تشهد الولايات المتحدة مخاضاً عسيراً في مجال الحقوق والحريات، وتطرح على طاولة النقاش بعضاً من أكثر ملفات سياستها الخارجية حساسية للمرة الأولى في تاريخها الحديث. وفي قلب هذا المشهد، يحتل العرب والمسلمون موقعاً بارزاً؛ بين مهاجرين ومواطنين يعتنقون ديناً لا يزال موضع جدل في واشنطن، وبين أبناء منطقة يكتوون مباشرة بنار السياسات الخارجية الأمريكية.
ورغم أن السياسة الخارجية للحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة لم تشهد اختلافاً مفصلياً يمكن التوقف عنده، إلا أن طريقة معالجتهما للأحداث، ومبادئ كلٍّ منهما، وتأثيرهما على الجالية المسلمة داخل البلاد، تختلف إلى حدٍّ بعيد.
غير أنّ الأمور ليست مضمونة ولا واضحة دائماً في هذا الاتجاه. فما هي معالم مشاركة الجالية المسلمة في العملية السياسية الأمريكية؟ وهل يميل أفرادها إلى الحزب الجمهوري أم إلى الحزب الديمقراطي؟ وما العوامل التي تشكّل بوصلتهم الانتخابية؟ ثمّ ما التحوّل الذي شهدته الفترة التي تلت السابع من أكتوبر؟ وهل يحمل المستقبل مزيداً من المفاجآت في هذا الشأن؟
بين التحريم والتحول
تاريخياً، سجّل العرب والمسلمون نسبة متدنية في المشاركة السياسية داخل الولايات المتحدة، كما تعرّضت مجتمعاتهم للتهميش والنبذ السياسي حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي؛ وهو العقد الذي شهد إهانات جماعية من سياسيين ومرشّحين أمريكيين، شملت ردّ تبرعاتهم – كما فعل والتر مونديل عام 1984 – ورفض تأييدهم، كما فعل مايكل دوكاكيس في انتخابات 1988.

وتعود هذه النسب المتدنية للمشاركة إلى عوامل عدة، من أبرزها الثقافة المنغلقة التي اتسمت بها مجتمعات المسلمين حتى تسعينيات القرن الماضي؛ إذ كانت هذه المجتمعات ترى نفسها دخيلة على المجتمع الأمريكي وفي حالة عداء مباشر مع قيمه. وقد عزّز هذا الاتجاه فتاوى صدرت عن بعض علماء الأزهر – ومنهم رئيس الجامعة السابق جاد الحق – حرّمت المشاركة في العملية السياسية الأمريكية، واعتبرتها مناصرة لـ”الكافرين” وموالاة لديمقراطية علمانية تخالف جوهر التعاليم الإسلامية.
في المقابل، بقيت الأصوات الداعية إلى المشاركة السياسية، بحجة ضرورة التأثير في الواقع المعاش ومراعاة مصالح المسلمين في مجتمعاتهم المحلية، خافتة ومحدودة التأثير.
وزاد من شعور الجالية باليأس والإقصاء حجم السيطرة التي تمتّع بها الموالون لـ”إسرائيل” على المرشحين وحملاتهم الانتخابية؛ فقد قدّر ريتشارد كورتيس في تقرير “واشنطن” حول أوضاع الجالية الشرق أوسطية أن إنفاق القوى الموالية لـ”إسرائيل” في انتخابات عام 1988 بلغ نحو 145 ضعف إنفاق المؤسسات والقوى الإسلامية، وتكرر المشهد في انتخابات 1992، حيث أنفقت المنظمات الصهيونية أكثر من 6 ملايين دولار، مقابل 40 ألف دولار فقط أنفقتها القوى المسلمة في الولايات.
