رغم الخطاب الدبلوماسي الفرنسي الذي يتخذ أحياناً مظاهر إنسانية وأخلاقية تجاه الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، يبقى الواقع العملي ثابتاً في دعم “إسرائيل” كشريك سياسي وأمني في الشرق الأوسط، بما يشمل استمرار هذا الدعم حتى في فترات الحروب والتصعيد، ما يعكس التناقض بين الشعارات الرمزية والممارسة الفعلية.
يعكس هذا التناقض بنية نفوذ معقدة من شبكات صهيونية متغلغلة في السياسة والإعلام والاقتصاد الفرنسي، تمتلك علاقات ومداخل مالية وقدرة على تشكيل الرأي العام، ما ساهم في تثبيت توجهات السياسة الخارجية الفرنسية وربطها بالمصالح الإسرائيلية ضمن منظومة نفوذ تاريخية متراكمة.
وفي قلب هذه الشبكة، يبرز المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (CRIF) كفاعل رئيسي في التأثير السياسي، حيث يمارس ضغطاً منظماً على صناع القرار الفرنسي، ويعمل على بلورة مواقف الدولة تجاه “إسرائيل” والشرق الأوسط، ليصبح بذلك أداة محورية في تشكيل النقاش العام والسياسات الفرنسية في المنطقة، مما يطرح تساؤلات حول نفوذ هذا المجلس وتفاعل الدولة مع منظمات الضغط ومدى تأثيرها على القرار الاستراتيجي.
ما حجم الجالية اليهودية في فرنسا؟
تُعد فرنسا ثالث أكبر موطن لليهود عالمياً بعد الولايات المتحدة و”إسرائيل”، إذ يتراوح عدد أفراد الجالية بين 480 و550 ألف شخص، وقد تراكم هذا الوجود تاريخياً منذ الثورة الفرنسية، وتوسع عبر موجات هجرة متعاقبة، خاصة خلال الحربين العالميتين وما بعدهما، ومع مرور الزمن، أصبح لليهود حضور مؤثر في المؤسسات الثقافية والاقتصادية والبحثية والجامعية، ما منحهم وزناً نوعياً داخل البنية المجتمعية والسياسية الفرنسية.

ويقوم نفوذ اللوبي الصهيوني في فرنسا على منظومة كيانات متشابكة، يتصدرها المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية (CRIF) باعتباره القناة الأكثر تأثيراً في النقاش السياسي والإعلامي، وإلى جانبه يبرز اتحاد الطلاب اليهود في فرنسا (UEJF) كمنصة مؤثرة داخل الجامعات، إضافة إلى جماعات ذات توجه أكثر تشددًا مثل جمعية “بيتار” و”رابطة الدفاع اليهودية”، وتشكل هذه الكيانات معاً شبكة ضغط فاعلة تسهم في توجيه مواقف باريس إزاء القضايا المرتبطة بـ”إسرائيل” والشرق الأوسط.
متى تأسس اللوبي الإسرائيلي في فرنسا؟
تأسس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (CRIF) عام 1944، من رحم لجنة الدفاع اليهودية العامة التي أُحدِثَتْ سرًا في يوليو/تموز 1943 خلال الاحتلال النازي لفرنسا، بهدف إنقاذ اليهود الهاربين والدفاع عنهم، ليصبح خلال عقود أحد أبرز الأطر التنظيمية للجالية اليهودية في البلاد، إذ يضم ما يقارب مئة ألف عضو، ويرتبط على المستوى الدولي بـ الكونغرس اليهودي العالمي المعروف بتأييده للحركة الصهيونية، وقد جمع في صفوفه طيفاً واسعاً من النشطاء والمنظمات، من التيارات التقليدية وصولاً إلى الأصوات الأكثر تشدداً في الدفاع عن “إسرائيل” وسياساتها.
في الأدبيات السياسية والبحثية، يُقدَّم “كريف” بوصفه أحد أقوى أذرع اللوبي المؤيد لـ”إسرائيل” في فرنسا، حتى وُصف بأنه «الصوت الثاني لإسرائيل» أو «امتداد تل أبيب داخل الساحة الفرنسية»، فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، تحوّل المجلس تدريجياً إلى الفاعل المهيمن في الحياة المؤسسية اليهودية، جامعاً بين دور الإطار التمثيلي للجالية ودور منصة الضغط السياسي المنخرطة بشكل مباشر في الدفاع عن الرواية الإسرائيلية على المستوى الفرنسي.
