في لحظة سياسية مشحونة، ومع اقتراب فرنسا من استحقاقات انتخابية مفصلية، فجّر استطلاع رأي نُشر في نوفمبر/تشرين الثاني 2025 جدلًا واسعًا حول موقع المسلمين في المجتمع الفرنسي، وتحول سريعًا إلى مادة اشتباك سياسي وإعلامي حاد.
ونشر معهد إيفوب الفرنسي، المتخصص بالدراسات الإحصائية في 18 نوفمبر/تشرين الثاني تقريرًا حول واقع الشباب المسلم في البلاد، زاعما وجود “تحولات لافتة” داخل هذا المجتمع، سواء على مستوى الممارسات الدينية أو القضايا المتعلقة بالهوية.
وحذرت الدراسة من “إحياء متزايد للشعائر الدينية” لدى المسلمين بالاستناد إلى مقابلات هاتفية مع 1005 مسلمًا ومسلمة، فيما رأى منتقدون أنّ استطلاع “موجه” وجرى تضخيمه، وأنه يفتقر إلى أخذ السياق الاجتماعي والاقتصادي بعين الاعتبار وأن وراءه أسباب سياسية وانتخابية.
ولم ينحصر الجدل في أرقام أو خلاصات بحثية فقط، بل امتد إلى أسئلة أعمق تتصل بتوقيت نشر الاستطلاع، والجهات التي وقفت خلفه، والرسائل التي حملها في سياق داخلي يتسم بتصاعد خطاب اليمين المتطرف.
الأرقام الرئيسية في الاستطلاع
ركز الاستطلاع على تزايد الممارسات الدينية وارتفاع نسب المتدينين بين المسلمين الفرنسيين وخاصة الشباب مقارنةً بالماضي، أبرزها مثلًا:
- العبادة والصلاة: حوالي 62% من المسلمين صرّحوا بأنهم يصلون يوميًا (ترتفع إلى 67% بين الفئة العمرية تحت 25 عامًا). وفي مؤشر ملحوظ، ارتفعت نسبة من يزورون المسجد أسبوعيًا إلى 35% عام 2025 مقابل 16% عام 1989.
- الصيام: 73% من المسلمين أفادوا أنهم صاموا شهر رمضان كاملًا عام 2025 (مقابل 60% عام 1989)، فيما وصلت نسبة الصيام إلى 83% بين الشباب (18-24 سنة).
- ارتداء الحجاب: حوالي 31 % من النساء المسلمات في فرنسا يرتدين الحجاب اليوم (19% يلبسنه بانتظام)، وترتفع النسبة عند الشابات (18-24 سنة) إلى نحو 45%، مما يعني تضاعفها ثلاث مرات تقريبًا منذ التسعينيات.
- الهوية الإسلامية: 87% من الشباب (15–24 سنة) قالوا إنهم “متدينون”، فيما أشار 65% من عموم المسلمين إلى أن الدين الإسلامي أكثر صحة من العلم في تفسير أصل الكون.
- الاختلاط بين الجنسين: أفاد 43% من المسلمين أنهم يرفضون شكلًا أو أكثر من مظاهر التعامل المختلط مع الجنس الآخر.
- الالتزام بالشريعة الإسلامية: ارتفعت نسبة المؤيدين لتطبيق الشريعة في فرنسا إلى 46%، منها 15% يرغبون في تطبيقها بالكامل و31% جزئيًا، فيما قال 57% إن القوانين الجمهورية يجب تأتي في المرحلة الثانية بعد أحكام الإسلام.
- التعاطف مع الإسلاميين: 33% من المستطلعين أعربوا عن التعاطف على الأقل مع تيار إسلامي واحد (24% مع الإخوان المسلمين، 9% مع السلفية، 3% مع الجهادية، وغيرها)، وفق وصف المعهد.
أصابع الاتهام نحو الإمارات
أجرى معهد إيفوب هذا الاستطلاع وموله بطلب من مجلة إكران دو ڤاي ربع السنوية غير المعروفة، والتي تُعرّف عن نفسها بأن هدفها “مقاومة التعصبات”.
يترأس تحرير المجلة آتمان تازاغارت، الذي سبق أن أشير إلى علاقاته بمراكز أبحاث إماراتية مع شبهات حول دعم إماراتي، دون أن يؤكد المعهد ذلك رسميًا.
وخلال السنوات الأخيرة، حرّضت الإمارات ضد المسلمين في أوروبا عبر عدة خطوات أبرزها:
- الدعوة إلى مراقبة المساجد وتمويل مراكز أبحاث ووسائل إعلام تتبنى مقاربات عدائية تجاه ما تصفه بـ”الإسلام السياسي”.
