ترجمة وتحرير: نون بوست
يكشف كتاب هارييت مالينويتز الجديد “بيع إسرائيل: الصهيونية والدعاية واستخدامات الهاسبارا” كيفية استخدام الدعاية والعلاقات العامة الإسرائيلية لترويج الصهيونية مع إخفاء اضطهاد الفلسطينيين وتشريدهم
يتناول كتاب هارييت مالينويتز الجديد “بيع إسرائيل: الصهيونية والدعاية واستخدامات الهاسبارا” مجموعة من التساؤلات الجوهرية الملحة؛ حيث تتساءل الكاتبة: “كيف استطاعت مجموعة صغيرة من المفكرين والنشطاء اليهود من أوروبا الشرقية إقناع يهود العالم بأنهم ‘شعب’ واحد يواجه تهديدًا واحدًا مشتركًا، وله طريق واحد للخلاص، فضلاً عن واجب مشترك لتحقيقه؟ وكيف تمكنوا من إقناع بقية العالم بضمهم إلى أسرة الأمم؟ وكيف أقنعوا جميع المعنيين، بما في ذلك أنفسهم، بأن مشروع تحريرهم كان مشروعًا حميدًا ونبيلًا يحق لهم، دون أن يسفر عن ضحايا أو أضرار جانبية؟”.
وتمت إجابات هذه التساؤلات في صميم كتاب بيع إسرائيل، حيث لا تكتفي الكاتبو بفحصها بشكل منهجي فحسب، بل تتعمق أيضًا في كيفية استخدام “الهاسبارا” – وهي جهود الدعاية والعلاقات العامة التي تنفذ عالميًا بتوجيه من الحكومة الإسرائيلية – لتعزيز الصهيونية، وتقليل تصور اضطهاد الفلسطينيين، ونشر المغالطة القائلة بأن الدولة التي مضى على تأسيسها 78 عامًا بدأت كأرض بلا شعب.
وقد أشادت مجلة بابليشرز ويكلي بهذا العمل البحثي الدقيق، ووصفت الكتاب بأنه “تحدٍ مثير للإعجاب ودقيق للروايات الراسخة.”
وتحدثت هارييت مالينويتز مع المراسلة إليانور ج. بدر عن نفسها، وأبحاثها، واستنتاجاتها بعد وقت قصير من نشر الكتاب، هذا نصه:
إليانور ج. بدر: هل كنتِ تؤمنين منذ الصغر بأن إسرائيل ضرورية لبقاء اليهود؟
هارييت مالينويتز: في الواقع، لم أتلقَ في البداية الرسالة الترويجية المعتادة عن إسرائيل، بأن الدولة أُنشئت كمكان آمن لليهود. ما سمعته بدلًا من ذلك هو أن إسرائيل رائعة لأن الجميع فيها يهود: سائقو الحافلات، وجامعو القمامة، والمعلمون، والمصرفيون، ورجال الشرطة… الجميع!
إليانور ج. بدر: متى بدأتي تشكين في ذلك؟
هارييت مالينويتز: كانت عملية تدريجية؛ حيث زرت إسرائيل لأول مرة عام 1976 برفقة والدتي وأخي، ثم عدت عام 1977 وأمضيت عدة أشهر في كيبوتس، قبل أن أزورها مجددًا في عامي 1982 و1984.
عندما كنت في الثامنة من عمري، انتقلت عمتي إلى إسرائيل، حيث أقامت هناك من عام 1962 حتى 1969. وخلال تلك الفترة، كنا نتبادل الرسائل التي حوت الكثير من التفاصيل عن الكيبوتس الذي كانت تعيش فيه.
كان معلم اللغة العبرية يطلب مني قراءة الرسائل بصوت عالٍ في الفصل، وكان يبتسم طوال الوقت، حتى وصلت إحدى الرسائل إلى ختامها، التي قالت إن إسرائيل مكان رائع للزيارة لكنه ليس مناسبًا للعيش، وفجأة انتُزعت الرسالة من يدي.