مع انتخابات 1996 بدأت ملامح الانعطاف تظهر، إذ تقدّم عدد من أثرياء المسلمين بدعم مالي مباشر للمعسكرات الانتخابية، وبدأت منظمات إسلامية عدة تعمل على رفع الوعي وزيادة مشاركة المسلمين في العملية السياسية. ومع ذلك، ظلّ الانقسام الداخلي قائماً فالمسلمون المهاجرون، الذين حملوا معهم ثقافة محافظة، مالوا تقليدياً نحو الحزب الجمهوري؛ بينما وجد المسلمون الأمريكيون من أصول إفريقية – القادمون من خلفيات فقيرة ومهمشة – أنفسهم أقرب إلى الحزب الديمقراطي. وقد ساهم هذا الانقسام في تعطيل قدرة الجالية على التحول إلى قوة انتخابية مؤثرة.
الجمهوريون: تقارب هش وقصير
بدأت مجتمعات المسلمين بالنمو المضطرد، وبدأ تأثيرها السياسي يتعاظم مع مطلع الألفية الجديدة، الأمر الذي دفع الساسة الأمريكيين إلى الالتفات إليها فجأة بوصفها قوة انتخابية قد تقلب موازين الأمور، وكان جورج بوش الابن أول مرشح رئاسي يمنح مسلمي ميشيغان – الولاية التي تضم أكبر تجمع للمسلمين في أمريكا – أهمية واضحة خلال جولته الانتخابية. وقد رأى في المجتمع المسلم صفات تتقاطع مع الحزب الجمهوري، مجتمع محافظ، تقليدي، وحذر مالياً، ما جعله قاعدة انتخابية مثالية للجمهوريين، وقد أثمرت مساعيه عن حصده 72% من أصوات المسلمين في الولاية، رغم خسارته للولاية ككل في انتخابات عام 2000.
وإلى جانب القيم المحافظة، كان لموقف جورج بوش الابن ونائبه ديك تشيني من القضية الفلسطينية خلال حملتهما الانتخابية أثر لا يمكن إنكاره في توجهات الجاليتين العربية والمسلمة عام 2000، فبعد الفشل المدوّي لمسار بيل كلينتون خلال فترتيه الرئاسيتين، وانتشار شعور قوي بين أبناء الجاليتين بأن الديمقراطيين يسعون لتصفية القضية الفلسطينية وتحويلها إلى تجربة حكم ذاتي ضيقة وصورية، جاء طرح بوش الابن – وللمرة الأولى – لما سيعرف لاحقاً بـ”حل الدولتين”، ليُنعش لدى العرب والمسلمين أملاً بإمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة.
لكن هذا التوافق بين المسلمين والحزب الجمهوري لم يدم طويلاً؛ فقد فقد الجمهوريون دعم الجاليتين العربية والمسلمة بسرعة تكشف هشاشة الأسس التي قام عليها ذلك التوافق، فما إن تولى بوش الابن ولايته الأولى، حتى وقعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها من حملة واسعة امتدت في الداخل والخارج تحت عنوان “الحرب على الإرهاب”، وقد وقعت مجتمعات العرب والمسلمين في قلب تلك الحملة، ضحيةً لها، رغم كل التطمينات الرسمية التي أكدت أنها “حليفة وليست عدوة”.
حتى عام 2000، كان العرب والمسلمون يصوّتون للجمهوريين لقيمهم المحافظة، إلا أن هجمات سبتمبر وما أعقبها من غزو العراق وأفغانستان، إلى جانب موجة الإسلاموفوبيا الضخمة التي اجتاحت الولايات المتحدة وجعلت حياة العرب والمسلمين أكثر تعقيداً، شكّل مفترق طرق حاسماً، وقد دفع ذلك الجاليتين العربية والمسلمة باتجاه الحزب الديمقراطي، الذي تبنى خطاباً أكثر انفتاحاً على التعددية، وأكثر تقديراً للعدالة وحقوق الإنسان وثقافة القانون.

