بعد أكثر من عقد على اندلاع الثورة السورية وما خلّفته من تحوّلات عميقة في الواقعين السياسي والاقتصادي، يبرز سؤال ملحّ: هل تمتلك سوريا اليوم القدرة على إطلاق نهضتها الخاصة والشروع في إعادة بناء اقتصادها؟
فألمانيا التي نهضت من تحت ركام الحرب العالمية الثانية، ورواندا التي تجاوزت جراح الإبادة لتتحول إلى أحد أسرع الاقتصادات نموًا في القارة الإفريقية، تقدّمان نموذجين مختلفين لمسارات النهوض. ومن خلال استعراض الخطوات الإصلاحية السورية الجارية، نحاول تقييم فرص البلاد في استلهام عناصر النجاح من هذين النموذجين، ورسم ملامح الطريق الممكن نحو التعافي والاستقرار والنمو المستدام.
ماذا تحقق على الأرض؟
تخرج سوريا اليوم من سنوات الحرب مُثقلةً بإرثٍ ثقيل من الدمار الاقتصادي والانهيار المالي، لكنها في الوقت ذاته بدأت تشهد حراكًا إصلاحيًا واسعًا يُعيد رسم ملامح اقتصادها تدريجيًا، فمع توسّع مناطق الاستقرار وعودة المؤسسات الحكومية إلى العمل، بادرت الدولة إلى تنفيذ سلسلة تغييرات جوهرية تطال النظامين النقدي والمالي والمصرفي، وتحديث النظام الضريبي، إلى جانب تحرير الأسعار وجذب الاستثمارات وغيرها من الإجراءات الإصلاحية. وعلى الرغم من أن الطريق ما يزال طويلًا ومعقدًا إلى حدٍّ ما، فإن ما يجري على الأرض اليوم يُشير إلى بداية محاولة منظّمة لوضع قواعد وأُسس جديدة للاقتصاد السوري.
View this post on Instagram
أول هذه التحولات انطلق من بوابة السياسة النقدية، إذ أعلن مصرف سورية المركزي استعداده لطرح عملة جديدة، بهدف تحديث الكتلة النقدية واستبدال الأوراق التالفة وضبط السيولة دون زيادة العرض النقدي. ووفق الحاكم عبد القادر حصرية، فإن هدف الإصدار الجديد تعزيز الثقة بالليرة وإعادة تنظيم التداول النقدي ضمن رؤية أشمل لإصلاح المنظومة النقدية.
وفي تطور يُعد مفصليًا، استعادت سوريا اتصالها بنظام سويفت العالمي بعد توقف دام نحو 14 عامًا، ما فتح قنوات المراسلة المصرفية مع العالم، وسّهل الحوالات والتعاملات المالية الخارجية، وما اعتبره المركزي خطوة جوهرية لإعادة دمج الاقتصاد السوري مجددًا في المنظومة الاقتصادية الدولية.
القطاع المصرفي بدوره دخل مرحلة إصلاح غير مسبوقة، فقد أطلقت الحكومة خطة شاملة لإعادة هيكلة المصارف العامة وتحديث إدارتها، فيما أُلزمت البنوك التجارية بالاعتراف بخسائرها المرتبطة بالأزمة اللبنانية وتكوين مخصصات مقابلة، كما استُحدثت “هيئة ضمان الودائع” لحماية أموال المودعين ورفع مستوى الثقة بالنظام المصرفي.
أما على الصعيد المالية العامة، فقد أنجزت وزارة المالية مشروع قانون جديد لضريبة الدخل يقوم على مبادئ العدالة والبساطة والتنافسية، مع إعفاءات واسعة وتطبيق لنظام الفوترة الإلكترونية، بالإضافة إلى إنشاء محكمة ضريبية خاصة، كما أُقر مشروع قانون الضريبة على المبيعات تمهيدًا للانتقال إلى ضريبة القيمة المضافة وإلغاء رسم الإنفاق الاستهلاكي بعد أكثر من ثلاثة عقود.
وإلى جانب الإصلاح الضريبي، أصدرت هيئة المنافذ الجمركية “النشرة الموحدة” التي خفّضت الرسوم الجمركية بنسبة تصل إلى 60% دعماً للصناعة والزراعة وتحفيزًا للاستثمار.