ويرى عدد من الباحثين أنّ المجلس يمثّل اليوم الركن المركزي للّوبي الصهيوني في فرنسا، مع انسجام واضح بين مواقفه السياسية وخطابات حكومات اليمين الإسرائيلي، خصوصاً خلال حقبة نتنياهو، وفي أوقات الأزمات والحروب، تتزايد حدة هذا الدور، إذ يتحول “كريف” عملياً إلى قناة موازية لخطاب السفارة الإسرائيلية في باريس، يروّج الرسائل ذاتها، ويوجّه دفّة النقاش العام بما يتوافق مع المصالح الإسرائيلية.
ما هي مصادر التمويل؟
لا توجد معلومات دقيقة وموثقة عن مصادر تمويل كريف لنشاطاته وتحركاته، فهناك تعتيم واضح يفتقد للشفافية، إلا أن المؤكد هو وجود شبكة متعددة المصادر تمثل الدعم المالي للجمعية، سواء على المستوى المحلي أو الدولي، من جهات وأفراد يهود وفرنسيين وداعمين لـ”إسرائيل” والصهيونية حول العالم.
تشمل هذه المصادر تبرعات وهبات مباشرة من أفراد وجمعيات يهودية فرنسية، تُخصص لدعم برامج المجلس أو الجمعيات المتحالفة معه، إضافة إلى دعم من مؤسسات اقتصادية وشركات يهودية على الصعيدين المحلي والدولي، وتبرعات رجال أعمال يشاركون في تعزيز نفوذ المجلس، كما تُشكل فعاليات كريف، مثل العشاء السنوي، منصة رئيسية لجمع التمويل، وتُعد حدثاً محوريًا في جدول أنشطته السنوية.
إلى جانب ذلك، يُعتقد وجود دعم ضمني أو مباشر من مؤسسات أجنبية مؤيدة لإسرائيل، رغم غياب توثيق واضح، ما يعكس الطبيعة المعقدة لشبكة التمويل التي تمنح كريف قدرة كبيرة على ممارسة نفوذه السياسي والإعلامي داخل فرنسا وخارجها.
العشاء السنوي
“العشاء السنوي” هو حدث سياسي اجتماعي بارز ينظمه كريف، ويُعد من أهم المناسبات التي يجتمع فيها كبار المسؤولين الفرنسيين مع قيادة المجلس، وغالباً ما يُستخدم كمنبر لإعلان مواقف سياسية تخص “إسرائيل” والجالية اليهودية والعلاقات الفرنسية الإسرائيلية.
ويُعتبر إحدى أهم منصات النفوذ السياسي في فرنسا، حيث تجتمع قمة السلطة التنفيذية مع قيادة اللوبي المؤيد لـ”إسرائيل” في مشهد يكشف حجم التأثير الذي يمارسه المجلس على اتجاهات السياسة الفرنسية، وقد تحوّل هذا العشاء، عبر السنين، إلى موعد ثابت تُحدّد فيه ملامح الخطاب الرسمي تجاه إسرائيل، وتُرسل من خلاله رسائل سياسية حسّاسة داخلياً وخارجياً.
ومن أبرز قادة النخبة السياسية الفرنسية الذين حضروا هذا العشاء، الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء السابق جان كاستيكس، والرئيس السابق نيكولا ساركوزي، أول رئيس فرنسي يشارك في العشاء عام 2008، حيث أكد دعمه لقضايا “إسرائيل” والشتات اليهودي.
كما شارك رؤساء حكومات فرنسيون سابقون مثل ألين جوبيه وليونيل جوسبان، بجانب شخصيات مهمة في اليسار واليمين المعتدل، مع استبعاد اليسار المتشدد واليمين المتطرف من الدعوات الرسمية للعشاء، إضافة إلى قادة يهود دوليون، مثل رئيس الكونغرس اليهودي الأوروبي موشي كانتور الذي حضر كممثل للمجتمع اليهودي العالمي.
الموقع على خارطة النفوذ السياسي
أصبح كريف اليوم أحد أهم الفاعلين في الحياة السياسية الفرنسية، ممثّلاً لـ 73 جمعية يهودية، ومتقدماً في دوره كجسر بين الدولة والجالية اليهودية، فهو يدافع عن مصالح اليهود، ويخوض معارك ضد معاداة السامية، ويعلن تضامنه المستمر مع “إسرائيل” من دون الانخراط في شؤونها الداخلية.
