بينما تحاول إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الإمساك بخيوط الأزمة السودانية واحتواء دوامة الاقتتال التي بلغت ذروتها في مأساة الفاشر، عاد اسم مسعد بولس ليبرز في الواجهة باعتباره أحد أبرز المسؤولين المعنيين بالملف.
فالرجل الذي يشغل رسميًا منصب المبعوث الأمريكي الخاص للشؤون الإفريقية، ويُعرَف بصفته رجل الأعمال اللبناني وصهر ترامب، وجد نفسه مجددًا في قلب مشهد سياسي شديد التعقيد، تتداخل فيه الخرائط الإفريقية مع حساسية التوازنات الشرق أوسطية.
كان يُتوقّع أن يتقدّم بولس إلى واجهة صنع القرار في الملفات الشرق أوسطية فور عودة ترامب إلى البيت الأبيض، خاصة بعد الترويج له في الأيام الأولى بأنه “كبير مستشاري الرئيس في الشرق الأوسط”.
ورغم الحفاظ على هذه الصفة البروتوكولية، فإن الواقع داخل الإدارة أوضح أن الدور الفعلي في ملفات الشرق الأوسط ذهب إلى ستيف ويتكوف، في خطوة بدت كاستجابة لتخوّفات إسرائيلية من أن تؤثر خلفية بولس العربية على موقعه في الملفات المرتبطة بالاحتلال.
وعلى الرغم من التعويل الكبير الذي صاحب دخوله إلى الإدارة، سواء من دوائر عربية رأت فيه نافذة محتملة للتأثير على سياسة واشنطن، أو من أطراف أمريكية اعتبرته جسراً لفهم أكثر اتزانًا للمنطقة؛ إلا أنّ حضوره العملي بقي محدودًا. حتى في إفريقيا، وبشكل خاص في الملف السوداني الذي تحوّل إلى محور اهتمام دولي، ما يزال مستوى انخراطه دون سقف التوقعات لشخصية تمتلك هذا القرب السياسي والعائلي من مركز القرار.
ومع ذلك، يبقى مسعد بولس لاعبًا قيد الترقّب: مسؤولًا ذا أصول عربية، قريبًا من دائرة النفوذ الأولى في البيت الأبيض، لكنه ما يزال يقف في مساحة رمادية بين الدور المفترض والدور القابل للقياس، في انتظار ما ستكشفه تطورات المرحلة المقبلة في كل من السودان والشرق الأوسط.
من لبنان إلى العالم عبر الولايات المتحدة
يذهب مسعد بولس في جذوره إلى بلدة كفر حاتا في قضاء الكورة شمال لبنان، حيث وُلد عام 1971 لأسرة أرثوذكسية لعب بعض أفرادها أدوارًا محدودة في السياسة اللبنانية، بينما ارتبطت عائلته بالمشهد العام من بوابة أخرى عبر والد زوجته، أحد الممولين البارزين للتيار الوطني الحر، وقد شكلت هذه الخلفية اللبنانية المتشابكة مع تقاليد العمل العام جزءًا من البيئة الأولى التي انطلق منها قبل أن تتغير مسارات حياته كليًا.
في سنوات مراهقته، انتقل بولس إلى ولاية تكساس في الولايات المتحدة، حيث أكمل دراسته الثانوية ثم الجامعية، قبل أن يحصل على شهادة في القانون من كلية الحقوق في جامعة هيوستن. كانت هذه الدراسة –كما يروي مقربون منه– محطة مفصلية فتحت أمامه أبوابًا واسعة في عالم الأعمال وفي الشبكات السياسية التي سيقترب منها لاحقًا.
بعد تخرّجه، اختار بولس العودة إلى أعمال العائلة، ليتولى لاحقًا منصب الرئيس التنفيذي لشركة SCOA Nigeria، أحد أكبر التكتلات الاقتصادية في غرب إفريقيا، والمتخصصة في توزيع السيارات والمعدات الصناعية.
