في لحظة سياسية مشحونة، وفي ذروة محاكمته بقضايا فساد تُعدّ من الأضخم لرئيس وزراء في تاريخ “إسرائيل”، قدّم بنيامين نتنياهو طلب عفو رسمي إلى الرئيس يتسحاق هرتسوغ، في خطوة وصفها الأخير بأنها “استثنائية” وتستدعي الدراسة “بمسؤولية وبقلب جاد”.
يتقدم نتنياهو بطلبه من موقعه رئيسًا للحكومة، لا بصفة متهم يبحث عن مخرج قضائي فحسب، بل كزعيم يقدّم نفسه باعتباره الجسر المطلوب لـ”رأب الصدع بين فئات الشعب” وخفض مستوى التوتر الداخلي، كما جاء في نص رسالته.
لكن خلف هذه اللغة التصالحية، تلوح ملامح أزمة سياسية عميقة، تتشابك فيها حسابات البقاء السياسي مع الهزّات التي أحدثتها عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول، وتواصل النزيف العسكري والاقتصادي، والضغوط القادمة من البيت الأبيض، والانقسام الهائل داخل المجتمع الإسرائيلي.
ولأن نتنياهو لم ينتظر صدور حكم، فإن طلب العفو الذي لا يتضمن اعترافًا بالذنب ولا تعهّدًا باعتزال الحياة السياسية، يضع “إسرائيل” أمام واحدة من أكثر اللحظات التأسيسية حساسية في تاريخ علاقتها بين السلطة والقضاء.
هذه الخطوة لا تكشف فقط عن أزمة نتنياهو الشخصية مع المحاكمة، بل تفتح الباب على تساؤلات أكبر: هل يحاول رئيس الحكومة تفكيك القنبلة القضائية قبل أن تنفجر في منتصف موسم انتخابي مصيري؟ وهل قرأ مبكرًا اتجاهات المحكمة وفقد رهانه على البراءة؟ وهل نحن في مواجهة سابقة دستورية قد تعيد صياغة حدود السلطة في “إسرائيل”؟
أبعاد انتخابية.. وزلزال سياسي
من الصعب فصل طلب العفو عن السياق الانتخابي الذي يضغط على نتنياهو من كل الجهات، فالرجل يستعد لمعركة انتخابية من الأكثر حساسية في حياته السياسية، ويعرف جيدًا أن خوضها وهو غارق حتى الرقبة في جلسات الاستجواب وملفات الفساد سيجعله خصمًا ضعيفًا، ويجرّد حملته من عنصر “الزعيم التاريخي” الذي يحاول دومًا تصديره. لذلك، يقدّم العفو باعتباره خطوة لـ”تعزيز متانة الدولة الوطنية”، بينما يراه خصومه محاولة مكشوفة لنزع فتيل القنبلة القضائية قبل حلول ساعة الحسم.
وتأتي هذه الخطوة في توقيت صعب، إذ تدخل “إسرائيل” عامًا انتخابيًا محمّلاً بتبعات السابع من أكتوبر، بانقسام اجتماعي غير مسبوق، وبفقدان ثقة عميق في القيادة السياسية والعسكرية، وحتى داخل اليمين نفسه، لم يعد نتنياهو يحظى بالهيمنة القديمة؛ فصعود رموز أكثر يمينية منه، واستنزاف الحرب الطويلة، وتراجع الأوضاع الاقتصادية، كل ذلك جعل مكانته داخل معسكره أقل صلابة. وبالتالي، فإن أيّ تصدعات في الأشهر المقبلة قد يطيح بقدرته على إعادة تشكيل ائتلاف يميني متماسك.
ومع أن نتنياهو يحاول تقديم العفو كخطوة “تخدم المصلحة العامة”، إلا أن المشهد السياسي يقرأها بصورة مختلفة، باعتبارها محاولة ذكية لتغيير قواعد اللعبة، فالمحاكمة لم تعد مجرد مسار قانوني؛ بل تحولت إلى ساحة اشتباك سياسي تُحدّد مستقبل “إسرائيل” الداخلي. ولذلك جاءت خطوة نتنياهو أشبه بمحاولة القفز من سفينة بدأت المياه تتسرب إليها بسرعة.
في المقابل، أحدث الطلب زلزالًا داخل المؤسسة السياسية نفسها، إذ تحدثت المعارضة عن “سقوط أخلاقي” وعن رئيس حكومة يعترف عمليًا بأنه لا يملك ثقة ببراءته. أما داخل الائتلاف، فالإيجابية سيدة الموقف، إذ رحبت شخصيات يمينية بالطلب لأنها تسعى إلى حماية استمرارية الحكم اليميني وما حققه اليمين الصهيوني من اختراقات في بنية الدولة العميقة في “إسرائيل” حتى الآن.