- عام 2017، انتقد وزير التسامح الإماراتي الشيخ نهيان مبارك آل نهيان ما وصفه “إهمال الرقابة” على المساجد في أوروبا، وربط بين ذلك وبين “الهجمات الإرهابية”.
- في نفس العام، قال وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد إن القادة الزعماء العرب أكثر حرصًا من الأوروبيين على مواجهة الإرهاب والتطرف، لافتًا إلى أن الأصوات التي تنادي بالقتل وسفك الدماء تخرج من لندن وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا.
- أضاف بن زايد: “أجزم أننا سنرى متطرفين سيخرجون من أوروبا أكثر من الذي يخرجون من العالم العربي”.
- في أبريل/نيسان 2024 أعاد الوزير نشر مقطع فيديو من تصريحاته المذكورة معلقًا: “قلت لكم ذلك”.
ومع أن معهد إيفوب يعد من أعرق مراكز استطلاعات الرأي الفرنسية منذ عام 1938، ويستخدم أساليب بحث قياسية، فقد واجه الأمر انتقادات بسبب التوقيت، حيث يأتي نشر الاستطلاع قبيل الانتخابات البلدية 2026 والرئاسية 2027.
فضلًا عن التوقيت، شابت عملية الاستطلاع خللًا منهجيًا، فعلى الرغم من استخدام طريقة الحصص (وفق الجنس والعمر والمهنة) ما يضمن تمثيل العينة، انتقد خبراء المنهجية.
إذ وصفتها هيئات مثل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية (CFCM) بأنها تحمل “انحيازات منهجية عديدة” تجعل نتائجها “تقريبية وخاطئة”.
من جهته، دافع إيفوب عبر رئيس قسمه السياسي فرانسوا كروس عن منهجيته، مؤكدًا أنها “أُجريت بلا أيّ أحكام مسبقة وملتزمة أدوات البحث المألوفة”.
ردود فعل سياسية وقضائية وإعلامية
إعلاميًا، استقبلت وسائل الإعلام اليمينية المتطرّفة الاستطلاع بترحيب بالغ، وعدّت أنّ نتائجه تؤكد مخاوفهم من “تغلغل الإسلام”، وبدأت حملات تضخيم.
وروجت وسائل الإعلام المقربة من اليمين المتطرّف للاستطلاع باعتباره إثباتًا لسيناريو “التهديد الإسلامي”.
سياسيًا، أصدرت قيادات حزب التجمع الوطني (اليمين المتطرّف) بيانات تصر على أن الاستطلاع دليل على “الخطر المحدق بالجمهورية” مما يتطلب “المزيد من الإجراءات القمعية”.
وقال لوران فوكوييه رئيس كتلة حزب الجمهوريين في البرلمان إن نتائج الاستطلاع تعدُّ “نداءً للاستيقاظ”، ودعا إلى تسريع قوانين حظر الحجاب.
على الجهة المقابلة، أثار الاستطلاع استياء منظمات حقوقية ومدنية عديدة في فرنسا، فقد أدان المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية (CFCM) الدراسة واصفًا إيّاها بأنها “محاولة لوصم المسلمين” وأنها “تعطي زخمًا للإسلاموفوبيا”.
وأوضح أن الدراسة لها “انحيازات منهجية عديدة”، وندّد بما وصفه بإخراج نتائج أقلية لإثارة الجدل.
وقد استهدفت أحزاب اليسار الاستطلاع بسرعة عند ظهور نتائجه، ووجهوا له اتهامات بـ”وصم المسلمين”.
قضائيًا، قدّمت عدة مجالس إسلامية إدارية “في لواريه، أوب، وبوش دو رون” شكوى رسمية بدعوى انتهاك مبدأ الموضوعية المنصوص عليه في قانون الانتخابات والاستفتاءات الفرنسي (لائحة 19 يوليو 1977)، وقد باشرت النيابة تحقيقًا أوليًا في الموضوع.
في المقابل، رفع معهد “إيفوب” دعوى قضائية ضد اثنين من نواب اليسار المتشدد (من حزب فرنسا الأبية)، هما باستيان لاشو وبول فانير، لاتهامهما للمعهد بـ”التلاعب”.
كما رفعت مجلة إكران دو ڤاي نفسها دعوى ضد فانير بتهمة “التحريض على القتل” بعدما نشر على وسائل التواصل عنوان المقر التحريري لها.