ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد أقل من أسبوعين على هجوم “حماس” في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، توجّه الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى إسرائيل واحتضن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وقد عكست تلك اللقطة حجم التعاطف الذي أبداه الأمريكيون مع الإسرائيليين عقب ما تعرّضوا له من عنف مروّع، كما جسّدت في الوقت ذاته ردّة فعل سياسية ومؤسسية راسخة داخل الحزب الديمقراطي.
وخلال رئاسة بايدن، أصبح هذا النهج يُعرف اختصارًا بـ”استراتيجية احتضان بيبي“، أي الرهان على أن إغراق نتنياهو بدعم غير مشروط سيمنح الولايات المتحدة هامشًا للتأثير في سلوكه. غير أن هذه المقاربة، وعلى مدار الأشهر الخمسة عشر الأخيرة من ولاية بايدن، دفعت البيت الأبيض إلى السماح بتدفّق غير مسبوق للأسلحة المستخدمة في قصف الفلسطينيين، واستخدام حق النقض ضد قرارات مجلس الأمن الداعية إلى وقف إطلاق النار، ومهاجمة المحكمة الجنائية الدولية بسبب سعيها لملاحقة نتنياهو قضائيًا، وتجاهل سياساته المعلنة بشأن دعم وحدات عسكرية متّهمة بصورة موثوقة بارتكاب جرائم حرب، فضلًا عن تحميل “حماس” مسؤولية فشل اتفاقات وقف إطلاق النار التي كانت الحكومة الإسرائيلية ترفضها بدورها.
وقد وضعت هذه السياسة الديمقراطيين في موقع التناقض وهم يرفعون شعارات “النظام القائم على القواعد”، والمساواة العرقية، والديمقراطية. كما أسهمت في تنفير قطاعات من قاعدتهم الانتخابية، وأظهرت الحزب في حالة انفصال متزايدة عن الناخبين الشباب. وفي سياق يتّسم بتصاعد النزعات الاستبدادية، بدا ولاء الديمقراطيين لزعيم إسرائيلي قوي اعتاد إحراجهم، أشبه بعلامة ضعف سياسي، إذ انتهى الأمر باحتضان نتنياهو، سياسيًا، وصولًا إلى ارتمائه في أحضان دونالد ترامب.

واليوم، ومع التوصّل إلى وقف إطلاق نار هش، قد يبدو من المغري للحزب الديمقراطي تجاوز ما جرى في غزّة ودفنه في الماضي. فالديمقراطيون حققوا مؤخرًا انتصارات انتخابية لافتة ركّزت على قضايا تكلفة المعيشة، كما لا يوجد إجماع سهل بشأن الشرق الأوسط. إلا أن هذا التجاهل لن يؤدي إلا إلى تعميق الخطأ المتمثّل في تبرير واقع بات غير قابل للاحتمال.
في غزّة، يعيش الفلسطينيون وسط الأنقاض، بينما لا يزال حكم “حماس” متجذّرا، ويستمر منع الصحفيين الدوليين بصورة منهجية من دخول القطاع لتوثيق حجم الدمار. وفي الوقت نفسه، صوّت الكنيست الإسرائيلي مرة أخرى لمصلحة ضمّ الضفّة الغربية، حيث تتصاعد اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين بوتيرة متزايدة. أمّا المشهد السياسي في إسرائيل فقد انجرف إلى أقصى اليمين، إلى حدّ أن إزاحة نتنياهو نفسها لا يبدو أنها ستفتح الباب أمام حكومة معتدلة قادرة على تغيير المسار بسرعة.
لا شك أن هذه القضية تمثّل شأنًا مؤلمًا وشخصيًا لكثير من السياسيين والناخبين القلقين بصدق على أمن إسرائيل وسلامة اليهود حول العالم. غير أن اللحظة الراهنة تستدعي من الديمقراطيين التوقّف عن دعم هذه الحكومة الإسرائيلية. فمن خلال التخلي عن مقاربة عفا عليها الزمن، يمكن للحزب استعادة قيمه المعلنة، وبناء تحالف أوسع وأكثر تماسكًا، والعمل على بلورة العالم الذي يسعى إليه بدل الاكتفاء بالدفاع عن سياسات بات من الصعب تبريرها.