وبناء عليه، فإن طلب العفو ليس مجرد خطوة قضائية، بل لحظة سياسية مفصلية، فهي إمّا أن تنقذ نتنياهو من نهايته السياسية، أو تُنهي واحدة من أطول حقب القيادة الإسرائيلية عبر صفعة قانونية في قلب موسم انتخابي محتدم.

ملفات فساد مفتوحة
لا يمكن فهم خطوة نتنياهو دون وضعها في سياق المحاكمة المعقّدة التي تلاحقه منذ سنوات، والتي تحولت إلى الخلفية المستمرة لكل معاركه السياسية، فالرجل يواجه ثلاث قضايا كبرى (1000 و2000 و4000) تشمل اتهامات بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، وهي تهم تمسّ جوهر الثقة العامة وسلامة الحكم، وتشكّل سابقة في تاريخ رؤساء الحكومات في إسرائيل.
في الملف 4000، وهو الأخطر، تُوجَّه لنتنياهو شبهات بأنه منح تسهيلات تنظيمية بقيمة تقارب 370 مليون دولار لشركة الاتصالات “بيزك”، مقابل حصوله على تغطية إعلامية إيجابية في موقع “والا” الذي يملكه شاؤول إيلوفيتش. هذه القضية وحدها، وفق المستشار القضائي السابق للحكومة أفيخاي مندلبليت، موثقة بمئات الأدلة وشهادات مسؤولة، وتشكل جوهر الاتهام بالرشوة.
أمّا الملف 2000، فيتعلق بعلاقة نتنياهو مع ناشر صحيفة “يديعوت أحرونوت” أرنون موزيس، حيث يُشتبه بأنه حاول عقد صفقة تقوم على تضييق الخناق على صحيفة “يسرائيل هيوم” المنافسة، مقابل تغطية صحافية إيجابية له ولأسرته. وهي علاقة تُظهر – وفق الاتهام – استعانة نتنياهو بسلطة التشريع للتأثير على الإعلام.
وفي الملف 1000، يقف نتنياهو أمام شبهات الحصول على هدايا بمئات آلاف الدولارات من رجال أعمال، بينهم أرنون ميلشان، مقابل خدمات شخصية وسياسية قدّمها لهم. ورغم أن هذا الملف أقل خطورة من الملف 4000، إلا أنه عزز الصورة العامة عن شبكة مصالح مالية وسياسية تحيط برئيس الحكومة.
هذه القضايا ليست أحداثًا قديمة فقدت تأثيرها، بل هي جزء حي من المشهد الإسرائيلي، إذ يعيش نتنياهو منذ سنوات تحت ضغط جلسات المحاكمة، والاستجواب المضاد، وتسريب الشهادات، والجدل الإعلامي والسياسي الذي لا يهدأ.
وحتى بعد طوفان الأقصى، ورغم الحرب الطويلة وما رافقها من فوضى سياسية وعسكرية، ظلّت المحكمة تنعقد، ما يعني أن المحاكمة لم تُجمّد ولم تُستوعَب داخل أزمات الأمن القومي كما توقع نتنياهو.
ومع اقتراب الانتخابات، يدرك نتنياهو أن الاستمرار في هذه المحاكمة يُفقده القدرة على إدارة حملته، ويُضعف صورته أمام جمهور قد لا يكون مستعدًا لمنح الثقة لزعيم يدخل المحكمة صباحًا، ويقود الحكومة مساءً. لذلك، يصبح طلب العفو محاولة للهروب من قاعة محكمة باتت تكشف تدريجيًا هشاشة رواية “الزعيم الذي يُلاحَق سياسيًا”.
ضغط ترامبي
لم يكن طلب العفو الذي تقدّم به نتنياهو مجرد خطوة داخلية معزولة، بل جاء في ظل ضغوط متصاعدة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لا يخفي انحيازه الكامل لنتنياهو، ولا يتردد في وصف محاكمته بأنها “ملاحقة سياسية غير مبررة”.
وعلى مدار الأشهر الماضية، مارس ترامب ضغوطًا علنية ومتكررة على الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، طالبًا إنهاء الملف قانونيًا عبر العفو، قبل أن يرسل مؤخرًا رسالة رسمية هي الأولى من نوعها، تحثّه على إغلاق القضية نهائيًا.