بالتوازي مع هذه الخطوات، شرعت الدولة في تحرير تدريجي لأسعار عدد من السلع الأساسية، من الخبز إلى المحروقات والكهرباء، وذلك في إطار إعادة هيكلة الدعم التاريخي الذي استنزف الموازنة لسنوات طويلة، على الرغم أن هذا التحول ترك أثرًا مباشرًا على تكلفة المعيشة، تعتبره الحكومة خطوة ضرورية لضبط السوق، على أن يترافق مع شبكات حماية اجتماعية تخفف آثار الانتقال على الفئات الأكثر هشاشة.
على المستوى الداخلي، شهدت البلاد تنظيم حملات تبرع وطنية واسعة برعاية حكومية، جمعت نحو 637 مليون دولار حتى الآن، للمساهمة في إعادة الإعمار، كما أطلق “صندوق التنمية السوري” بمرسوم رئاسي، برصيد تعهدات نحو 85 مليون دولار، وذلك بهدف تمويل مشاريع إعادة الإعمار وخلق فرص العمل من خلال أدوات تمويل مبتكرة مثل القرض الحسن.
وفي مؤشر على بدء عودة الاستثمارات، كشف الرئيس الشرع أن سوريا استقطبت تدفقات استثمارية بلغت نحو 28 مليار دولار خلال عشرة أشهر، مدفوعة بالقانون الاستثماري الجديد، الذي رُحب به عربيًا ودوليًا، لكن التحدي الرئيسي، كما يؤكد الرئيس الشرع، يبقى في حسن التنفيذ وتوفير بيئة عمل مستقرة.
واستكمالًا لهذه التحولات، تم تعليق العديد من العقوبات الأمريكية والأوروبية، وكان آخرها تعليق واشنطن العمل بقانون قيصر لمدة 180 يومًا، ما يمثل تخفيفًا مهمًا للعقوبات المفروضة منذ سنوات طويلة.
وزارة الخزانة الأميركية تعلن تعليق العقوبات المفروضة بموجب قانون قيصر على سوريا، باستثناء بعض المعاملات التي تشمل روسيا و إيران. pic.twitter.com/utvUaMjhzp
— نون بوست (@NoonPost) November 10, 2025
ألمانيا: كيف نهض الاقتصاد من تحت الرماد؟
عندما انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945، كانت ألمانيا واحدة من أكثر الدول دمارًا في تاريخ الحروب الحديثة، إذ تحولت المدن الكبرى مثل دريسدن وكولونيا وهامبورغ إلى ركام بعد موجات كثيفة من القصف، ووصل حجم الدمار إلى حدّ أن عدد سكان كولونيا تراجع من 750 ألفًا قبل الحرب إلى أقل من 32 ألفًا فقط، أما إنتاج الغذاء فانخفض إلى نحو 51% من مستواه عام 1938، فيما انهار الإنتاج الصناعي إلى ثلث مستواه السابق.
بالنسبة للعملة الألمانية، فكانت بلا قيمة تقريبًا؛ فعلبة سجائر أمريكية كانت تساوي مئات الماركات في السوق السوداء، وانتشر أيضًا نظام المقايضة على نطاق واسع إلى الحد الذي دفع الاقتصادي، فالتر أوكن، لوصف الاقتصاد بأنه عاد إلى “حالة بدائية”.
في خضم هذا الواقع القاتم، بدأ سؤال كبير يطرح نفسه: هل كانت النهضة الألمانية اللاحقة مجرد نتيجة طبيعية لإعادة الإعمار؟ أم أنها نتيجة إصلاحات اقتصادية جذرية غيرت قواعد اللعبة؟، فقد انقسم الاقتصاديون طويلاً في تفسير ما سُمّي بـ“ المعجزة الاقتصادية” الألمانية، فهناك من رأى أن النمو السريع لم يكن معجزة بقدر ما كانت نتيجة طبيعية لمرحلة إعادة الإعمار، إذ إن تدمير جزء كبير من رأس المال يخلق حالة من التعافي السريع ويرفع الإنتاجية مؤقتًا.
في المقابل، اعتبر فريق آخر أن الانطلاقة الحقيقية بدأت مع الإصلاحات الاقتصادية الجذرية التي قادها لودفيغ إيرهادر عام 1948 والتي سنعود إليها بالتفصيل، غير أن الدراسة التي قدّمها ريتشارد رايشل، وهو أستاذ مشارك في الاقتصاد بجامعة إرلانجن في ألمانيا، حسمت هذا الجدل، إذ بيّنت أن إعادة الإعمار وحدها لا تفسّر النمو الهائل في الخمسينيات والستينيات، كاشفة عن “عائد نمو إضافي” بلغ نحو 1.5% ناتج مباشرة عن إصلاحات 1948.
