لم يكن مشهد اصطفاف مئات الإسرائيليين أخيرا أمام السفارة البرتغالية في تل أبيب حدثًا عابرًا، بقدر ما بدا جرس إنذار أعاد إلى الواجهة ملفًا لطالما حاولت المؤسسة الرسمية الإسرائيلية التقليل من خطورته: الهجرة العكسية من “إسرائيل”.
فخلف طوابير الحصول على الجنسيات الأوروبية، تتراكم أسئلة أعمق تتعلق بفقدان الثقة بالأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي في “إسرائيل”، وذلك منذ تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو نهاية 2022، والتي تعد الأكثر يمينية وتطرفا في تاريخ الكيان.
أسباب الهجرة العكسية (2023 – 2025)
أسباب سياسية: بدأت الموجة بالتصاعد بعد تشكيل حكومة نتنياهو، وما تبع ذلك من محاولات للانقلاب على القضاء عبر تركيز السلطة القضائية في يد السلطة التنفيذية، وسيطرة الحكومة على تعيينات القضاة، وإلغاء تدخل المحكمة العليا في الأوامر التنفيذية، وغيرها.
أسباب أمنية: أدى اندلاع عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى زيادة الهجرة العكسية وازدياد الطلب على جوازات سفر أوروبية كوسيلة “أمان” في ظل انعدام الاستقرار.
أسباب اقتصادية: لعبت المخاوف المالية دورا مهما، إذ وثّقت الدراسات انخفاضا في ثقة الإسرائيليين بدولتهم نتيجة الشعور بالتزعزع وانعدام الأمن الاقتصادي والاجتماعي، بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة والضغوط الاقتصادية.
أسباب اجتماعية وثقافية: رافق التوتر السياسي والاجتماعي عامَّة شعور بفقدان الاستقرار والثقة بالمؤسسات والتحذير من أن “إسرائيل” تعيش في أزمة اجتماعية عميقة.
العزلة الدولية: ربطت تقارير غربية وإسرائيلية بين تصاعد طلب الإسرائيليين على جوازات سفر أجنبية وبين تنامي المخاوف من العزلة الدولية والقيود المحتملة على حرية السفر على حاملي الجواز الإسرائيلي في أعقاب جرائم الحرب في غزة.
من المغادرة إلى طلب الجنسيات الغربية
ومع تصاعد المخاوف الأمنية وتآكل الشعور بالاستقرار، بات السعي للحصول على جواز سفر غربي خيارًا احتياطيًا لدى آلاف الإسرائيليين ليمثل “شبكة أمان” في زمن الشكوك المتراكمة، وتوزّع هذا التوجّه نحو الجنسيات الغربية على عدد من الدول الأوروبية، التي برزت على النحو التالي:
البرتغال
حتى عام 2022، كان 60 ألف إسرائيلي يحملون الجنسية البرتغالية، مع أن معظمهم لم يعيشوا في البرتغال فعلياً.
وقد بلغ عدد المتقدمين لطلبات المواطنة البرتغالية عبر قانون العائد البرتغالي (لعائلات اليهود السفارديم) نحو 20,975 إسرائيلياً في 2022 فقط، وهو أكبر عدد لأي جنسية أجنبية أخرى.
أقر هذا القانون عام 2015 لتعويض أحفاد المجبرين على الرحيل عن البرتغال في العصور الوسطى، لكنه كان مقرراً أن ينتهي بنهاية 2023 بحكم غرضه المسمّى “تصحيح تاريخي”.
ورغم ذلك عدّلت البرتغال القواعد بدلاً من إلغائه بالكامل، فشددت متطلبات الحصول على الجنسية (بإلزام المتقدم مثلاً بالإقامة فعلياً ثلاث سنوات في البلاد).
ورغم تعديل القانون عام 2023، تتواصل موجة الإقبال، مما دفع السفارة البرتغالية في تل أبيب لتخصيص يوم 29 نوفمبر 2025 لقبول طلبات الحصول على الجنسية دون مواعيد مسبقة، مما أدى إلى تشكّل طوابير هائلة عند باب السفارة بمئات الأمتار.

ألمانيا
في نفس السياق، صدّقت برلين منذ أغسطس/آب 2021 على تعديل بالدستور (المادة 116/2)، يسمح بتجنس “ضحايا الاضطهاد النازي أو ذريتهم” دون اشتراط التخلي عن الجنسية الإسرائيلية.