في رسالته، اعتبر ترامب أن “الوقت حان لترك بيبي يوحّد إسرائيل”، رابطًا بين إنهاء محاكمة نتنياهو وبين قدرته على مواصلة تحريك ملفات إقليمية كبرى، من أبرزها توسيع اتفاقيات أبراهام واستقطاب دول عربية إضافية. وبهذه اللغة، لم يقدّم ترامب مجرد دعم سياسي صريح، بل رؤية كاملة ترى في استمرار محاكمة نتنياهو تهديدًا لمسار إقليمي تعمل واشنطن على إعادة تشكيله.
هذا التدخل المباشر خلق حرجًا داخل المؤسسة الإسرائيلية، التي تنظر تقليديًا إلى صلاحية العفو باعتبارها مسألة سيادية بحتة، إذ إن دخول الرئيس الأميركي على الخط بهذه الطريقة يحوّل القضية إلى ملف سياسي دولي، ويضع هرتسوغ أمام اختبار صعب، فقبول الطلب قد يُفسَّر خضوعًا للضغوط الخارجية، ورفضه قد يُقرأ كصفعة لنتنياهو في لحظة سياسية شديدة الحساسية ومخاطرة باستياء أمريكي من رئيس سريع الانفعال ومتهور الأفعال.
وفي المقابل، يستفيد نتنياهو من الدعم الترامبي الذي يمنحه غطاءً سياسيًا خارجيًا، ويعزز روايته بأن محاكمته “مسيسة”، ويهيّئ جمهوره لتقبّل خطوة العفو باعتبارها ضرورة وطنية، مستفيدًا من الاسقاطات التي يتخذها ترامب على ملاحقته القضائية من القضاء الأمريكي حينما غادر البيت الأبيض.
لكن بعيدًا عن الرسائل العلنية، يبرز سؤال أكبر: هل كل هذا المسار-من تكرار مطالب ترامب، إلى توقيت طلب العفو، إلى موقف نتنياهو من خطة ترامب لوقف إطلاق النار في غزة- هو مجرد تزامن، أم جزء من تفاهمات غير معلنة بين الطرفين؟
ثمة رأي متزايد يرى أن ترامب ونتنياهو يتحركان ضمن خريطة مصالح مشتركة، وأن الضغوط الأميركية قد تحمل في طياتها مقايضات سياسية مرتبطة بترتيبات ما بعد الحرب، والتطبيع الإقليمي، وإدارة الصراع مع إيران، وحتى دور نتنياهو في المرحلة المقبلة داخل إسرائيل.
يُضاف إلى ذلك أنّ هناك قراءة باتت تتوسع مفادها أن ترامب يسعى إلى “حماية إسرائيل من نفسها” عبر مسارات لمنع الانفجار الداخلي الذي قد يعطل الماكنة الحكومية ويعطل رؤيته الإقليمية من جانب، ومن جانب آخر عبر العمل على فك العزلة الدولية التي باتت مفروضة على “إسرائيل” نتيجة حرب الإبادة في قطاع غزة.
مما يجعل من خطوة العفو أكثر من مطلب قانوني، ويحولها إلى جزء من إعادة هندسة المشهد السياسي الإسرائيلي وفق حسابات مشتركة بين نتنياهو والإدارة الأميركية.
هل هي سابقة قضائية؟
ما يجعل طلب العفو الذي تقدّم به نتنياهو استثنائيًا ليس مضمونه فقط، بل توقيته أيضًا. فهي المرة الأولى في تاريخ “إسرائيل” التي يطلب فيها رئيس حكومة، أو أي متهم في موقع سلطة بهذا الوزن، عفوًا رئاسيًا قبل صدور الحكم وقبل انتهاء المحاكمة.
من الناحية القانونية البحتة، ما يزال نتنياهو “بريئًا” وفق القانون الإسرائيلي حتى صدور إدانة قضائية، وطلب العفو لا يُعدّ اعترافًا بالتهمة. وبينما العفو في الوضع الطبيعي يُمنح لمن صدر بحقه حكم، إلا أن القانون يمنح الرئيس صلاحية واسعة في منح العفو “بغض النظر عن المرحلة القضائية”، مستندًا إلى اعتبارات تتعلق بمصلحة الدولة العليا.
لكن سياسيًا ومعنويًا، تبدو الصورة أكثر حدّة، فالاقتراح الذي قدّمه نتنياهو مكتوب بلغة “التهدئة” و”تقليص الشرخ” و”الوحدة الوطنية”، بعيدًا عن خطاب “البريء الذي يقاتل” الذي تبنّاه طوال سنوات من المواجهة مع الشرطة والنيابة والقضاء، في تحول يمنح الانطباع بأن رئيس الحكومة نفسه لم يعد يثق بالمسار القضائي أو بفرص تبرئته.