شكّل الاقتصادي فالتر أوكن، قائد مدرسة فرايبورغ، حجر الأساس للنظام الجديد المعروف باقتصاد السوق الاجتماعي، وهو النموذج الذي أصبح لاحقًا العمود الفقري لنهضة ألمانيا، إذ كان أوكن يرى أن التعافي ممكن فقط عبر اقتصاد حر ومنافسة عادلة ومكافحة الاحتكار، بالإضافة إلى دور منضبط للدولة وحماية اجتماعية محدودة لا تقتل الحوافز، أما تلميذه لودفيغ إيرهارد، فكان هو الرجل الذي سيحول هذه المبادئ النظرية إلى قرارات اقتصادية غير مسبوقة.
في 20 يونيو 1948، أعلن إيرهارد عبر الإذاعة برنامجًا مزدوجًا قلب الاقتصاد الألماني رأسًا على عقب، إذ قام باستبدال الرايخ مارك بعملة جديدة هي المارك الألماني (DM)، وتقليص الكتلة النقدية بنسبة 93% التي كانت وراء التضخم وانهيار الثقة بالعملة.
وفي اليوم نفسه أيضًا، ألغى إيرهارد معظم ضوابط الأسعار والأجور، فانقلب المشهد الاقتصادي. امتلأت المتاجر بالبضائع بعد سنوات من الرفوف الفارغة، وعاد العمال إلى أعمالهم مع تراجع معدلات الغياب إلى النصف تقريبًا، وارتفع الإنتاج الصناعي بوتيرة متسارعة فتضاعف خلال ستة أشهر فقط، ثم بلغ ثلاثة أضعاف مستواه خلال عامين. وبحلول 1958، كان الإنتاج الصناعي قد أصبح أربعة أضعاف ما كان عليه في 1948، وأدى هذا القرار المفصلي إلى استعادة الثقة بالعملة وبآليات السوق، وأطلق واحدة من أسرع دورات الانتعاش الصناعي في التاريخ الحديث.
إلى جانب الإصلاحات، حصلت ألمانيا على دعم من خطة مارشال الشهيرة التي صاغها وزير الخارجية الأمريكي جورج مارشال، قُدم عبرها نحو 13.6 مليار دولار (ما يعادل 183 مليار دولار بأسعار 2025)، وحصلت وقتها ألمانيا على نحو 11% منها، لكن العديد من الاقتصاديين يجمعون على أن أثر خطة مارشال كان محدودًا في النهضة الألمانية، إذ لم تتجاوز مساهمتها 5% من الدخل القومي، كما أن النمو الكبير الذي شهدته ألمانيا بعد 1948، خاصة في الخمسينيات والستينيات، تجاوز بكثير ما يمكن تفسيره بإعادة الإعمار أو المساعدات.
لذلك، يُنظر إلى خطة مارشال باعتبارها عاملًا مساعدًا، لكنها لم تكن المحرّك الرئيسي لـ “ المعجزة الاقتصادية”، التي قامت بشكل رئيسي على استبدال العملة وتحرير الأسعار وخفض الضرائب واتباع اقتصاد السوق الاجتماعي وإعادة الثقة بالإنتاج والعمل.
رواندا: نموذج للتعافي السريع في بيئة فقيرة
قبل ثلاثين عاماً فقط، كانت رواندا عنوانًا لمأساة إنسانية غير مسبوقة بعد أن شهدت واحدة من أبشع الإبادات الجماعية في التاريخ الحديث، إذ ذهب ضحيتها نحو أكثر من 800 ألف شخص خلال مئة يوم فقط عام 1994، لكن استطاعت البلاد أن تعيد بناء نفسها من الصفر، وأن تتحول إلى أحد أسرع الاقتصادات نموًا في إفريقيا.
منذ تولّي بول كاغامي السلطة، ركزت القيادة الرواندية على ترميم النسيج الاجتماعي المنهار عبر تجريم خطاب الكراهية الحادة، وإلغاء مسميات “هوتو” و”توتسي” – الأكثرية والأقلية المتناحرتين سابقًا – في الدستور، وتنظيم محاكم محلية لإعادة الحقوق وجبر الضرر.
ساهمت هذه الخطوات في تحقيق وحدة وطنية حقيقية، وخلقت مناخًا من الاستقرار السياسي والأمني، وهو الشرط الذي تقول الحكومة إنه لا يمكن لأي نهضة اقتصادية أن تتحقق من دونه.
