ترجمة وتحرير: نون بوست
تخيّل للحظة أنك سمعت باسم لاري سامرز للمرة الأولى الأسبوع الماضي، عندما ظهر فيما أطلقتُ عليه “كوكب إبستين“. ذلك الكوكب هو نظام معلوماتي تُربط فيه جميع الأحداث العالمية الكبرى بمؤامرة للاتجار الجنسي يُفترض أنها تحكم العالم. إنه مكان مجازي، لكنه ليس خياليًا بالكامل يمكنك أن تجده على يوتيوب وفي بعض زوايا تيك توك ومنصات التواصل الاجتماعي الأخرى.
وبصفتك مواطنًا مطّلعًا نسبيًا على “كوكب إبستين”، فقد علمت مؤخرًا أن سامرز كان مهندسًا رئيسيًا لسياسات اقتصادية اعتمدها ثلاثة رؤساء، من بينهم بيل كلينتون، الذي كنتَ تشكّ أصلًا في ورود اسمه ضمن ملفات إبستين، تلك الملفات التي تنتظر، بشيء من نفاد الصبر، إن لم يكن بتفاؤل، أن تكشف عنها الحكومة كاملة.
كما علمت أن سامرز، الذي كان يتواصل مع إبستين حتى يوليو/ تموز 2019، شغل سابقًا منصب رئيس جامعة هارفارد، واستغل نفوذه الواسع، ليس فقط من أجل الحصول على تمويل لمشاريع شخصية، من بينها مبادرة شعرية قادتها زوجته، بل لتوجيه مسار التعليم العالي في الولايات المتحدة ككل.
كما علمت أن هذا الليبرالي المخضرم بدا وكأنه يسعى إلى إقامة علاقة عاطفية مع إحدى المتدربات، وكان يلجأ إلى جيفري إبستين طلبًا للنصيحة في هذا الشأن. وقد علمت أن المرأة المعنية هي ابنة نائب وزير المالية الصيني السابق. وربما سمعت أن سامرز وإبستين استخدما اسمًا حركيًا لهذه المرأة الآسيوية “بيريل” (الخطر)، في إشارة محتملة إلى “الخطر الأصفر“. (بعد نشر تلك المراسلات، أصدر سامرز بيانًا قال فيه إنه “يشعر بخزي عميق” بسبب علاقته بإبستين).
وماذا علمت عن أنشطته الأخيرة؟ حتى الأسبوع الماضي، كان سامرز عضوًا في مجلس إدارة “أوبن إيه آي”، الشركة التي يُنظر إليها على أنها ستشكّل ملامح مستقبل الولايات المتحدة. والأهم من ذلك كله، فقد علمت أن أقوى الرجال نفوذًا في البلاد هم أكثر بؤسًا وجشعًا وفسادًا منك أو من أي شخص تعرفه.
ما الاستنتاجات التي يمكن أن تستخلصها من هذه الأشياء التي عرفتها عن سامرز، والتي جمعتها على الأرجح من مقاطع قصيرة على يوتيوب، ومن ويكيبيديا، ومن شات جي بي تي؟ والأهم من ذلك، إذا كنت تعتبر نفسك شخصًا عقلانيًا يستنتج بناءً على الأدلة المتاحة أمامه، ما الذي ينبغي أن تصدّقه؟
خلال الأشهر القليلة الماضية، كنت أحاول أن أقيس إلى أي مدى أصبح الجمهور الأمريكي مقتنعًا بأن هناك جماعة من المتحرشين بالأطفال تدير العالم. وتُظهر استطلاعات الرأي أن نسبة كبيرة من الشعب تعتقد أن الحكومة تخفي معلومات عن عملاء إبستين وعن وفاته.
لكن هناك فرق بين الشك في وجود تستر، وبين الانغماس الكامل في نظرية مؤامرة على نمط “بيتزا غيت”، والتي تربط بين سامرز وإبستين وترامب وبيل كلينتون والموساد، والصعود المفاجئ لصناعة الذكاء الاصطناعي، والتي يبدو الآن أنها تدعم جزءًا كبيرًا من الاقتصاد العالمي، ثم الاستنتاج بأن مجموعة سرية من الأوليغارشيين تحكمنا جميعًا.
هناك مؤشرات على أن “كوكب إبستين” بدأ يطغى على المشهد العام. صوّت الكونغرس، على سبيل المثال، بـ427 صوتًا مقابل صوت واحد، لإلزام وزارة العدل بنشر “جميع السجلات والوثائق والمراسلات ومواد التحقيق غير المصنّفة” المرتبطة بقضية إبستين.
لعبت مارجوري تايلور غرين دورا بارزا في الدفع نحو هذه النتيجة. بعد أن كانت تحظى سابقًا بالاهتمام على مستوى الولايات المتحدة كمادة للسخرية، تحوّلت – قبل إعلانها المفاجئ يوم الجمعة عزمها الاستقالة في يناير/ كانون الثاني – إلى واحدة من أكثر الشخصيات السياسية شهرة في البلاد، وأخذت تحظى على نحو متزايد بقدر كبير من الاحترام.