عندما عادت عمتي إلى الولايات المتحدة، جاء معها زوجها المولود في العراق، الذي كان غاضبًا بحق من الظلم الذي طال اليهود المزراحيين على يد النخبة الأشكنازية في إسرائيل؛ حيث كان اقتصاديًا محاصرًا بسقف زجاجي في عمله هناك، وكان خروجهم فرصة للتحرر.
خلال إقامتي في الكيبوتس، لاحظت رجالًا فلسطينيين يعملون في الحقول بالقرب من أعضاء الكيبوتس والمتطوعين الدوليين، لكن عندما نُدعى جميعًا لأخذ استراحة في “كوخ الإفطار”، استمروا في عملهم بلا توقف. كما التقيتُ وتناولتُ الشاي مع تجار فلسطينيين في “الشوك” أو السوق العربي بالقدس القديمة، فاتضح لي أن ما روي لي عن كون جميع سكان إسرائيل يهودًا كان وهمًا. أخبروني بأنهم “عرب إسرائيليون” – دون أي تفسير منطقي، مما وضعني في حيرة تامة، ومع ذلك كنت مقتنعة بأنني ربما أنا الوحيدة التي لم تدرك الحقيقة.
عندما عدت إلى الولايات المتحدة عام 1984، انخرطت في العمل التضامني مع أمريكا الوسطى، وهو ما فتح أمامي بوابة الوعي بهياكل الدعم العسكري الدولية والدعاية المصاحبة لها، التي كنا نتلقاها كأمريكيين. وفي الوقت ذاته، قرأت كتاب ليني برينر الصادر عام 1983 الصهيونية في زمن الدكتاتورية، الذي كشف عن تواطؤ الصهيونية مع النازيين، ليكون ذلك صدمة إضافية هزّت تصوري السابق.
كنت أعرف ما يكفي لأتحمس للانتفاضة الأولى عام 1987. لكن بحلول الانتفاضة الثانية عام 2002، أصبح لدى الناس هواتف خلوية، وتمكنت من سماع إطلاق النار في جنين عبر برنامج “ديمقراسي ناو!” على الراديو. كما ظهرت المدونات والقوائم البريدية التي نقلت المعلومات بطرق جديدة، ومع ذلك، كنت لا أزال ساذجة بما يكفي للدهشة من رفض إسرائيل السماح لفريق تحقيق تابع للأمم المتحدة بالدخول إلى المنطقة.
وكانت هذه نقطة تحول حقيقية بالنسبة لي.
أثناء وجودي في أستراليا عام 2004، قرأت كتاب إيلان بابه “تاريخ فلسطين الحديث” استعدادًا لحضور تجمع صغير للصحفيين والأكاديميين والنشطاء في سيدني حيث كان بابه ضيف الشرف. وكان من أهم الاستنتاجات التي خرجتُ بها ليالي ذلك اليوم أن عام 1948، وليس 1967، هو العام الحقيقي لفهم الوضع. وكان الدرس الآخر أن التغيير لن يأتي من داخل إسرائيل، بل هو مسؤولية الفلسطينيين وحلفائهم في بقية العالم. ترك النقاش في ذلك اللقاء أثرًا عميقًا في نفسي، وعند عودتي إلى الولايات المتحدة، انغمست في البحث عن تاريخ فلسطين والصهيونية، ودمجت هذا الاهتمام مع أبحاثي القائمة عن الدعاية. وسرعان ما أدركت أنني أرغب في كتابة كتاب عن الصهيونية والدعاية، إلا أن المشروع استغرق مني عشرين عامًا لإتمامه.
بدر: الفكرة القائلة بأن الله وعد إسرائيل لليهود لا يتم الطعن فيها غالبًا. لماذا برأيك؟
مالينويتز: أعتقد أن الناس يخشون المساس بمعتقدات الآخرين الدينية، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالله. بالإضافة إلى ذلك، هناك الكثيرون الذين يؤمنون بهذا الادعاء بالفعل!