كما اعتبرت رواندا الفساد “العدو الأول للتنمية” وشنّت حملة صارمة ضده، وهذا ما جعلها تتصدر الدول الإفريقية في مؤشر مكافحة الفساد. كذلك شهد مناخ الأعمال تحسنًا جذريًا عبر تبسيط الإجراءات إلى درجة أن تأسيس شركة جديدة بات لا يستغرق سوى خمس ساعات فقط، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع عدد الشركات الجديدة إلى نحو 10 آلاف سنويًا.
وعلى الرغم أن 70% من السكان كانوا يعملون في الزراعة، إلا أن رواندا وضعت رؤية بعيدة المدى للانتقال نحو اقتصاد قائم على المعرفة والخدمات. وتُشير بيانات البنك الدولي إلى أن البلاد حققت نموًا اقتصاديًا بلغ نحو 7.8% في النصف الأول من 2025، بعد متوسط بلغ نحو 8.4 بين عامي 2022 و 2024، مدفوعًا بالاستثمار والخدمات والسياحة.
وفي قلب هذا التحول، حافظت رواندا على دور المركزي للزراعة، لكن أعادت تنظيم هذا القطاع وطورته بما رفع الإنتاج وحسّن مستويات المعيشة في الأرياف، وتحولت الزراعة لاحقًا إلى أحد محركات النمو الأساسية، وأسهمت في انتشال أكثر من مليون مواطن من الفقر في بلد يبلغ عدد سكانه نحو 14.6 مليون نسمة.
أيضًا، استغلت رواندا جمال طبيعتها لتصبح وجهة سياحية كبرى، حيث ارتفع عدد الزوار من 667 ألفًا عام 2010 إلى نحو 1.6 مليون سائح عام 2019، كما أنها استثمرت في “الدبلوماسية الرياضية” عبر إقامة شراكات مع أندية عالمية مثل أرسنال وباريس سان جيرمان، الأمر الذي عزز صورتها الدولية وجذب استثمارات جديدة.
وغطت شبكات الإنترنت فائق السرعة نحو 95% من البلاد، ووصلت نسبة الحصول على الكهرباء إلى 75%، بينما توسع التعليم والصحة بشكل كبير، حيث تم بناء آلاف الصفوف الدراسية، وخفض وفيات الأطفال وتحسين صحة الأمهات، كما تصدّرت رواندا العالم في تمكين المرأة، إذ تُشكل النساء اليوم نحو 64% من البرلمان.
أين تقف سوريا بين نموذج ألمانيا الصناعي ورواندا المؤسسي؟
تقدم التجربتان الألمانية والرواندية مسارين مختلفين للتعافي بعد الدمار والحرب، وتسلطان الضوء على فرص سوريا وتحدياتها في مرحلة إعادة البناء. وبالمقارنة بين النماذج الثلاثة يمكن تحديد نقاط القوة والقصور، ورسم صورة واقعية لموقع سوريا الحالي.
المصالحة الوطنية وبناء الدولة
اعتمدت رواندا نهضتها على المصالحة الوطنية وتحقيق العدالة كمدخل للتنمية، ما أعاد الثقة ونظّم عودة عشرات الآلاف من اللاجئين، بينما استفادت ألمانيا بعد الحرب من بيئة سياسية خارجية داعمة لاستقرارها الداخلي، حيث كان الحلفاء متفقين على ضرورة بناء دولة ألمانية مستقرة لمنع الفوضى في أوروبا.
أما سوريا، فعلى الرغم أن وجود نوع من التوافق الدولي على تحقيق الاستقرار فيها، إلا أنها تواجه مسارًا أكثر تعقيدًا، فالانقسامات الداخلية لا تُعالج فقط عبر الحوار ،بل تتأثر بعواملة خارجية فاعلة، وأبرز هذه التحديات هو الدور الإسرائيلي الذي يغذّي الانقسامات ويستخدم أوراق ضغط سياسية وأمنية لعرقلة أي مصالحة وطنية مستقرة، وهذا يجعل ملف المصالحة في سوريا أصعب من نظيره الرواندي والألماني، لكنه في الوقت نفسه يعتبر أكثر إلحاحًا، فنجاح أي إصلاح اقتصادي مشروط بعودة الثقة الداخلية.
الإصلاح النقدي
حققت ألمانيا قفزتها النوعية عبر الإصلاح النقدي الجذري التي أجرته عام 1948 والذي تضمن استبدال العملة وتحرير الأسعار بالكامل، ما أعاد الحركة التجارية وأنهى السوق السوداء. في الحالة السورية، سارت الحكومة مسارًا مشابهًا لكن بصورة تدريجية مقارنة بألمانيا.