تاريخيًا، امتلك الديمقراطيون دوافع أخلاقية واضحة لدعم إسرائيل. فقد رأى لويس برانديز في الكيبوتسات الاشتراكية ملاذًا لليهود الأوروبيين وجزءًا من مشروع عالمي لتعزيز السياسات التقدّمية. كما مثّل اعتراف الرئيس هاري ترومان بإسرائيل التزامًا بأمن الشعب اليهودي في أعقاب الهولوكوست. وشارك اليهود جنبًا إلى جنب مع الأمريكيين السود في النضال من أجل الحقوق المدنية، مشكّلين معًا نواة أساسية في القاعدة الانتخابية للحزب الديمقراطي. وخلال الحرب الباردة، حافظت إسرائيل على صورة مزدوجة، بوصفها دولة “ضعيفة” نسبيًا وحليفا ديمقراطيا في آن واحد.

ورغم أن هذا الدعم تجاهل مرارًا وتكرارًا واقع تهجير الفلسطينيين، فقد أصبح من الأصعب اليوم على السياسيين التوفيق بين خطابهم بشأن إسرائيل والواقع المتمثّل في حكومة يمينية مصمّمة على منع قيام دولة فلسطينية والمضي قدمًا في ضمّ الضفّة الغربية.
ويكفي التوقّف عند اللغة التي يعتمدها كثير من الديمقراطيين بصورة نمطية. فإسرائيل تُوصَف بأنها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” و”لها الحق في الدفاع عن نفسها”، فيما يُطلَب من السلطة الفلسطينية أن “تُصلِح” نفسها وأن تصبح “شريكًا ذا مصداقية من أجل السلام” لتحقيق “حلّ الدولتين اللتين تعيشان جنبًا إلى جنب بسلام وأمن”. ورغم أن هذه العبارات لا تُثير اعتراضًا بحدّ ذاتها، إلا أنها تبدو جامدة في الزمن منذ توقيع اتفاقيات أوسلو سنة 1993، التي قايضت شكليًا اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل بحقّهم في تقرير المصير.
وبحلول الوقت الذي عملتُ فيه في البيت الأبيض خلال عهد الرئيس باراك أوباما، كانت إسرائيل قد أصبحت قوة عسكرية إقليمية كبرى. في تلك المرحلة، كانت المستوطنات الإسرائيلية تتوسّع بوتيرة متسارعة في الضفّة الغربية، فيما أفضى توسّع الجدران والحواجز الأمنية ونقاط التفتيش، إلى جانب القيود المفروضة على العمل وحرية التنقّل، إلى تكريس واقع من القمع والتهميش اليومي للفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، كانت “حماس” تسيطر على غزّة، التي خُنقت بحصار إسرائيلي دائم وتعرّضت لحروب دورية مدمّرة. أمّا السلطة الفلسطينية، فكانت لا تحكم سوى أقل من نصف الضفّة الغربية، وقد نالت من شرعيتها ضربات قاصمة بسبب الفساد وتعاونها مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.
في واشنطن، تمسّكت لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك) والمنظمات المتحالفة معها بموقف مفاده ألّا يكون هناك أيّ فارق أو تباعد بين الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي، واضعةً عبء التماهي السياسي على عاتق أوباما في علاقته مع نتنياهو. وطوال تلك السنوات، لم يتوانَ نتنياهو عن توجيه انتقادات لاذعة لسياسة أوباما الخارجية، ولا سيما أي مسعى يهدف إلى رسم حدود لدولة فلسطينية، فضلًا عن معارضته الحادّة لمساعي الإدارة الأمريكية للتوصّل إلى اتفاق نووي مع إيران.
وقد وجد كثير من الديمقراطيين أنفسهم نتيجة ذلك في موقع بالغ الإحراج، إذ سعوا إلى الحفاظ على دعم منظمات تضمّ متبرّعين مرتبطين بـ”أيباك” ولجان عمل سياسية تابعة لها، أنفقت عشرات الملايين من الدولارات لمهاجمة سياسات رئيس ديمقراطي، وساهمت بشكل منهجي في إضعاف الجهود الرامية إلى تحقيق حلّ الدولتين.
في 2009، اكتفى نتنياهو بإطلاق تصريحات مجاملة حول إمكانية قيام دولة فلسطينية، لكن بحلول سنة 2015، بات يتعهّد علنًا بعدم قيام مثل هذه الدولة ما دام في منصبه. ويختزل هذا التحوّل عبثية المحاولتين الرئيستين لحلّ الصراع خلال حقبة أوباما. في كلتيهما، بدا نتنياهو أكثر اهتمامًا بإلقاء اللوم على الفلسطينيين عند تعثّر المفاوضات من اهتمامه بتحقيق سلام فعلي. وبحلول سنة 2016، كانت تلك نقاط الحوار الديمقراطية التي كنتُ أستخدمها بانتظام، قد تحوّلت إلى مجرّد شعارات: صيغة بالية تُستهلك في واشنطن أكثر مما تعكس الواقع الفعلي في الشرق الأوسط.