وقد شهدت علاقة المجلس اليهودي مع الأحزاب الفرنسية تحولات لافتة؛ فمن شراكات توافقية تاريخية مع اليسار والوسط، انتقل المجلس تدريجياً نحو تحالفات انتقائية مع اليمين والمركز، مع تمسك صارم برفض اليمين المتطرف واليسار الراديكالي. ويُعَد العشاء السنوي الذي ينظمه منصة سياسية مؤثرة تُستخدم للضغط، وفتح قنوات الحوار، وصياغة رسائل موجهة إلى السلطة.
انتقدت أصوات يهودية وغير يهودية هيمنة “كريف” على التمثيل السياسي والإعلامي للجالية، معتبرين أن المجلس لا يعكس إلا وجهة نظر فصيل صهيوني يميني، ويقيد قدرة المجتمع اليهودي على التعبير تجاه السياسات الإسرائيلية
ومع مرور الوقت، ترسخ حضور كريف بوصفه رقماً صعباً في المشهد السياسي الفرنسي، وأحد أهم الأصوات القادرة على التأثير في صناع القرار، حتى بات يُنظر إليه كإحدى الجهات الفاعلة في تشكيل ملامح السياسة الخارجية الفرنسية، خصوصاً في القضايا المرتبطة بـ”إسرائيل” والمنطقة.
آليات دعم “إسرائيل”
لا يخفِ كريف دعمه الثابت للكيان الإسرائيلي، ورفضه الصريح لأي مواقف يعتبرها معادية لـ”إسرائيل”، ويعمل المجلس على تعزيز العلاقات الفرنسية الإسرائيلية، ويقدم نفسه كخط دفاع ضد ما يسميه معاداة السامية، التي يربطها، في تفسيره الخاص، بأي نقد يتجاوز الحدود المقبولة للسياسات الإسرائيلية أو الصهيونية.
يرى المجلس أن أي انتقاد مؤثر لسياسات الاحتلال أو الاستيطان الفلسطيني يجب مواجهته من خلال تصريحات وحملات مضادة، كما يدين ما يسميه “إلغاء الشرعية الإسرائيلية”، ويعتبر حركة المقاطعة “BDS” تهديداً للوجود اليهودي في فرنسا ومصدر تحريض سياسي ضد “إسرائيل”.
ويترجم كريف موقفه هذا عملياً إلى مواجهة مباشرة مع الجمعيات والمنظمات اليهودية واليسارية التي تدافع عن القضية الفلسطينية، بما يجعل المجلس أداة ضغط قوية داخل المجتمع الفرنسي اليهودي، تحمي مصالح “إسرائيل” وتحد من أي تحركات داعمة للفلسطينيين.
ولتحقيق هذه الأهداف، يوظف المجلس موارده المادية والإعلامية والسياسية بذكاء، موازنًا بين الترهيب والترغيب، حيث يضغط على من يخرج عن الخط، ويكافئ من يتماشى مع توجيهاته، ليظل لاعباً محورياً في رسم الخطوط السياسية والإعلامية التي تحمي الرواية الإسرائيلية داخل فرنسا.
ماذا عن حرب غزة؟
أثارت حرب غزة الأخيرة جدلاً واسعاً داخل المجتمع اليهودي الفرنسي حول الدعم الذي يقدمه كريف لـ”إسرائيل”، حيث ظل المجلس على موقفه الداعم بلا حدود، متصدياً لنفسه كممثل وحيد للجالية اليهودية في فرنسا، رغم الانتقادات اللاذعة لجرائم الاحتلال الموثقة، وهذا الاحتكار للصوت اليهودي أثار استياء العديد من المنظمات والجمعيات اليهودية المعارضة للانتهاكات الإسرائيلية، معتبرين موقف كريف تجريداً للتعددية الداخلية.
وقد أعادت الحرب تأكيد المخاوف القائمة منذ سنوات، حيث انتقدت أصوات يهودية وغير يهودية هيمنة كريف على التمثيل السياسي والإعلامي للجالية، معتبرين أن المجلس لا يعكس إلا وجهة نظر فصيل صهيوني يميني، ويقيد بالتالي قدرة المجتمع اليهودي على التعبير عن مواقف مختلفة تجاه السياسات الإسرائيلية.