من زاوية أخرى، أضاعت ألمانيا ثلاث سنوات بعد الحرب في تطبيق سياسات تقنين تقليدية قبل اتخاذ هذه القرارات الحاسمة، بينما تتجه سوريا مباشرةً نحو التحرير دون المرور بالمرحلة الألمانية الأولى، لكن الفارق الأساسي أن ألمانيا كانت تمتلك اقتصادًا صناعيًا عالميًا جاهزًا للنهوض، بينما تحتاج سوريا إلى بناء قاعدة إنتاجية جديدة من الصفر تقريبًا.
مكافحة الفساد
اعتبرت رواندا الفساد “العدو الأول للتنمية” واعتمدت سياسة صفر تسامح، ما جعلها الأولى في مكافحة الفساد على مستوى القارة الإفريقية. أما سوريا فقد بدأت خطوات مهمة في مكافحة الفساد، لكنها لا تزال في مرحلة بناء أدوات الرقابة مقارنة بالنموذج الرواندي الأكثر حزمًا.
تحرير الأسعار وهيكلة الدعم
حررت ألمانيا الأسعار دفعة واحدة، ما أنهى تشوهات السوق ورفع الإنتاج بسرعة، بينما ركزت رواندا على إعادة توجيه الدعم نحو الإنتاج والزراعة والرأسمال البشري بدل دعم الأسعار. أما في الحال السورية، فقد اعتمد مسارًا تدريجيًا لتحرير الأسعار، وهو خيار أقل صدمة اجتماعيًا لكنه أبطأ من حيث الأثر الاقتصادي، ويحتاج إلى موازنته بنظم حماية اجتماعية فعّال.
جذب الاستثمارات
استفادت ألمانيا من ثقة دولية عالية بعد 1948، ومن توجه الحلفاء لضخ استثمارات في اقتصادها لضمان التعافي الأوروبي. بينما في سوريا، على الرغم من تدفق بعض الاستثمارات الخليجية، لكن التحدي الأكبر هو تعزيز بيئة الأعمال إلى جانب توسيع الثقة الدولية التي ما تزال مرتبطة بالتحولات السياسية والاقتصادية.
الدعم الخارجي
على الرغم من أهمية خطة مارشال، إلا أن مساهمتها في نمو الاقتصاد الألماني لم تتجاوز 5% من الدخل القومي. بينما شكلت المساعدات الدولية نحو 30-40% من موازنة رواندا في مرحلة إعادة البناء. أما سوريا، فشهدت فقط تعليق العقوبات دون إلغائها حتى الآن، مع عدم وجود أي برنامج دعم اقتصادي شامل، ما يجعل ضغط الإصلاح الداخلي أكبر بكثير مقارنة بالتجربتين الألمانية والرواندية.
تظهر التجربتان الألمانية والرواندية أن إعادة الإعمار وحدها لا تكفي لإطلاق نهضة اقتصادية حقيقية، بل يجب أن تترافق مع إصلاحات اقتصادية عميقة وتحسين بيئة الاستثمار، كما تكشف تجربة رواندا أن المصالحة الوطنية وتحقيق العدالة أساس للتنمية وتحقيق النهضة الاقتصادية، لكن تُظهر أيضًا الاعتماد على المساعدات الخارجية ليس مسارًا مستدامًا؛ فالنمو فيها تراجع مباشرة عند انخفاض المنح، مما يثبت أن التنمية الحقيقة تقوم على بناء اقتصاد منتج لا على تدفقات خارجية ظرفية.
بالنسبة لسوريا، يبرز الطريق الأكثر واقعة في التركيز على نقاط القوة الوطنية كما فعلت وراندا عندما راهنت على الزراعة والسياحة والخدمات، إذ يمكن لسوريا أن تفعل الأمر نفسه بالاستثمار في القطاعات التي تملك فيها ميزة نسبية، وبفتح المجال أمام القطاع الخاص، وتبسيط الإجراءات وتشجيع الاستثمار الداخلي والخارجي، كما يُعدّ استقطاب الكفاءات السورية المهاجرة عنصرًا جوهرياً، خصوصًا أن البلاد تمتلك طاقات علمية وبشرية كبيرة باتت منتشرة حول العالم.
صياغة نموذج سوري للتعافي تتطلب رؤية اقتصادية واضحة، وتحقيق مصالحة وطنية وعدالة انتقالية، وإرادة سياسية تضع الإصلاح المؤسسي ومكافحة الفساد في صميم عملية إعادة البناء، بما يضمن انتقال سوريا من اقتصاد متكيّف مع الأزمات إلى اقتصاد قادر على تحقيق نمو مستدام.