مع افتتاح المتحف المصري الكبير عاد سؤال الهوية ليطلّ بقوة على الساحة المصرية، كان النقاش العام يتجه نحو الاحتفاء بالحضارة الفرعونية باعتبارها جذر الهوية المصرية الحديثة، فيما شعرتُ -وأنا أتابع هذا الحوار- أن الأسئلة أعمق بكثير من مظاهر الاحتفال، وأنها تحتاج إلى صوت يمتلك القدرة على تفكيك هذه الإشكالات من جذورها. وهكذا وجدت نفسي أعود -بشكل طبيعي- إلى كتاب الدكتور علي شريعتي “العودة إلى الذات”.
لم أستدعِ شريعتي كشخص، بل استدعيت كتابه ليجلس معي أمام هذه الأسئلة، فقد كنت أقرأ وأدوّن، وأقارن بين ما يقوله وما يجري في مصر الآن.
شيئًا فشيئًا، بدا كأن شريعتي يجيب عن هذه الإشكالات بوضوح لافت، رغم أن كتابه كُتب في سياق مختلف تمامًا، وما يثير الانتباه أن الأفكار التي طرحها ما زالت قادرة على إنارة مساحات واسعة من النقاش المصري الراهن.
يؤكد شريعتي في “العودة إلى الذات” أن الهوية ليست ما نضعه في المتاحف، بل ما نعيشه في حياتنا اليومية. ليست الهوية هي الماضي الذي تبقى منه آثار وتماثيل، بل ذلك الجزء من الذات الذي ما يزال حيًا في الوعي الشعبي، يصنع المعنى، ويوجه السلوك، ويشكّل الضمير الجمعي، كان يفرّق بجلاء بين التراث والهوية: فالتراث واسع يتجاور فيه الحيّ والميت، أما الهوية فلا تضم إلا ما هو حيّ وفاعل.
السلطات المصرية تعتقل الشاب أحمد رضا السمالوسي بعد تلاوته آيات من سورة “غافر” بصوت مرتفع داخل المتحف المصري الكبير، ونشره للمقطع عبر مواقع التواصل. pic.twitter.com/6eGazEiLWj
— نون بوست (@NoonPost) November 11, 2025
وعندما أسقطتُ هذا التصور على الحالة المصرية بدا المشهد أكثر وضوحًا، فالفرعونية جزء عظيم من التراث المصري، ولا يمكن لمصري أن ينكر فخره بها، لكنها ليست المكوّن الذي يتحرك اليوم في حياة الناس اليومية. لغتهم، وقيمهم، وضميرهم الديني، وتقاليدهم وعلاقاتهم، ورؤيتهم للعالم.. كلها تشكّلت في سياقات لاحقة للعصر الفرعوني، ما نراه في المتحف جزء من الذاكرة، لكنه ليس جزءًا من الهوية الفاعلة الآن.
واصلتُ القراءة، فوجدتُ شريعتي يعيد المعنى ذاته بصياغة أخرى: الأمم لا تقوم على الماضي بوصفه ماضيًا، بل على الجزء الذي يمكن أن يتحول إلى طاقة. الماضي الذي لا ينتقل من المتحف إلى الشارع يظل ماضيًا فقط. الهوية الحيّة هي تلك التي تُبنى من المكوّنات التي يعيشها الناس بالفعل، لا من المكوّنات التي تعجبهم في لحظة احتفالية.
بعد عقدين من الانتظار وتكاليف تجاوزت المليار دولار، يفتح المتحف المصري الكبير أبوابه وسط تساؤلات حادّة حول أولويات الإنفاق في بلد يرزح تحت وطأة الديون واتساع رقعة الفقر. pic.twitter.com/zLFuK67bP5
— نون بوست (@NoonPost) November 2, 2025
وبهذا المعنى، ساعدني شريعتي – عبر كتابه – على رؤية أن الهوية المصرية الحيّة اليوم تتشكل من عناصر أخرى واضحة: الدين الذي يشكل الضمير الجمعي، والعربية التي تظل وعاء الوعي والمخيال، والوطنية الحديثة التي وُلدت مع كفاح المصريين في القرن الماضي، والشراكة العميقة بين المسلمين والمسيحيين، والروحانية المصرية الخاصة التي تتجلى في تفاصيل الحياة اليومية. هذه العناصر ليست مجرد طبقات من التاريخ، بل هي المكوّنات التي يتحرك بها المصري الآن، ويعبّر من خلالها عن ذاته، ويفهم بها معنى الوطن والانتماء.
وخلال القراءة، بدا لي أن شريعتي يريد أن يذكّرنا بأن الذاكرة ليست مشكلة في حد ذاتها، وأن الاحتفاء بالمتحف المصري الكبير أمر طبيعي وضروري، لكن الخطر يكمن في تحويل الذاكرة إلى هوية، وفي الظن أن الماضي قادر وحده على صنع المستقبل، فالمتحف مشروع للذاكرة، لا مشروع للهوية، والهوية تُصنع في المدارس والبيوت واللغة والعلاقات اليومية، لا في القاعات اللامعة.
وفي خواتيم الكتاب، شعرت كأن شريعتي يضع المفاتيح كلها في جملة واحدة: العودة إلى الذات ليست عودة إلى الماضي كله، بل إلى ذلك الجزء من الماضي والحاضر الذي ما يزال حيًا ويمنح الإنسان القدرة والطاقة، وهذا بالضبط ما تحتاجه مصر اليوم: أن تفرّق بين الذاكرة التي تبعث الفخر، والهوية التي تبعث الحياة.
بدأت قراءة الكتاب بحثًا عن إجابة لأسئلة الحاضر، وانتهيت إلى أن العودة إلى الذات لا تعني العودة إلى ما كان، بل إلى ما نعيشه الآن وما هو قادر على الإلهام، والهوية المصرية اليوم أحوج ما تكون إلى هذا الفهم: إلى أن تُبنى على ما يتحرك في الناس، لا على ما يلمع في المتحف. فالمستقبل لا تصنعه المومياوات، مهما كانت مهيبة، وإنما تصنعه الهوية الحيّة التي تمنح الناس وضوح الطريق وقدرة التجديد.