ولو كان لدى الديمقراطيين أي أوهام بشأن نهج نتنياهو السياسي، كان ينبغي أن تتبدد خلال إدارة ترامب الأولى. فبعد أن تخلّى ترامب عن إجماع أوسلو ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أغدق نتنياهو و”أيباك” عليه المديح والإطراء. ومع ذلك، وعندما أطلق ترامب “اتفاقيات أبراهام” التي طبّعت العلاقات بين إسرائيل وبعض الأنظمة العربية الاستبدادية، هلّل كثير من الديمقراطيين لها بسذاجة بوصفها “اتفاق سلام”، رغم أنها لم تُنهِ أي حروب، وتم فيها تهميش الفلسطينيين بالكامل.
وبعد أن حسم بايدن ترشحه عن الحزب الديمقراطي للرئاسة في 2020، دعمتُ مسعى لإدراج لغة في برنامج الحزب تشير إلى “الاحتلال” الإسرائيلي للضفّة الغربية، وتتعهد بتقييد المساعدات لإسرائيل في حال أقدمت على ضمّ الأراضي الفلسطينية. غير أن هذه المحاولة رُفضت، ما عزّز الرسالة القائلة إن الديمقراطيين غير مستعدين لمعارضة السياسات الإسرائيلية، حتى عندما تتعارض بشكل مباشر مع مواقف الحزب الراسخة.
وفي الصراع المستمر بين الديمقراطية والاستبداد الذي طبع رئاسة بايدن، كان واضحًا إلى أي جانب ينتمي نتنياهو. باتباعه كتيّبًا استبداديًا مألوفًا، شدّد الخناق على المجتمع المدني، وهاجم الإعلام المستقل، واحتضن حركة مستوطنين تزداد عنفًا، وحاول تقويض المحاكم الإسرائيلية، ما أدى إلى احتجاجات واسعة النطاق. ومع ذلك، ظلّ حجر الزاوية في سياسة بايدن الشرق أوسطية هو “اتفاقيات أبراهام”، ولا سيما المبادرة الرامية إلى ضمّ السعودية إلى هذا الإطار من دون قيام دولة فلسطينية.
ثم جاء 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وفجأة وجد يهود الولايات المتحدة أنفسهم في مواجهة صور لمجزرة جماعية في جنوب إسرائيل، إلى جانب شبح تصاعد معاداة السامية داخل الولايات المتحدة، من أقصى اليمين وأقصى اليسار على حدّ سواء.

لم يكن من الضروري أن تقود تلك الصدمة إلى دعم أمريكي لسياسة إسرائيلية قائمة على الانتقام. بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول مباشرة، بدأ كبار القادة الإسرائيليين يصفون الفلسطينيين في غزّة بأنهم “حيوانات بشرية” يعيشون في “مدينة شريرة“، مع قطع إمدادات الغذاء والمياه، في وقت كانت فيه الغارات تستهدف مقاتلي حماس والمدنيين على حد سواء.
جزء من الغضب الناتج عن مجريات الأحداث يعود إلى مدى قابلية التوقّع. فعندما دعت إدارة بايدن أخيرًا إلى ضبط النفس، وُجه إليها التوبيخ باعتبار أنها لم تدعم إسرائيل بالقدر الكافي، بينما استمر تدفّق السلاح بلا انقطاع. وعندما اقتربت اتفاقات وقف إطلاق النار، واصل نتنياهو الحرب للحفاظ على تماسك ائتلافه اليميني المتطرّف، رغم أن استطلاعات الرأي أظهرت أن غالبية الإسرائيليين تؤيد إنهاء الحرب مقابل الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين المتبقّين. وعندما احتجّ مشرّعون ديمقراطيون، قامت “أيباك” والجهات المرتبطة بها بتوجيه أموال من متبرعين جمهوريين إلى الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي لإسقاط المشرعين الذين انتقدوا إسرائيل.