بدر: تكتبين أن الإسرائيليين نادرًا ما استحضروا الهولوكوست النازي قبل ستينيات القرن الماضي، لأن فقدان ستة ملايين يهودي بدا بمثابة علامة ضعف، وكأنهم ذهبوا إلى موتهم “كالأغنام إلى الذبح”. ومع ذلك، تشيرين أيضًا إلى أن ديفيد بن غوريون رأى في الإبادة “كارثة مفيدة”. هل يمكنك التوضيح؟
مالينويتز: صدمت من الطريقة التي تم بها التقليل من شأن الناجين من الهولوكوست في السنوات الأولى لإسرائيل، كما لو كانوا وصمة على الذكورة الإسرائيلية يجب مسحها. ومع ذلك، حدث لاحقًا تحول أيديولوجي؛ فقد طمأنت القوات الإسرائيلية العالم بأنها قوية وعازمة وقادرة على الدفاع عن نفسها في حال الهجوم، وفي الوقت ذاته يمكن استحضار الهولوكوست كتذكير بضحية دائمة، مبررةً بذلك كل أفعالهم باسم منع إبادة جماعية أخرى للشعب اليهودي. وبالمثل، تم استخدام الهولوكوست استراتيجيًا عندما يخدم جمع التبرعات الدولية أو عندما يكون ضروريًا لكسب التعاطف مع إسرائيل كدولة مزعومة تحت الضغط.
بدر: ظلت الفكرة القائلة بأن الشعب اليهودي كتلة واحدة لا تتجزأ تروج لها بوجه خاص النخبة الأشكنازية الصهيونية، فكيف تسرب هذا الادعاء إلى الوعي الجماعي؟
مالينويتز: انبثقت الصهيونية كرد فعل على مأزق يهود شرق ووسط أوروبا في القرن التاسع عشر، فحملوا شعار “الشعب اليهودي الواحد” كأداة لمشروعهم. لكن يهود العالم خارج أوروبا، ومنهم يهود الدول العربية، ظلوا غائبين عن مخيلتهم حتى احتاجوهم كأرقام تملأ الأرض وتُكبر الدولة. أما زعم أن إسرائيل تمثل إرادتي كيهودية، فهو قول يفتقر إلى الشرعية، فلم يَسْألْني أحدٌ قط عن رأيي في هذا المشروع الذي نُسب إليَّ قسراً!
هناك من يُتحدَّث باسمهم دون إذن، ويُوظَّفون في النهاية لخدمة أجندات غيرهم. إن ادعاء فصيل واحد احتكار تمثيل الجميع والزعم بوجود “شعب يهودي واحد” ليس سوى دعاية صريحة. وهذا يذكّرني بما عُرف بالنسوية البيضاء في سبعينيات القرن الماضي، حين نصّب قلة أنفسهم ناطقين باسم “جميع النساء”؛ والسؤال الجوهري يبقى: من خوّلهم بذلك؟
بدر: ماذا حلّ بالنزعة الاشتراكية التي حشدت حماسة العديد من الصهاينة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؟
مالينويتز: حتى عام 1977، حين انتُخب مناحيم بيغن وتحول حزب الليكود إلى قوة سياسية فاعلة، كانت الكيبوتسات خاضعة لهيمنة الأشكناز وتحظى بدعم حكومي سخي من حزب العمل الحاكم آنذاك. في الواقع، لم تكن هذه الكيبوتسات قادرة على الاكتفاء الذاتي. ومن نواحٍ عديدة، كانت “الاشتراكية” فيها أيديولوجية ونمطَ حياة أكثر منها ممارسة اقتصادية حقيقية، أقرب إلى الصهيونية منها إلى الماركسية. وبحلول ثمانينيات القرن الماضي، اضطرت الكيبوتسات إلى تغيير مسارها للبقاء، فانتقلت من الزراعة إلى الصناعة، بما في ذلك السياحة، والتصنيع، وتطوير العقارات، والتكنولوجيا. وهكذا، تلاشت الروح الجماعية الطوباوية.