وتشير تقارير اقتصادية إلى أن قيمة هذا التكتل تتجاوز مليار دولار، ما جعل بولس لاعبًا مؤثرًا في اقتصاد المنطقة، وواحدًا من رجال الأعمال الذين يجمعون بين الخبرة الغربية والامتداد الأفريقي.
لم تكن مسيرته المهنية فقط بوابته نحو الظهور، بل امتدت حياته الشخصية أيضًا إلى فضاء عابر للحدود؛ فقد تزوّج من سارة بولس، سيدة الأعمال المعروفة ومؤسسة جمعية الفنون المسرحية في نيجيريا، وصاحبة امتياز “Cred International Lagos Island”، وأنجبا أربعة أبناء.
منح هذا الامتزاج بين البيئات اللبنانية والغربية والأفريقية بولس شبكة اجتماعية واقتصادية واسعة، ساعدته لاحقًا في التحرك بثقة داخل دوائر سياسية معقدة. ويصف البروفيسور حبيب البدوي، أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية، قصة بولس بأنها نموذج استثنائي لـ”نجاح مهاجر”، مشيرًا إلى أن دراسته للقانون في هيوستن ثم قيادته لشركة دولية كبرى “أسهمتا في صقل قدراته في التفاوض بين الثقافات المختلفة، وهي المهارة التي سمحت له بأن يصبح لاحقًا حلقة وصل سياسية قادرة على التحرك بين عوالم متعددة”.
محاولات سياسية متشعبة في الساحة اللبنانية
يُعدّ الحضور السياسي لمسعد بولس في لبنان واحدًا من أكثر الجوانب غموضًا في مسيرته، إذ ظل يتحرك في هامش السياسة اللبنانية دون أن يستقر في موقع واضح أو يعكس انحيازًا ثابتًا لتيار بعينه.
ورغم أن بداياته السياسية ارتبطت بتحالفات مع التيار الوطني الحر، مستفيدًا من علاقات عائلية وامتداداته في نيجيريا، فإن مساره اتخذ لاحقًا منحنيات مختلفة مع تغير طبيعة الاصطفافات في بيروت.
سعى بولس في مرحلة مبكرة إلى دخول البرلمان اللبناني عبر دائرة الكورة، قبل أن ينسحب لصالح لائحة تضم التيار الوطني الحر، وهو التيار الذي كان يمثل مصالحه في نيجيريا حين كان يشرف على أعمال العائلة هناك. لاحقًا تحوّلت بوصلته السياسية نحو سليمان فرنجية، فوجد نفسه قريبًا من تيار “المردة” الحليف المسيحي لحزب الله.
ورغم هذا التاريخ من التحالفات المتبدلة، حرص بولس على تقديم نفسه كشخصية غير منخرطة حزبيًا، لكن في الوقت ذاته يمتلك شبكة علاقات تمتد عبر معظم الأطياف المسيحية في لبنان، من القوى القريبة من حزب الله وصولًا إلى القوى المناهضة له. ويُنظر إلى قدرته على التواصل في بيئة سياسية شديدة الانقسام كمؤشر على شخصية مرنة تجيد الحركة بين خطوط التماس التقليدية.
وتُظهر هذه الازدواجية قدرة على إدارة توازنات معقدة نادرًا ما تتوافر لشخصيات لا تشغل مواقع رسمية في الدولة اللبنانية، ما يعكس خليطًا من النفوذ العائلي، والامتداد الاقتصادي، والعلاقات العابرة للطوائف.
وهكذا، فإن الدور السياسي لبولس في لبنان لم يتحول يومًا إلى مشروع سياسي واضح، لكنه شكّل رصيدًا من العلاقات المتنوعة، مكّنه لاحقًا من دخول الدوائر السياسية الأمريكية بوصفه شخصية قادرة على فهم التعقيدات اللبنانية والإقليمية، من دون أن تكون محسوبة بشكل كامل على أي محور ثابت.