لم يدعم سوى قلّة من الديمقراطيين سلوك إسرائيل، لكن كثيرين اختاروا التشديد على رواية “الإرهاب الفلسطيني” ورفض الفلسطينيين للسلام، وهذا يمثل جزءًا من المشكلة. نعم، كان ياسر عرفات مفاوضا عنيدا في قمة كامب ديفيد سنة 2000، لكن هل يبرّر ذلك التهجير المستمر للفلسطينيين في الضفّة الغربية منذ ذلك الحين؟ نعم، ارتكبت “حماس” أعمالًا إرهابية فظيعة، لكن هل يبرّر ذلك إسقاط قنابل أمريكية تزن 1000 كيلوغرام على مخيمات لاجئين مليئة بالأطفال؟
واليوم، لم يعد بوسع أحد إنكار أن الحكومة الإسرائيلية منعت وصول المساعدات إلى غزّة، واستخدمت القوة ضد المدنيين بما يتجاوز بكثير قوانين الحرب، ودمّرت معظم القطاع. وقد دفعت هذه الوقائع كثيرًا من الأكاديميين ومنظمات حقوق الإنسان وهيئات الأمم المتحدة إلى الاستنتاج بأن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية باستخدام أسلحة وفّرتها الولايات المتحدة، وهي وصمة أخلاقية لا يمكن محوها.
يجد كثير من الديمقراطيين أنفسهم عالقين في منطقة رمادية، متمسّكين بخطاب جاهز منفصل عن واقع الشرق الأوسط، وعن صعود النزعة الاستبدادية العالمية، وعن الاتجاه اليميني المتطرف في كل من السياسة الإسرائيلية والأمريكية. فإذا كنت تؤمن بأن الطفل الفلسطيني يساوي في الكرامة والقيمة الطفل الإسرائيلي أو الأمريكي، لم يعد من الممكن دعم هذه الحكومة الإسرائيلية، بينما تختبئ خلف عبارات إنشائية عن السلام.

يدرك الناخبون هذه الحقيقة بوضوح. أظهرت استطلاعات الرأي أن ثلث الديمقراطيين فقط ينظرون بإيجابية إلى إسرائيل، مقارنة بـ73 بالمئة سنة 2014. وقد عارضت الغالبية العظمى من الأمريكيين تقديم مساعدات عسكرية للحكومة الإسرائيلية هذا الصيف، فيما أقرّ 77 بالمئة من الناخبين الديمقراطيين بأن إبادة جماعية حدثت في غزّة. كما يرى أكثر من 60 في المئة من اليهود الأمريكيين أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب بحق الفلسطينيين في القطاع، رغم أن الغالبية العظمى منهم تعتبر وجود إسرائيل أمرًا حيويًا.
وقد بدأ سياسيون ديمقراطيون بالاستجابة. هذا الصيف، صوّتت غالبية أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين لعرقلة نقل الأسلحة إلى إسرائيل، ودعا عدد من أعضاء مجلس النواب مؤخرًا إلى اعتراف الولايات المتحدة بدولة فلسطينية. كما رفض عدد متزايد من الديمقراطيين تلقّي أموال من “أيباك”. ومع ذلك، يستمر جدل حاد، يتجلّى في رفض بعض قادة الديمقراطيين دعم مرشّح الحزب لمنصب عمدة نيويورك، أو التبرؤ من “أيباك”، أو وقف تسليح نتنياهو.
ليس من الصحي لأي حزب سياسي أن يكون بعيدًا إلى هذا الحد عن ناخبيه وقيمه المعلنة. وأبسط ما يمكن فعله هو رفض تقديم مساعدات عسكرية لحكومة ارتكبت جرائم حرب، ودعم عمل المحكمة الجنائية الدولية، سواء تعلق الأمر بفلاديمير بوتين أو بنيامين نتنياهو، ومعارضة أي مسعى إسرائيلي لضمّ الضفّة الغربية أو تنفيذ تطهير عرقي في غزّة، والاستثمار في قيادة فلسطينية بديلة لـ”حماس” قادرة على حكم دولة فلسطينية مستقبلًا، والدفاع عن الديمقراطية في إسرائيل كما في الولايات المتحدة.
نعم، يجب أن تكون هناك خيمة واسعة تلم شمل حركة استعادة الديمقراطية الأمريكية، لكن هذه الحركة لا يمكن أن تنجح إذا كانت مرتهنة لجماعات مثل “أيباك” التي تموّل سياسات اليمين المتطرّف.
هل ستؤدي هذه المواقف إلى حلّ سريع للصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟ كلا. لكنها تقدّم خريطة طريق لمستقبل مختلف في الشرق الأوسط، وتعيد مواءمة السياسة الخارجية للحزب الديمقراطي مع قناعاته الجوهرية.