بدر: كيف جرى توظيف الشك المصنَّع في أحداث مفصلية، مثل نكبة 1948، لخدمة آلة الدعاية الإسرائيلية؟
مالينويتز: الشك يمكن أن يكون سلاحًا بالغ الفاعلية. وهناك نموذج صاغته صناعة التبغ استخدمه لاحقًا الصهاينة، ومنكرو التغير المناخي، ومنكرو الهولوكوست، ومنكرو الإبادة الأرمنية، و٥٥ وغيرهم. وتقوم الفكرة على الادعاء بوجود “روايات متنافسة” ينبغي التعامل معها جميعًا على قدم المساواة، بدلًا من فحص مدى مصداقيتها. لهذا استغرق الأمر وقتًا طويلًا لإقناع الرأي العام بأن التدخين يسبب السرطان؛ إذ واجهت شركات التبغ الخبرة العلمية بما سمّته “أبحاثها” الخاصة، ما ترك الناس في حالة شك، معتقدين أن المسألة لم تُحسم بعد، وأن بإمكانهم الاستمرار في التدخين إلى أن يظهر خطر واضح ومباشر. والأمر ذاته ينطبق على إنكار النكبة: فإذا لم يكن الصهاينة قد طردوا الفلسطينيين فعليًا عام 1948، فلا مسؤولية عليهم تجاه قضية اللاجئين، أليس كذلك؟
بدر: لطالما اعتُبرت فكرة أن إسرائيل ضرورية لبقاء اليهود حقيقة مسلّمًا بها. لماذا فشلت البدائل للصهيونية في اكتساب زخم حقيقي؟
مالينويتز: الاندماج كان أحد هذه البدائل التي اختارها كثيرون، لكنه يقوّض المشروع الصهيوني، ولذلك شكّلت شيطنته مهمة كبرى للحركة الصهيونية. في المقابل، جادل «البوند» الأوروبي بضرورة النضال ضد جميع أشكال التمييز ودعم نضالات العمّال، إلى جانب مواجهة معاداة السامية، ورفض فكرة إقامة دولة يهودية منفصلة. هذا الطرح كان دائمًا منطقيًا بالنسبة ليژ كما اعتُبرت الهجرة إلى أميركا الشمالية وغيرها من البلدان بديلًا مرغوبًا فيه. وكان هناك أيضًا صهاينة ثقافيون رأوا أن فلسطين يمكن أن تكون ملاذًا آمنًا من دون قومية مدنية أو دولة قومية.
لم يحظَ «البوند» يومًا بانتشار واسع في الولايات المتحدة، ولم تترسخ أطروحته كما ترسخت الصهيونية. وبدلًا من ذلك، دفعت الصهيونية بفكرة أن إسرائيل هي الحل الوحيد لمعاداة السامية، والطريق الوحيد لضمان أمن اليهود.
بدر: تنتشر العديد من الأساطير حول إسرائيل، من الادعاء بأن الأرض كانت خالية، إلى الزعم بأن الإسرائيليين «جعَلوا الصحراء تزهر». كيف جرى تعميم هذه الأفكار؟
مالينويتز: كلٌّ من عبارتي «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» و«جعلوا الصحراء تزهر» ليستا سوى شعارات تسويقية، على حد تعبير المناضل المناهض للصهيونية موشيه ماشوفير. ورغم كونها أكاذيب فجة، فإن هذه العبارات ترسخت في الوعي العام. يشبه الأمر الاعتقاد بأن كولومبس «اكتشف» أميركا؛ تصدّقه إلى أن تصطدم بالأدلة وتدرك مدى عبثيته.
وأعتقد أيضًا أن عبارات من قبيل «ازدهار الصحراء» جذابة لأنها تنسب للإسرائيليين قدرات شبه خارقة، وتضفي عليهم هالة من المعجزات، ما يرفع مكانتهم في الخيال الشعبي. وما دام أتباع الصهيونية محصَّنين داخل الفقاعة المنطقية لمنظمات مثل الصندوق القومي اليهودي، والمؤتمر اليهودي العالمي، و«هيلل»، وبرنامج «بيرث رايت»، فإنهم ينالون مقابل ذلك مكسبًا كبيرًا: شعورًا قويًا بالانتماء والجماعة.
المصدر: موندويس