ومع أنّ الإعلام الإسرائيلي يتعامل مع الخطوة بوصفها “سابقة تاريخية”، إلا أن القانون الإسرائيلي يعرف استثناءات شبيهة، خصوصًا في حالات الإرهاب اليهودي، وعلى رأسها قضية “باص 300″، حين تمّ منح عفو قبل استكمال الإجراءات القضائية.
غير أن الفارق الكبير أن القضية الراهنة تتعلق برئيس حكومة في منصبه، ومحاكمته تمسّ بنية الحكم، والعفو في هذه الحالة لا ينهي فقط مسارًا قضائيًا، بل يغيّر شكل العلاقة بين القضاء والسلطة التنفيذية، وربما يُضعف مكانة الجهاز القضائي في لحظة يعاني فيها من انقسام داخلي وضعف ثقة الجمهور.
ومن الزوايا التي تضيء حساسية اللحظة القضائية ما يُعرف بـ”صفقة العار” في السياسة الإسرائيلية، وهي الشكل التقليدي لصفقات الادعاء التي تقوم على اعتراف المتهم بالذنب مقابل تخفيف العقوبة واعتزاله الحياة العامة.
وقد عُرضت هذه الصيغة على نتنياهو ذاته في السنوات الماضية، حين تفاوض المستشار القضائي السابق مندلبليت على صفقة تقتضي اعترافه بتهمة خيانة الأمانة وابتعاده عن المشهد السياسي لسبع سنوات. يومها رفض نتنياهو أيّ صفقة من هذا النوع، معتبرًا أن الاعتراف وصمة لا يمكنه حملها، وأن الابتعاد عن السياسة نهاية لحقبته التاريخية.
لكن المفارقة أن طلب العفو الراهن يتجاوز صفقة العار نفسها، فنتنياهو لا يعترف بأي ذنب، ولا يقبل بأي ثمن سياسي أو أخلاقي، بل يطلب إعفاءً كاملًا من دون مقابل، وباسم “تعزيز متانة الدولة الوطنية”، أي أن ما رفضه عبر المسار القضائي الرسمي يحاول الآن الحصول عليه عبر مسار سياسي–رئاسي لا يفرض عليه أي تبعات. وهذا هو جوهر الخطر الذي يشير إليه قانونيون إسرائيليون وهو أن يتحول العفو في هذه السابقة إلى أداة لإلغاء المحاكمة بالكامل، دون اعتراف أو مسؤولية أو ثمن يدفعه صاحب المنصب.
وفي المحصلة، يعيد هذا التطور الدراماتيكي إنتاج الصورة التي ترافق نتنياهو منذ سنوات: الزعيم الذي لا تنفد أوراقه، ولا تتوقف مناوراته السياسية، والذي ينجح دائمًا في فتح مسارات جديدة حين تبدو الطرق مسدودة.
فبالنسبة لنتنياهو، لا تشكّل الاعتبارات الأخلاقية أو الخطاب العام سوى أدوات قابلة للتوظيف في خدمة الهدف الأهم، وهو البقاء في رأس الهرم السياسي. وهذا السلوك ليس طارئًا على مسيرته، بل يعكس قناعة راسخة لديه بأنه ليس مجرد رئيس حكومة، بل “ملك ملوك إسرائيل”، الذي لا يقل أهمية عن بن غوريون، بل أكثر تأثيرًا منه، وفق ما يحبّ أن يراه أنصاره.
وبغضّ النظر عن موقف الرئيس من طلب العفو، فإن مجرد تقديمه يمثل خطوة أساسية في مسار نتنياهو لإعادة إنتاج نفسه سياسيًا، ولتعزيز سرديته باعتباره الزعيم الذي لا يُمس، والقادر على تجاوز أكبر الأزمات في تاريخ إسرائيل من دون أن يخسر موقعه أو نفوذه.
وإذا ما نجح في تمرير هذه الخطوة، فلن تكون مجرد مناورة قانونية عابرة، بل دفعة انتخابية قد تمنحه مجددًا الوصول إلى عتبة الأمان الانتخابي، في لحظة تبدو فيها الخريطة السياسية الإسرائيلية مفتوحة على كل الاحتمالات، ومهيأة تمامًا لاستقبال عودة نتنياهو كزعيم أوحد لا ينازَع.