كما يوحي سقوط شخصيات نافذة مثل سامرز، الذي بقي بعيدا عن الأنظار خلال الموجات الأولى لقضية إبستين، بوجود نوع من التراجع أو القبول بالأمر الواقع. وعلى المستوى الشخصي، لا أعرف أحدًا يعتقد فعليًا أننا وصلنا إلى نهاية القصة أو أن جميع المتورطين قد كُشفوا.
والأهم، أن دونالد ترامب، الذي اعتاد أن يصدق نحو ثلث الأمريكيين كل ما يقوله، لم يجد تقريبًا أي صدى لادعائه بوجود “خدعة إبستين”، أي الزعم بأن استمرار التركيز على القضية هو مؤامرة ديمقراطية تهدف إلى تشويه إدارته وصرف الانتباه عن الإنجازات “العظيمة” التي يقول إن الجمهوريين يحققونها. وعلى أقل تقدير، بدأ المسؤولون المنتخبون، بمن فيهم أولئك الذين كانوا خلال العقد الماضي أوفياء لترامب، مثل غرين، يدركون أن غضب الرأي العام في هذه القضية بات عاملًا لا يمكن تجاهله.
أعتقد أننا نعيش لحظة ثورية هادئة في الولايات المتحدة، بدأت مع الجائحة والاحتجاجات التي أعقبت مقتل جورج فلويد على يد شرطي. (أعتقد أن هذا المقال هو في المقام الأول محاولة لتوثيق وقائع هذه الثورة).
يمكن تتبّع العوامل الممهِّدة لهذه الثورة إلى أبعد ما يمكن في الماضي، لكن التحوّل أصبح جليًا خلال فترات الإغلاق، مع خروج الملايين إلى الشوارع، ومشاهد “الاستسلام” المزعوم لأعضاء الكونغرس الجاثين على ركبهم في مبنى الكابيتول، ونشر شركات كبرى رسائل خجولة عن “العدالة الاجتماعية”على منصات التواصل الاجتماعي. جرى كل ذلك بالتوازي مع معارك خاضتها الولايات الجمهورية مع الحكومة حول الحجر الصحي ثم لاحقًا إلزامية اللقاح. لم يغير هذا المشهد النظام العالمي، لكنه دمّر ما تبقّى من سلطة “المؤسسة” في هذا البلد.
واتخذت الاضطرابات اللاحق أشكالًا متعددة، منها تراجع مستمر وحاد في الثقة بوسائل الإعلام التقليدية، وهجمات على الجامعات من اليسار واليمين. كما تم توجيهها أيضًا نحو حملة ترامب لعام 2024، والتي لم تكن مرتبطة بقضية محددة قدر ارتباطها بوعد متجدد وأجوف بتجفيف المستنقع مرة أخرى.
ما كانت تلك الطاقة التمرّدية تبحث عنه هو نظرية شاملة تفسّر العالم، ويفضَّل أن تكون غير مرتبطة بالانتماءات الحزبية أو السياسة التقليدية، وقد وفّر إبستين ذلك. وحتى لا ننسى، فقد مات إبستين منذ أكثر من ست سنوات، ورغم أن الجمهور لم ينس القصة، فإنها لم تعد تشكل محورا للاهتمام، إلى أن عاد كلٌّ من غرين وتوماس ماسي، النائب عن كنتاكي، وبعض السياسيين الآخرين للحديث مجددًا عن ملفات إبستين. لم تُسهم الاستجابة الصارمة من إدارة ترامب في تهدئة الأمور. كما لعبت حرب غزة وظهور معلقين من وسائل الإعلام الجديدة دورًا في تأجيج تساؤلات الأمريكيين حول نفوذ إسرائيل في واشنطن.
قبل أكثر من شهر، أشرتُ إلى أنه “على كوكب إبستين، يُقدَّم كل ما يحدث – اغتيال تشارلي كيرك، الحرب في غزة، قمع إدارة ترامب لحرية التعبير – بوصفه دليلًا على أن البلاد تُدار بالابتزاز، والتحرّش بالأطفال، والولاء لإسرائيل. ولا أعتقد أن عددًا كبيرًا من الأمريكيين يتبنّون كل جزئية من هذه الرواية، كما أتخيل أن كثيرين سيشعرون، على حق، بالصدمة من معاداة السامية الضمنية والصريحة في هذا التصور للعالم”.
لكنني، عند مراجعة الأمر الآن، أخشى أنني قلّلت من نسبة الأمريكيين الذين يؤمنون بكل ذلك فعلًا. لا أملك يقينًا في هذا الشأن، بطبيعة الحال، إذ لا توجد وسيلة دقيقة لقياس منسوب الغضب والارتياب. ولا أعلم كذلك كيف يمكن لمجتمع أن يواصل العمل بشكل طبيعي إذا كان جزء لا بأس به من مواطنيه يقيم الآن على “كوكب إبستين” ويسعى إلى تقويض كل المؤسسات الأمريكية القائمة.