الفظائع التي دفعت بالمسلمين بعيداً عن أحضان الجمهوريين لم تأتِ من العراق وأفغانستان عبر الشاشات فحسب؛ بل طالت كثيراً من أبناء الجالية مباشرةً، عبر تحقيقات عشوائية، واحتجازٍ بلا أسس قانونية، وأخبار التعذيب المتدفقة من أبو غريب وغوانتانامو، والتي أطلقت عليها أجهزة الاستخبارات تسمية “تقنيات التحقيق المحسّنة” زوراً وبهتاناً. وإلى جانب ذلك، جاء التجسس الحكومي الذي لاحق مساجدهم وأماكن تجمعهم، ليجد المسلمون أنفسهم فجأة شماعةً لفشل الجمهوريين، وموضوعاً جاهزاً للانتقام الرسمي والشعبي على حدّ سواء.
وقد تحمّل الحزب الجمهوري قسطاً كبيراً من مسؤولية حملة التشويه والشيطنة المنظمة التي استهدفت المسلمين؛ إذ اضطلعت بها جهات محافظة ويمينية قريبة منه، واتخذتها لاحقاً مادةً دعائية شعبوية خلال الحملات الانتخابية. كل ذلك دفع بالمسلمين إلى أحضان الديمقراطيين لما يقارب عقدين من الزمن. فقد أظهرت الإحصاءات أن 85% من العرب والمسلمين في الولايات المتحدة صوّتوا لجون كيري في انتخابات 2004، بينما صوّت نحو 90% منهم لباراك أوباما عام 2008.
وفي دراسة أجراها “مركز بيو” لقياس الأداء الانتخابي للمسلمين بين عامي 2007 و2017، اتضح حجم التحوّل في ميل الجالية نحو الديمقراطيين، ففي عام 2007 عبّر 66% من مسلمي الولايات المتحدة عن ميلهم للحزب الديمقراطي مقابل 13% للجمهوريين، وارتفعت النسبة لصالح الديمقراطيين مع صعود باراك أوباما، حيث أبدى 70% من المسلمين ميلاً للديمقراطيين مقابل 11% للجمهوريين، ثم تراجعت بصورة طفيفة مع ترشح هيلاري كلينتون في مواجهة دونالد ترامب لتبلغ 63% للديمقراطيين عام 2017 مقابل 11% للجمهوريين، لكن الغلبة بقيت بوضوح لصالح الحزب الديمقراطي.
الهروب من نار الشعبوية
عقب أربع سنوات عجاف من حكم الجمهوريين الشعبويين بقيادة دونالد ترامب، شهدت الانتخابات الرئاسية لعام 2020 طفرة واسعة في نسب التصويت على مستوى الولايات المتحدة عموماً، فقد أدلى 66.8% من الناخبين المسجّلين بأصواتهم، وهي نسبة فاقت انتخابات عام 2016 بنسبة 7%، وكان للمسلمين نصيبٌ وافر من هذه الطفرة؛ إذ صوّت 1,086,087 مسلم من أصل 1.5 مليون ناخب مسلم مُسجَّل، أي ما نسبته 71%، في رقم قياسي تاريخي فاق مشاركتهم في انتخابات 2016 بنسبة 2%.

وتعود هذه الطفرة جزئياً إلى السياسات التمييزية التي انتهجها ترامب بحق المسلمين خلال ولايته الأولى، حيث تعرضت الجالية المسلمة لموجات واسعة من الكراهية والإسلاموفوبيا، وجرى استهدافها بقرارات مجحفة، من بينها حظر تأشيرات الدخول عن دول ذات أغلبية مسلمة، وملاحقة مؤسسات إسلامية أمريكية وإغلاق بعضها.
كما تعود الطفرة جزئياً إلى سياسات ترامب المنحازة بقوة لـ”إسرائيل”؛ إذ قدّم لها خدمات جليلة، أبرزها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والترويج لصفقة القرن التي شكّلت خطراً تاريخياً على القضية الفلسطينية، وإطلاق قطار الاتفاقات الإبراهيمية، وقد أثارت هذه السياسات موجات غضب واسعة بين أبناء الجاليتين العربية والمسلمة، دفعت بهم إلى التصويت بكثافة لصالح مرشح الديمقراطيين جو بايدن، أملاً بواقع أفضل في الداخل والخارج.