وجه عربي داخل ماكينة ترامب الانتخابية
برز اسم مسعد بولس للمرة الأولى في السياسة الأمريكية مع صعود حملة دونالد ترامب، قبل أن يتحول لاحقًا إلى واحد من أبرز الوجوه العربية داخل الفريق الانتخابي. فخلال الحملة، اضطلع بولس بدور أساسي في التواصل مع الجاليات العربية والإسلامية في الولايات المتحدة، وخصوصًا في الولايات الحاسمة مثل ميشيغان، التي تضم أكبر تجمع عربي-أمريكي في البلاد.
استثمر بولس علاقاته وخلفيته وثقافته الشرق أوسطية في بناء جسور مع ناخبين شعروا بخيبة أمل من سياسات إدارة بايدن تجاه الشرق الأوسط، خصوصًا ما يتعلق بغزة ولبنان، وبدا واضحًا أنه استطاع فتح ثغرة داخل جمهور كان يميل تقليديًا نحو الديمقراطيين، مستفيدًا من حالة الاستياء العميقة التي خلّفتها الحرب على غزة داخل الجالية العربية والمسلمة.
قدّم بولس خطابًا مبسطًا موجّهًا للجمهور العربي، وظهر على قنوات تلفزيونية عربية كبرى في الولايات المتحدة وخارجها، لشرح رؤية ترامب للمنطقة بصيغة أقرب لذائقة الجمهور العربي. ولم يتجنب الدفاع عن القرارات المثيرة للجدل في عهد ترامب، بل حاول إعادة تأطيرها سياسيًا باعتبارها “إجراءات أمنية” يساء فهمها لا سياسات تستهدف العرب أو المسلمين.
ومع اقتراب موعد الانتخابات، توسّع دوره ليصبح أحد الوجوه المركزية في الحملات الميدانية داخل ميشيغان، حيث شارك في لقاءات مباشرة مع قادة الجالية، وسافر مع شخصيات رئيسية في فريق ترامب إلى ديترويت لفتح قنوات مع مجموعات عربية تم تجاهلها طويلًا في الحملات الجمهورية.
وبهذا، تحول بولس من رجل أعمال قادم من لبنان وناجح في نيجيريا والولايات المتحدة، إلى أحد أبرز الوجوه العربية في انتخابات 2024، وهي سمة قلّ أن برزت في الحملات الجمهورية سابقًا.
صهر ومبعوث خاص: البوابة العائلية إلى قلب دائرة ترامب
قبل أن يتحول مسعد بولس إلى أحد الوجوه العربية البارزة في ماكينة ترامب الانتخابية، كانت المصاهرة هي المفصل الذي أعاد رسم مساره السياسي داخل الدائرة الترامبية. فقد تعرّف نجله مايكل بولس إلى تيفاني ترامب، أصغر بنات الرئيس من زوجته الثانية مارلا مابلز، خلال عطلة في جزيرة ميكونوس اليونانية، قبل أن تتطور العلاقة سريعًا إلى خطوبة أُعلنت خلال فترة ولاية ترامب الأولى، تحديدًا من داخل حديقة الورود بالبيت الأبيض.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2022، أُقيم حفل الزفاف في منتجع ترامب “مار آلا غو” بولاية فلوريدا، وسط حضور واسع من الدائرة المقربة، في حدث مثّل انتقالًا رمزيًا لعائلة بولس من موقع الكتّاب الصحفيين ورجال الأعمال في إفريقيا ولبنان إلى قلب العائلة السياسية الأقوى في الحزب الجمهوري. ومنذ تلك اللحظة، أصبح اسم مسعد بولس حاضرًا في الكواليس السياسية الأميركية، ليس بوصفه رجل أعمال ناجحًا فحسب، بل بصفته جزءًا من العائلة ذاتها.
ومع اقتراب انتخابات 2024 وترسخ العلاقة العائلية، ظهر بولس في الصفوف الأمامية إلى جانب ترامب، قبل أن يعلن الأخير عن تعيينه كبيرًا لمستشاريه للشؤون العربية والشرق أوسطية. البيان الرسمي لم يُشر إلى المصاهرة مباشرة، لكنه احتفى ببولس بوصفه “محامٍ بارع وقائد يحظى باحترام كبير، وصانع صفقات، ومؤيد لا يتزعزع للسلام في الشرق الأوسط”، وهي إشارات أوحت بأن ترامب أراد تقديمه باعتباره شخصية سياسية مستقلة، رغم إدراك الجميع أن البوابة العائلية هي التي فتحت له هذا النفوذ الاستثنائي.