سيجادل البعض بأن هذه المواقف تُعرّض إسرائيل واليهود في الشتات للخطر، لكن هذا الادعاء يصحّ فقط إذا كنت تعتقد أن المسار الحالي سيضمن أمن إسرائيل واليهود. وأنا أرى العكس تمامًا.

بسبب أفعالها، أصبحت إسرائيل معزولة بشدّة، ولن يتحسّن وضعها إذا استمرّ الوضع الراهن، بل سيزداد سوءًا. وبدلًا من تقوية اليمين الإسرائيلي عبر الرضوخ لسياساته، يجب على الديمقراطيين أن يتضامنوا مع الإسرائيليين الذين يسعون إلى بديل حقيقي لنتنياهو وائتلافه. ويتطلّب ذلك الاستعداد لاستخدام النفوذ، لا التعهّد بالتخلي عن الدعم.
بالطبع، هناك معاداة للسامية بين بعض منتقدي إسرائيل، ويجب إدانتها. لكن التهمة باتت تُستخدم بشكل فضفاض ومفرط إلى درجة تفقدها معناها، ما يسمح بالتطبيع مع نظريات المؤامرة البغيضة ضد اليهود عبر خلطها بانتقادات مشروعة للسياسات الإسرائيلية.
كما أن ادعاءات إدارة ترامب المتواصلة بأن منتقدي إسرائيل “معادون للسامية” تحجب الخطر الحقيقي المتمثل في صعود القوميين العرقيين اليمينيين في أنحاء الغرب. فإذا اعتقدت أن طالبًا جامعيًا يهوديًا يبلغ 19 عامًا يهتف “حرّروا فلسطين” أخطر من نائب رئيس الولايات المتحدة الذي يومئ بأن على الألمان دعم حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرّف، فأنت تستخلص دروس التاريخ بشكل خاطئ.
قد يخسر الديمقراطيون بعض الدعم السياسي إذا ابتعدوا عن إسرائيل، خصوصًا بين المتبرّعين، لكن بإمكان الحزب توضيح استعداده لدعم حكومة إسرائيلية مستقبلية إذا انسجمت سياساتها مع المعايير الإنسانية والديمقراطية.
كما أن المخاطر السياسية مبالغ فيها. فالأغلبية الساحقة من اليهود الأمريكيين واصلت التصويت للديمقراطيين في الانتخابات الأخيرة، رغم الجهود الحثيثة من الجمهوريين لاستخدام إسرائيل كورقة ضغط على الحزب الديمقراطي. ومن خلال تبني موقف أخلاقي واضح، يمكن للحزب الديمقراطي جذب ناخبين جدد وإظهار إدراكه لطبيعة اللحظة التاريخية التي نعيشها.
يريد الناخبون قادة أقوياء مستعدّين لاتخاذ مواقف مبدئية، على استعداد للنضال من أجلهم ومواجهة الطغاة الفاسدين حيثما كانوا.
صحيح أن كثيرًا من الديمقراطيين لن يتبنّوا آراء زهران ممداني، عمدة نيويورك المنتخب، بشأن إسرائيل. لكن أحد أسباب اعتقاد سكان نيويورك أنه سيكافح لخفض تكاليف المعيشة هو معرفتهم بقناعاته الراسخة. فقد أظهر استعداده للتعرض للانتقادات من أصحاب النفوذ بسبب مواقفه من إسرائيل، بمن فيهم الرئيس ترامب وبعض المليارديرات الداعمين له، أنه لا يخشى الدفاع عن معتقداته. وعلى النقيض، لم تبدُ محاولة خصمه الأبرز في السباق، أندرو كومو، مغازلة الناخبين المؤيدين لإسرائيل، من بما في ذلك تطوّعه للعمل ضمن فريق الدفاع القانوني عن نتنياهو، موقفًا شجاعًا أو أصيلًا.
لقد أظهرت “استراتيجية معانقة بيبي” أن الطريق الذي يبدو أكثر أمانًا قد يتحوّل إلى الأكثر خطورة، سياسيًا وأخلاقيًا واستراتيجيًا. في عصر الاستبداد على وجه التحديد، لا يمكن للسياسيين أن يطلبوا من الناس مواجهة حقائق صعبة بينما يتجنّبون هم الخروج من منطقة الراحة. يجب أن يستند الحزب الديمقراطي المتجدّد إلى رؤية أخلاقية يفتقر إليها العالم بشدّة. ففي بعض الأحيان، لكي تنتصر، عليك أن تُظهر أنك مستعد للدفاع عن مبادئك حتى لو كلّفك ذلك الخسارة.
المصدر: نيويورك تايمز