وفي استطلاع رأي أجراه “مركز أبحاث التغيير” لصالح كلٍّ من مجلس العلاقات العامة الإسلامية (CAIR) ومنظمة “إمجيج” المعنية بتعزيز مشاركة المسلمين في الحياة العامة، عقب انتخابات 2020 التي أوصلت بايدن إلى السلطة، تبيّن وجود تقارب لافت في الأداء الانتخابي للجاليتين العربية والمسلمة. فقد قال 86% من المسلمين غير العرب المستطلعة آراؤهم إنهم صوتوا لبايدن، في حين قال 81% من العرب إنهم فعلوا الأمر ذاته.
ورغم أن سياسات ترامب الكارهة للمسلمين والمضيّقة على قضاياهم كانت محفزاً رئيسياً في تحديد خياراتهم الانتخابية، فإن قضايا الاقتصاد والرعاية الصحية والإصلاحات الضريبية كانت حاضرة بقوة أيضاً، بل تقدّمت – وفقاً للاستطلاع – على ملفات السياسة الخارجية. وهو ما يعكس انخراط مسلمي الولايات المتحدة المتزايد في هموم المجتمع الأمريكي اليومية واهتمامهم بقضايا الداخل إلى جانب قضاياهم الخاصة.
ما الذي يريده الناخب المسلم؟
تُعدّ الجالية المسلمة من أكثر الجاليات تنوّعاً في الولايات المتحدة؛ فهي تضم العرب والبيض والسود واللاتينيين والآسيويين، ويختلف أفرادها في كثير من القضايا المفصلية تبعاً لخلفياتهم الثقافية، ورؤيتهم للعالم، وأولوياتهم الحياتية في الولايات المتحدة، وهذا التنوّع يجعل من الصعب حصر ولائهم الحزبي أو السياسي، إذ يتوزّع المسلمون بين جمهوريين وديمقراطيين ومستقلين ومنتمين إلى أحزاب ثالثة، الأمر الذي يجعلهم يعكسون كامل الطيف الفكري والسياسي الأمريكي تقريباً.
وعليه، تتقاسم الجاليتان العربية والمسلمة مبادئ عديدة؛ يتقاطع بعضها مع الحزب الديمقراطي، ويتقاطع بعضها الآخر مع الحزب الجمهوري، فيما تظلّ مجموعة ثالثة في حالة اختلاف مع كلا الحزبين بدرجات متفاوتة.
على صعيد قضايا الحكم والتنوّع والهجرة، يميل المسلمون إلى تبنّي مواقف أقرب للحزب الديمقراطي، إذ تُظهر دراسة لـ”مركز بيو” لعامَي 2023–2024 أن 71% من مسلمي الولايات المتحدة يفضّلون حكومة أكبر تقدّم مزيداً من الخدمات، وأن 82% منهم يدعمون التنوّع العرقي والإثني في البلاد، فيما يفضّل 82% سياسات صديقة للهجرة، وهذه كلها مبادئ تتوافق إلى حدّ كبير مع الأجندة الديمقراطية.

يتفق المسلمون في الولايات المتحدة مع الحزب الجمهوري في قضايا تتعلق ببناء الأسرة والأدوار التقليدية للجنسين والموقف من المثلية الجنسية والهوية الجندرية، إذ يعتقد 63% من المسلمين أن الأسرة تكون أفضل حين يبقى أحد الوالدين في المنزل لرعاية الأطفال، بينما يرى 55% أن المثلية الجنسية يجب أن يُواجَه مجتمعياً، ويعتبر 48% أن التحول الجندري غيّر المجتمع الأمريكي نحو الأسوأ، وهي مواقف تتقاطع بصورة واضحة مع الخطاب الاجتماعي المحافظ للحزب الجمهوري.