سبق هذا التعيين كشف ترامب، خلال خطاب ألقاه أمام نادي ديترويت الاقتصادي، أن ابنته تيفاني حامل، ليصبح الرئيس الأميركي قريبًا جدًا من حفيد نصفه عربي لبناني. وهكذا تداخلت السياسة بالعائلة، وتحوّل مسعد بولس من رجل أعمال لبناني إلى مبعوث خاص بصلاحيات واسعة فور عودة ترامب إلى البيت الأبيض في ولايته الثانية، في خطوة عكست مزيجًا من الثقة العائلية والحسابات السياسية داخل الإدارة الجمهورية.
قنوات اتصال خلفية… ودور سياسي لم يكتمل بعد
منذ دخوله دائرة عائلة ترامب عبر المصاهرة، بدأ مسعد بولس يؤدي أدوارًا غير رسمية في فتح قنوات اتصال بين الرئيس الأمريكي وعدد من القادة في الشرق الأوسط، فقد تحوّل حضوره في مناسبات رئاسية ودوائر القرار داخل حملة ترامب إلى جسرٍ خلفي يتيح له التواصل المباشر مع طيف واسع من الفاعلين العرب.
وفي هذا السياق، التقى بولس في سبتمبر/أيلول 2024 رئيسَ السلطة الفلسطينية محمود عباس على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، بعد أن ساهم قبل ذلك في نقل رسالة من عباس إلى ترامب في يوليو/تموز من العام نفسه، تمنّى فيها له السلامة بعد محاولة اغتياله في ولاية بنسلفانيا. ورغم أن هذه اللقاءات بدت مؤشرًا على انفتاح سياسي أولي، فإنها لم تتحوّل بعد إلى مسار واضح لدور سياسي مؤثر في الملف الفلسطيني.
وربما برز أول اختبار جدي لبولس في محاولات تهدئة الأوضاع بين الاحتلال الإسرائيلي ولبنان. فرغم أن أولى خطوات إدارة ترامب في الشرق الأوسط تركزت على تثبيت وقف القتال في الجنوب اللبناني، لم يظهر للرأي العام ما يثبت أن بولس كان اللاعب المحوري في هذا المسار، على الرغم من جنسيته اللبنانية، وتعويل الناخبين العرب في الولايات المتحدة بأنه سيكون صوتهم داخل البيت الأبيض.
وفي ملف السودان، حيث يُفترض أن يكون دوره المباشر والرسمي أكثر وضوحًا بصفته مبعوثًا خاصًا، بقي تأثيره محدودًا بدوره. ورغم انخراطه في نقاشات الرباعية الدولية الخاصة بالسودان -التي تضم الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات- فإن المقترحات التي قدمها لم ترقَ بعد إلى مستوى التأثير المتوقع في أزمة شديدة التعقيد، خصوصًا في ظل ضغط سعودي متزايد لدفع واشنطن إلى تحرك أكثر فعالية.
حتى اللحظة، لا يزال التعويل قائمًا على دور مسعد بولس داخل إدارة ترامب الثانية، بوصفه صوتًا عربيًا قادرًا على تليين بعض زوايا السياسات الأمريكية الهجومية في المنطقة، والمتقاطعة مع طموحات ترامب لإعادة هندسة الشرق الأوسط وفق معادلات جديدة أساسها النفوذ والمصالح الأمريكية الصرفة.
لكن مرور أشهر من عمر الإدارة دون خطوات واضحة أو تأثير ملموس، يُقلّص سقف التوقعات ويطرح سؤالًا جوهريًا: هل ينجح بولس في تجاوز حدود دوره الرمزي كمبعوث عربي الواجهة، ليصبح لاعبًا فعليًا في ملفات الشرق الأوسط المعقدة؟