وقد انعكس ذلك في ارتفاع مفاجئ لطلبات الإسرائيليين؛ فقد بلغ عدد مقدمي الطلبات للحصول على الجنسية الألمانية بين يناير وسبتمبر 2024 نحو 18,448 إسرائيلياً، أي ضِعف عددهم عام 2023 (9,178) وأكثر من ثلاثة أضعاف عام 2022.
ويُعزى هذا الجزء إلى أن كثيراً من الإسرائيليين يعرفون أن أحد والديهم أو أجدادهم اضطروا للهجرة إبان الحقبة النازية، فيكونون مؤهلين للحصول على الجواز الألماني كنوع من التعويض.
دول أخرى
يسعى بعض الإسرائيليين أيضاً للحصول على جنسيات من دول غربية أخرى. إذ يطالب البعض بتسهيلات من إيطاليا (المواطنة بالميلاد) وأيرلندا (الأصول الأيرلندية)، وإن كانت هذه الإجراءات أقلّ شيوعاً.
وبحسب تقرير لـ”واشنطن بوست“، يستفيد حوالي 200 ألف إسرائيلي من جوازات أوروبية (من ألمانيا، بولندا، إسبانيا، البرتغال) لحرية التنقل داخل الاتحاد.
ميزان الهجرة.. الأرقام لا تكذب
تشهد “إسرائيل” في السنوات الأخيرة تزايداً ملموساً في عدد مواطنيها المغادرين مقارنة بالوافدين أو العائدين إليها.
- 12,300 إسرائيلي غادر في أكتوبر 2023 – بزيادة 285 % مقارنة بالشهر نفسه من عام 2022.
- نحو 79 ألفاً عدد المغادرين الدائمين عام 2024 مقابل حوالي 46 ألف وافد جديد أو عائد (خسارة صافية تقارب 33 ألف نسمة).
- نحو 82 ألف مغادر دائم خلال عام 2023، وهو الأعلى منذ 2010.
- إسرائيل خسرت نحو 145.9 ألف نسمة صافي بين 2020 و2024 (أي أن عدد المغادرين تجاوز العائدين بمقدار 145,900).
- بين أكتوبر 2023 ومارس 2024 عاد إلى إسرائيل 8,900 فقط، مقابل 11,200 في الفترة المماثلة قبل الحرب (أكتوبر 2022 – مارس 2023).
- وصل نحو 38.5 ألف مهاجر جديد في 2023، وتراجع العدد إلى 22 ألفا في 2024 (معظمهم من روسيا والدول السوفييتية سابقاً)، في حين انخفض عدد الوافدين من الدول الغربية مقارنة بالسنوات السابقة.
خلفية المغادرين
- تميل فئة الراغبين بالهجرة من “إسرائيل” إلى العلمانيين والليبراليين والحاصلين على تعليم عالٍ.
- في استطلاع حديث، أفاد 39% من الإسرائيليين العلمانيين بأنهم يفكرون بالهجرة مقابل 3% فقط من المتدينين الحريديم.
- أعرب 42.5% من الناخبين اليساريين عن نيتهم بالرحيل مقابل 19% من اليمينيين.
“تسونامي ديمغرافي”
يراقب الساسة الإسرائيليون هذه الظاهرة بقلق بالغ، فقد اعترفت اللجنة البرلمانية المُخصصة للهجرة بأن ما يحدث “يهدد مناعة الدولة اجتماعياً واقتصادياً”.
ويقول خبراء إن هجرة النخبة التقنية والاقتصادية (المسؤولة عن دفع قرابة ثلث الضرائب في “إسرائيل”) من شأنه أن يُضعف الاقتصاد الحكومي على المدى البعيد.
وقد بدأت الحكومة تدق ناقوس الخطر، إذ تفكر “إسرائيل” في إجراءات لمواجهة “النزيف الديمغرافي”، مثل تشجيع العائدين بتسهيلات ضريبية أو تحفيز مشاريع اقتصادية في الداخل، وفق يديعوت أحرونوت.
غير أن بعض الجهات الرسمية تُعرب عن تخوّفها من أن زخم الهجرة سيستمر إلى حين تغيير السياسات الداخلية والخارجية التي يعيش على أثرها الكثيرون في قلق دائم.
ووصف عضو الكنيست جلعاد كريڤ هذه الظاهرة بأنها “تسونامي” تتفاقم بفعل سياسات الحكومة وإهمال الشأن المدني، محذراً من أنها “تهدد أي قيمة صهيونية وتناقض مستقبل الدولة”.