ما الذي سيأتي بعد ذلك؟ إذا كنت ترى أن الحضور الكثيف لسامرز في ملفات إبستين يدل على أن كلًا من هارفارد و”أوبن إيه آي” مخترقتان جوهريًا من شبكة للاتجار الجنسي بالأطفال، وأنهما بالتالي يستحقان الإزالة بشكل كامل، فما الذي ستضعه بديلًا عنهما؟
لقد كانت غرين الشخصية السياسية الأكثر استفادة من فوضى إبستين، واستقالتها المفاجئة أضافت فصلًا جديدًا لسردية المؤامرة على “كوكب إبستين”. أمريكا تحب المنشقين المظلومين، وابتعاد غرين عن ترامب، إلى جانب نبرتها الجديدة الأكثر اتزانا في المقابلات الإعلامية الكبرى، أو أمام الكابيتول الأسبوع الماضي، وهي محاطة بالناجين من قضية إبستين، حوّلها من موضوع للسخرية إلى واحدة من أبرز الأعضاء في مجلس النواب.
في جولتها الإعلامية الأخيرة، ركّزت على نقص الرعاية الطبية للطبقة العاملة وإخفاقات قانون الرعاية الصحية الميسرة. وفي أوائل أكتوبر/ تشرين الأول، خلال إغلاق الحكومة، خالفت الحزب الجمهوري وقالت إنها ستتفاوض مع الديمقراطيين للحفاظ على الاعتمادات الضريبية الحيوية لتخفيض تكاليف الرعاية الصحية. كما انتقدت حزبها لتخليه عن “العمال”.
وعلى الرغم من أن موقفها من النقابات العمالية ليس واضحًا، يبدو أنها تصوغ شعبوية مناهضة لترامب، تنحاز للعزلة في السياسة الخارجية، وتوجه رسالتها إلى الطبقة العاملة والمتوسطة. وقد صاغت هي وماسي مجموعة جديدة من الأولويات ومعايير الاختبار للمحافظين، حيث السؤال الأكثر أهمية هو شعورك تجاه إسرائيل و”كوكب إبستين”.
هل يمكن لغرين، بعد تحرّرها من الكونغرس، أن تصبح العنصر الجاذب الذي يوحّد بين اليمين واليسار الشعبوي؟ ربما لا. لكن لن يفاجئني إذا ترشحت للرئاسة في 2028، ربما كرئيسة لحزب “أمريكا أولًا”.
في بيان عن استقالتها المرتقبة، دانت “المجمع الصناعي السياسي لكلا الحزبين”. ولن يصدمني إذا اختارت زميلًا من اليسار الثوري ليترشح معها، كما حصل في المؤتمر الصحفي الأسبوع الماضي، حيث انضم إليها النائب رو خانا، أحد أبرز شركائها في مشروع القانون الأخير حول ملفات إبستين. ومن المؤكد أن حملة كهذه ستتركز على إبستين وإسرائيل، وستدعو إلى رؤية جديدة للبلاد تطرد ما وصفته غرين بـ”الخونة الذين يخدمون الدول الأجنبية ومصالحهم”.
كيف ستواجه هذه القائمة، على سبيل المثال، قائمة ديمقراطية تقليدية يقودها وجه مألوف مثل بيت بوتيجيج أو غافن نيوسوم؟ وكيف ستتصدى هذه الحملة التي تتخذ شكل حدوة حصان، لمنافس مثل جيه دي فانس؟ ربما لن يكون ذلك بشكل جيد، فالجمود السياسي ونظام الحزبين ما زالا قوتين راسختين، رغم ثورة إبستين التي تنتشر على كل هاتف ذكي في البلاد.
لكن في السنوات القليلة المقبلة، سيظهر المزيد من السياسيين الذين يتبنّون مواقف هذه التحالفات: عزلة في السياسة الخارجية وشعبوية اقتصادية. حتى زهران ممداني، الذي قال في مناظرة انتخابية إنه لن يزور إسرائيل لأنه سيكون منشغلاً بمشاكل نيويورك – والذي حقق إنجازًا غير متوقع يوم الجمعة، حين نجح في كسب ود الرئيس في المكتب البيضاوي – قد التزم في حملته بنسخة من هذه المبادئ.
وما يشير إليه ذلك هو أن الحياة السياسية بعد ترامب ستتحدد بتركيبات أيديولوجية غير تقليدية، بعيدًا عن الخطوط السياسية للسنوات العشرين الماضية. ويبدو أن إعادة الاصطفاف المفاجئة أكثر احتمالًا من تواصل الاستقطاب. (من الصعب تخيل حملة على شكل حدوة حصان تنحني بالتساوي نحو اليسار واليمين. الأرجح أن تنحني نحو القومية مع بعض الشعارات حول توسيع شبكة الأمان الاجتماعي).
بعض المفاجآت الناتجة عن هذا الاصطفاف، مثل فوز ممداني غير المتوقع، ستثير الأمل والخوف معًا، بينما يحاول الناس التعامل مع ما هو غير متوقع. لكن من الصعب التنبؤ بالتحالفات القادمة أو بالنظام الجديد الذي ستؤدي إليه.
المصدر: نيويوركر