في المقابل، يختلف المسلمون عن كلا الحزبين في مسائل أخرى، أهمها دور الدين في الحياة العامة، فعلى سبيل المثال، يرى 55% منهم أن على أساتذة المدارس العامة قيادة الطلاب في الصلاة، وهي مسألة غير مرحّب بها لدى الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حدّ سواء.
واللافت أن مسلمي الولايات المتحدة الذين شملتهم دراسة “مركز أبحاث التغيير” لعام 2020 فضّلوا توصيف أنفسهم بـ”المعتدلين” بنسبة 37%، مقارنة بـ26% للتقدميين، و18% لليبراليين، و10% فقط للمحافظين، ما يشير إلى عدم ارتياح الجالية للاصطفاف الكامل ضمن أي من أجندات الحزبين أو أطيافهما الفكرية.
وعليه، فقد تشكّلت توجهات المجتمعات العربية والمسلمة في مواسم الانتخابات الأمريكية، سواء الرئاسية أو التشريعية أو الإدارية ، من مزيج من العوامل الداخلية والقضايا المرتبطة بالسياسة الخارجية الأمريكية، وتفاعلت هذه المجتمعات مع هموم المواطن الأمريكي المحلي من جهة، ومع هموم بلدانها الأصلية من جهة أخرى، وهي بلدان ترتبط كثير من ملفاتها بمفاتيح النفوذ الأمريكي، وهكذا تتبلور خارطة سياسية عامة، وإن كانت تفاصيلها متباينة وغير خالية من الاختلاف والتفرّق.
ولطالما لعبت السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط وقضايا العرب والمسلمين دوراً مركزياً في توجيه الناخب العربي والمسلم. فعلى مدى عقدين تقريباً، ظلّ العرب والمسلمون أقرب إلى الحزب الديمقراطي، الذي رأوا فيه ميلاً إلى الدبلوماسية والابتعاد عن المواجهة العسكرية المباشرة التي يرتبط كثيرون باندلاعها بإدارة الجمهوريين.
ومن الجدير بالذكر أن الفجوة بين الأجيال المسلمة آخذة في الاتساع داخل الولايات المتحدة، فهناك اختلافات ملموسة بين الأجيال التي قدمت من بلدانها الأصلية – والتي تحمل قيماً أكثر محافظة وتأثراً بالفكر المشرقي والإسلامي – وبين الأجيال الشابة التي نشأت في الولايات المتحدة وتشكّلت هويتها فيها، فبينما يتمسك الأكبر سناً بخلفيات محافظة، تميل الأجيال المتأخرة إلى تبنّي مواقف أكثر تقدمية ويسارية، يصل بعضها إلى حد قبول ودعم المثلية والتحول الجندري، إضافة إلى مواقف متساهلة تجاه قضايا جدلية في الإسلام مثل الإجهاض، والمعاملات الربوية، وصناعات الترفيه، وهي مواقف تقترب في مجملها من الأسس الثقافية للحزب الديمقراطي.
يشير أستاذ العلوم السياسية في جامعة أوبرن بولاية ألاباما، سورن جوردان، إلى صعوبة حصر توجهات المجتمعات المسلمة في الولايات المتحدة أو قولبتها وفق قضايا محددة بعينها؛ إذ تتأثر هذه المجتمعات بما يتأثر به المواطن الأمريكي عموماً، بغض النظر عن عرقه ودينه، فهي تتفاعل مع المزاج الانتقامي من الحزب المسيطر على البيت الأبيض بسبب سياساته الاقتصادية بالدرجة الأولى، وبسبب المناخ السياسي والاجتماعي السائد في لحظة معينة، إضافة إلى رغبتها الطبيعية في التغيير واستجلاب المنافع.
