعا، دفع تراجع غزارة الينابيع وجفاف عدد منها إلى توسّع لافت في حفر الآبار، إذ لجأ أصحاب الأراضي الزراعية إلى حفر آبار جديدة وتشغيل المضخّات العاملة بالديزل أو بالطاقة الشمسية، ما وفّر حلاً سريعًا للري، لكنه ساهم—بحسب مدير الموارد المائية—في استنزاف المخزون الجوفي عبر الاستجرار المفرط، وهو ما انعكس مباشرة على مصادر مياه الشرب.
هذا الاستنزاف لا يقتصر أثره على الأراضي الزراعية فحسب، بل ينعكس أيضًا على العائلات التي تعتمد على الصهاريج لتأمين حاجاتها المنزلية، إذ تتراجع قدرة الآبار على تزويد الصهاريج بالكميات المطلوبة، مما يزيد من ضعف الإمدادات وارتفاع أسعار المياه. وفي محاولة للحدّ من تفاقم الأزمة، أصدرت المحافظة مؤخرًا قرارًا بإيقاف جميع أعمال الحفر المخالفة تحت طائلة المساءلة.
الشتاء السوري الغلاء والبدائل
كانت “الصوبيا” المدفئه التي تعمل بالمازوت جزءًا ثابتًا من مشهد الشتاء السوري قبل الثورة؛ وقد ،فهي وسيلة التدفئة المتاحة في معظم البيوت، ولم يكن الحصول على المازوت صعبًا ، مع اندلاع الثورة تغير المشهد بالكامل فأصبح الحصول على المازوت حلماً نادرًا، وبات امتلاك الصوبيا محصورا بالعائلات الميسورة القادرة على تأمين المازوت.
كما كانت حصص المازوت المدعومة من الحكومة لا تتجاوز غالبًا خمسين لترًا، وتوزع بشكل عشوائي وغير منتظم لتصل إلى أقل من ثلث السكان، مما جعل الشتاء معاناة يومية لملايين الناس، ودفع غالبية السوريين إلى البحث عن بدائل أقل أمانًا وأكثر تكلفة.
وقد لجأت الأسر لمواجهة البرد إلى وسائل مختلفة، في بعض أحياء دمشق، اعتمدت العائلات على مدافئ الغاز، رغم صعوبة الحصول على المادة التي غالبًا ما تصل عبر رسائل حكومية، كما استخدمت بعض الأسر المدافئ الكهربائية التي تعمل فقط عند توافر الكهرباء رغم خطورتها في بعض الأحيان، أما في الجنوب السوري، فكان الحطب خيارًا مكلفًا بعد أن ارتفع سعره بشكل جنوني في السنوات الأخيرة.
تتنوع خيارات التدفئة بحسب الإمكانات، إذ تُجبر الأسر على الموازنة بين شراء المازوت أو تأمين حاجات أساسية أخرى كالطعام، بينما تظل البدائل مثل الفحم والقشور والحطب مكلفة أو محفوفة بالمخاطر الصحية، وتلجأ العائلات الأشد فقرًا إلى وسائل أكثر صعوبة وخطورة، مثل إشعال الملابس القديمة وأكياس النفايات لتدفئة منازلهم أو مخيماتهم ، تقول رشا وهي أم لطفلين: “لا أملك القدرة على شراء الحطب، لذلك أضع أكياس النفايات والملابس المهترئة داخل المدفأة للتدفئة”
ورغم الإعلان عن تخفيض سعر المازوت من 0.95 إلى 0.75 دولار لليتر، يظل الواقع المعيشي للأسر السورية صعبًا، إذ لا يغطي التخفيض سوى جزء محدود من تكاليف التدفئة، فمثلاً، تبلغ كلفة 225 لتر مازوت شهريًا — وهي الكمية التي تحتاجها الأسرة للحصول على الحد الأدنى من الدفء — نحو 2,025,000 ليرة سورية، أي أكثر من ضعفي متوسط الراتب الشهري البالغ نحو مليون ليرة (90 دولارًا تقريبًا)، ما يجعل مواجهة الشتاء عبئًا ثقيلًا على الأسر.
أثبت السوريون قدرة ملحوظة على الصمود والابتكار، عبرتطوير حلول محلية لتأمين الكهرباء والمياه والدفء، واعتماد البدائل المتاحة رغم صعوبتها، ومع بوادر تحسن الخدمات وبداية تنفّس سوريا بعد عقود من الذل والحرمان، يستبشر السوريون بأمل حقيقي في حياة أكثر كرامة واستقرارًا، مؤمنين أن التكيف والإصرار على الاستمرار هما مفتاح تجاوز الأزمات اليومية وبناء مستقبل أفضل لأسرهم وأطفاله.