وهي، كما عبّر عنها مدير الشؤون الحكومية في مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (CAIR)، روبرت ماكو، دليل واضح على أن المسلمين لا يقعون ضمن خانة سياسية أمريكية ثابتة؛ فهم ليسوا يميناً خالصاً ولا يساراً كاملاً، الأمر الذي يجعل من المستحيل على أي حزب أمريكي أن يضمن دعمهم غير المشروط، ومن ثمّ، يتعين على كل مرشح أن يبذل جهداً حقيقياً لاستقطاب هذه المجتمعات، وطمأنتها، والتحالف مع مصالحها الواقعية وتطلعاتها.
الإبادة الجماعية.. بوصلة المسلمين
حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة كانت مفترق طرق حقيقياً في سلوك الناخب العربي والمسلم داخل الولايات المتحدة؛ فالدعم غير المشروط الذي قدمته إدارة بايدن لـ”إسرائيل”، والتجاهل الكامل لمطالب العرب والمسلمين بوقف إطلاق النار، ووقف التمويل والتسليح الأمريكي لحكومة نتنياهو، إضافةً إلى تعطيل الإدارة الأمريكية لقرارات الأمم المتحدة الداعية لوقف إطلاق النار، كلها عوامل دفعت الناخب العربي والمسلم للابتعاد – للمرة الأولى منذ عقدين – عن الحزب الديمقراطي، والاقتراب من الجمهوريين والأحزاب الثالثة. وقد انعكس ذلك على ولايات متأرجحة ووازنة مثل ميشيغان، التي ذهبت هذه المرة للجمهوريين في سابقة ساهمت في ترجيح كفتهم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
وقد انقسمت المجتمعات العربية والمسلمة بصورة لافتة في هذه الانتخابات؛ بين قطاعات محبطة أرادت معاقبة الديمقراطيين على انحيازهم المطلق لـ”إسرائيل”، وقطاعات أخرى خبرت التجربة المريرة مع ترامب خلال ولايته الأولى، وتخشى عودة قد تكون مكلفة. وبين هذا وذاك، تفرّقت خيارات الناخبين فبعضهم اختار هاريس باعتبارها “أهون الشرّين” أملاً في تغيّر محتمل في سياسة الديمقراطيين تجاه “إسرائيل”؛ وبعضهم صوّت لترامب نكاية بالديمقراطيين ورهاناً على وعود أطلقها لقادة الجاليات بوقف الحرب؛ فيما اختار آخرون جيل ستاين، رغم علمهم باستحالة فوزها، لإيصال رسالة احتجاجية مدوية إلى البيت الأبيض؛ في حين آثر قطاع رابع مقاطعة العملية الانتخابية برمتها، لاقتناعه بأنها لن تُحدث تغييراً حقيقياً في همومه ومشاغله، خصوصاً في البلدان التي جاء منها وترك فيها أهله ومستقبل أولاده.
وتعددت نتائج استطلاعات الرأي والإحصاءات التي رصدت أداء الناخب العربي والمسلم في انتخابات 2024 التي حملت ترامب مجدداً إلى سدة الحكم، ففي إحصاء أولي لمجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير)، أظهرت النتائج أن أقل من نصف المسلمين صوّتوا لكامالا هاريس، في حين كان ما بين 65% و70% قد صوّتوا لبايدن عام 2020. في المقابل، أظهر استطلاع لوكالة أسوشيتد برس أن نحو 63% من أصوات المسلمين صبّت لصالح هاريس في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
شكّلت سياسات الهجرة عاملاً بارزاً في توجه بعض العرب والمسلمين نحو الحزب الجمهوري؛ فخلافاً للاعتقاد الشائع، يعارض كثير منهم سياسات الحدود المفتوحة، والتمويل الحكومي الواسع للمهاجرين غير الشرعيين
أما في ميشيغان – أكبر معاقل الجالية العربية وإحدى أهم الولايات المتأرجحة – فقد حصد ترامب دعماً واسعاً بين العرب والمسلمين، فالولاية التي تمتلك 15 صوتاً في المجمع الانتخابي تضم نحو 200 ألف ناخب مسلم مسجَّل، وقد فاز ترامب فيها بفارق 84 ألف صوت، ما يرجّح أن أداء الجالية الإسلامية مثّل عاملاً مؤثراً في حسم نتيجتها لصالح الجمهوريين.
كان أداء الجالية المسلمة مفاجئاً من نواحٍ عدة؛ إذ صوّت العرب والمسلمون للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة بكثافة لمرشحة حزب ثالث، هي جيل ستاين، مرشحة حزب الخضر، التي تعهّدت بإنهاء الدعم الأمريكي لحرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، وهو ما أدى إلى تشتيت الأصوات التي تُمنَح عادةً للديمقراطيين. في المقابل، رفضت قطاعات من الجالية المسلمة الانحياز لستاين، لا لأسباب فكرية أو مبدئية، بل لحسابات الربح والخسارة وحدها؛ فالأصوات المسلمة التي ذهبت لستاين في انتخابات 2016 في ولايات ويسكنسن وميشيغان وبنسلفانيا كانت، وفق قراءات شائعة، سبباً في خسارة هيلاري كلينتون لصالح ترامب. ولهؤلاء، بدت هاريس “أهون الشرّين” بناءً على تجاربهم المريرة مع ترامب خلال ولايته الأولى.
وقد خيّمت حرب غزة أيضاً على أداء الجالية العربية في التصويت الرئاسي الأخير؛ إذ أشار رئيس المعهد العربي الأمريكي جيمس زغبي إلى غضب متصاعد داخل الجالية دفع نسبة غير قليلة للتصويت لصالح دونالد ترامب، الذي تعهّد بإنهاء الحرب في بداية ولايته حال فوزه، وبحسب زغبي، فإن 42% من العرب يُرجَّح أنهم صوّتوا لترامب مقابل 41% لكمالا هاريس، وهي نسبة متقاربة على نحو غير مألوف، ولا تعكس عادةً الاتجاه التقليدي للجالية العربية التي تصوت بغزارة للديمقراطيين لقرب أجنداتهم من همومهم ورغبتهم في التعايش والمساواة.
لكنّ حرب غزة لم تكن وحدها العامل الحاسم في توجهات الجاليتين العربية والمسلمة؛ فقد لعبت ملفات محلية ملحّة دوراً مفصلياً، مثل الاقتصاد، والنظام التعليمي، وقضايا الحريات المرتبطة بالمثليين، وهي قضايا باتت أكثر حضوراً في النقاش العام داخل مجتمعات العرب والمسلمين.
كما شكّلت سياسات الهجرة عاملاً بارزاً في توجه بعض العرب والمسلمين نحو الحزب الجمهوري؛ فخلافاً للاعتقاد الشائع، يعارض كثير منهم سياسات الحدود المفتوحة، والتمويل الحكومي الواسع للمهاجرين غير الشرعيين التي تقترن غالباً بأجندات الديمقراطيين، ورغم خلفياتهم المهاجرة، يميل العرب والمسلمون إلى إعطاء الأولوية للشرعية القانونية، والحدّ من تدفقات الهجرة غير النظامية، لما تجلبه من تحديات اقتصادية واجتماعية تتصل بالجريمة والمخدرات وتراجع فرص العمل.
وقبل الحرب أيضاً، كانت قاعدة الجمهوريين تتوسع بين المسلمين؛ ففي إحصاء أجرته صحيفة “وول ستريت جورنال” خلال الانتخابات النصفية عام 2022، تبيّن أن 28% من المسلمين صوّتوا لصالح مرشحين ومسؤولين جمهوريين، مقابل 70% للديمقراطيين، ورغم أن هذه النسبة تبدو متواضعة، فإنها تمثل ارتفاعاً لافتاً مقارنة بنسبة 11% فقط صوّتوا للجمهوريين في انتخابات منتصف 2018، ويعود هذا الارتفاع جزئياً إلى سياسات إدارة بايدن خلال جائحة كوفيد، وما خلّفته من إغلاقات واسعة وتداعيات اقتصادية أثّرت على حياة كثير من أبناء الجالية.
زمان جديد
أحرزت الجالية المسلمة في الولايات المتحدة تقدماً ملحوظاً في انخراطها في العملية السياسية، سواء من حيث المشاركة بالتصويت أو من حيث الترشح للمناصب الرسمية على مختلف المستويات الحكومية والمحلية، ويعكس ذلك حصاد عقود من غرس الوعي والتثقيف السياسي والمجتمعي، وتعزيز ممارسة المواطنة الكاملة في الولايات المتحدة، كما يبشر بمزيد من الانخراط والإلهام للأجيال القادمة التي تكتسب قدراً أكبر من الجرأة والانفتاح على المجتمع الأمريكي، والرغبة في تحقيق تغيير ملموس في مسار الأمور، خصوصاً في القضايا الخارجية الأكثر أهمية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي تمثل جوهر النضال الإسلامي في الغرب.

ويلتقي أداء الناخبين المسلمين في الانتخابات الرئاسية مع أدائهم في الانتخابات النصفية والتمهيدية الموجهة لعضوية الكونغرس والمكاتب التنفيذية، على المستويات الفيدرالية والولائية والمحلية، إضافة إلى المواقع القضائية. غير أنّ عاملاً مهماً يبرز هنا وهو ولاء المجتمعات المسلمة للمرشحين أنفسهم، ولخلفياتهم الدينية والوطنية، بصرف النظر عن الحزب الذي يمثلونه.
فبينما يترشح أغلب المسلمين للمناصب الحكومية – وخاصة العليا منها – تحت راية الحزب الديمقراطي، يترشح عدد محدود منهم كجمهوريين، وغالباً ما يواجهون صعوبة في تحقيق نجاحات تُذكر، فجميع أعضاء الكونغرس المسلمين الحاليين، وعددهم أربعة يخدمون في مجلس النواب، هم منتمون للحزب الديمقراطي.
وبالمثل، فإن معظم المسؤولين المسلمين الذين يتولون مناصب حكومية في الانتخابات النصفية، وعددهم 83 حتى انتخابات 2022 النصفية، وهو رقم مرشح للزيادة، ينتمون في غالبيتهم للحزب الديمقراطي، وكذلك الأمر بالنسبة للفائزين الجدد في انتخابات الولايات في نوفمبر 2025، وعلى رأسهم زهران ممداني عمدة مدينة نيويورك، وغزالة هاشمي نائبة حاكم ولاية فيرجينيا. ومع ذلك، يبرز عدد من المسلمين الذين ترشحوا عن الحزب الجمهوري في ولايات أخرى، خصوصاً في تكساس وبنسلفانيا، ومن أبرزهم محمد أوز الذي ترشح لمجلس الشيوخ عن ولاية بنسلفانيا عام 2022، ورغم عدم فوزه، فقد عيّنه ترامب مؤخراً مديراً لمكتب الخدمات الطبية (ميديكير وميديكيد)، وهو منصب وزاري حساس.
وتبرز كذلك مسألة التأييد السياسي داخل صفوف المسؤولين المنتخبين؛ إذ أقدم بعض المسؤولين المسلمين المحسوبين على الحزب الديمقراطي على تأييد مرشحين جمهوريين للرئاسة، كما فعل عامر غالب، عمدة مدينة ديربورن في ولاية ميشيغان – موطن إحدى أكبر الجاليات العربية والمسلمة – حين أعلن تأييده لدونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
يكشف هذا المشهد المتشابك عن شبكة مصالح معقدة تؤثر في توجهات الناخبين المسلمين؛ فلا يُختزل ولاؤهم في الحزب الديمقراطي أو الجمهوري حصراً، بل يتشكل وفق مقتضيات المرحلة، وطبيعة المرشحين، وبرامجهم الانتخابية، وما يلامس فعلياً مصالح الجالية وحاجاتها.