ترجمة وتحرير: نون بوست
يشعر تيم ميتز بالقلق من “تحول عقله إلى ما يشبه خرائط غوغل”. مثلما يعتمد كثيرون على تطبيقات تحديد المواقع للتنقل، يخشى مسوّق المحتوى البالغ من العمر 44 عامًا أن يصبح في تبعية كاملة للذكاء الاصطناعي.
يقول إنه يستخدم الذكاء الاصطناعي حوالي ثماني ساعات يوميًا. وقد أصبح مولعًا بشكل خاص بـ”كلود” من شركة “أنثروبيك”، وأحيانًا يفتح ست جلسات في وقت واحد، حيث يستشير الذكاء الاصطناعي حول الزواج وتربية الأبناء، وعندما يذهب للتسوق يلتقط صورًا للفواكه ليسأل الذكاء الاصطناعي إذا ما كانت ناضجة.
وقد كان قلقًا مؤخرًا من أن شجرة كبيرة قرب منزله قد تسقط، فحمّل صورًا لها وطلب من الروبوت أن يقدم له النصيحة. اقترح عليه “كلود” أن ينام في مكان آخر تحسبًا لسقوط الشجرة، فانتقل هو وعائلته لقضاء تلك الليلة عند أحد الأصدقاء، وقال إنه “لم يكن ليغادر المنزل أبدًا” لولا نصيحة “كلود”. (لم تسقط الشجرة أبدا، بينما تساقطت بعض الفروع).
شاهدتُ بنفسي استخدام ميتز القهري للذكاء الاصطناعي: قبل أن أجري معه مقابلة لكتابة هذا المقال، طلب من “كلود” أن يخمّن الأسئلة التي قد أطرحها عليه باستخدام أدوات البحث على الإنترنت أو باستخدام فريق من وكلاء الذكاء الاصطناعي. قضى “كلود” بضع دقائق في البحث عن معلومات عني قبل أن يجمعها في ملخص من صفحة واحدة. تضمن الملخص سيرة ذاتية موجزة عن، وإجابات محتملة مفصلة للأسئلة التي قد أطرحها. قال ميتز في منتصف المقابلة: “لقد قام بعمل جيد جدًا”. بالفعل، توقّع “كلود” ثلاثة من أسئلتي.
أصبح الكثير من الناس يعتمدون على الذكاء الاصطناعي في أبسط جوانب حياتهم اليومية، واقترح أحد الزملاء أن نطلق على أكثر المستخدمين تطرفًا اسم “LLeMmings” (قوارض النماذج اللغوية الكبيرة)، لأنهم في حالة استخدام متواصلة لهذه النماذج، وأيضًا لأن استخدامهم شبه المستمر للذكاء الاصطناعي يجعلهم أشبه بقوارض إلكترونية لا تستطيع التصرف دون توجيه. بالنسبة لهذه الفئة من المستخدمين المدمنين على الروبوتات، أصبح الذكاء الاصطناعي نافذة أساسية يتفاعلون من خلالها مع العالم. فالرسائل الإلكترونية التي يكتبونها، والقرارات اليومية التي يتخذونها، والأسئلة التي تشغل أذهانهم، جميعها تمر أولًا عبر الذكاء الاصطناعي. يقول ميتز: “إنه أشبه بإدمان حقيقي”.
بعد مرور ثلاث سنوات من طفرة الذكاء الاصطناعي، بدأت تتضح صورة أولية عن كيفية تأثير الاستخدام المكثف لهذه التقنيات على العقل البشري. بالنسبة للبعض، تقدّم الدردشة الآلية صحبةً عاطفية، بينما وجد آخرون أن الروبوتات تعزز معتقدات خاطئة (يطلق عليه البعض “ذهان الذكاء الاصطناعي”). أما “قوارض النماذج اللغوية الكبيرة” فقد بدأت تشعر بآثار التعويل المفرط على الذكاء الاصطناعي.
بدأ جيمس بيدفورد، وهو أكاديمي في جامعة نيو ساوث ويلز، يعمل على تطوير استراتيجيات لاستخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم، باستخدام النماذج اللغوية الكبيرة بشكل شبه يومي بعد إطلاق “شات جي بي تي”. مع مرور الوقت، لاحظ أن دماغه أصبح يلجأ تلقائيًا إلى الذكاء الاصطناعي للتفكير. في أحد الأيام، كان يحاول مساعدة امرأة على استرجاع سماعة أذن سقطت بين مقاعد القطار، ولاحظ أن أول أول ما خطر بباله هو أن يسأل “شات جي بي تي” عن الحل.
يقول: “كانت تلك المرة الأولى التي شعرت فيها أن دماغي يريد أن يطلب من شات جي بي تي القيام بعملية إدراكية يمكنني القيام بها بنفسي”. عندها أدرك أنه “أصبح مدمنا عليه”، وقرر بعد تلك الحادثة أن يبتعد عن الذكاء الاصطناعي لمدة شهر حتى يستعيد توازنه. ويضيف: “كان الأمر أشبه بالتفكير بنفسي لأول مرة منذ فترة طويلة. ومع أنني استمتعت بذلك الصفاء الذهني، إلا أنني عدت بعدها مباشرة إلى استخدام الذكاء الاصطناعي”.
لا شك أن التقنيات الجديدة تعزز القدرات البشرية، لكنها غالبًا ما تفعل ذلك على حساب شيء آخر. قللت الكتابة من أهمية الذاكرة، وقللت الآلات الحاسبة من قيمة المهارات الحسابية الأساسية، كما كتب الفيلسوف كوامي أنطوني أبياه مؤخرًا في هذه المجلة. وكذلك أعاد الإنترنت تشكيل أدمغتنا بطرق لا حصر لها، فأغرقنا بالمعلومات وسرق منّا القدرة على التركيز.
إن القول بأن الذكاء الاصطناعي سيغيّر طريقة تفكيرنا ليس فكرة مختلفا عليها، ولا هو بالضرورة أمر سيء. لكن من وجهة نظر تيم ريكوارث، عالم الأعصاب الذي يدير برنامجًا للدراسات العليا في الكتابة العلمية في كلية الطب بجامعة نيويورك، ينبغي أن يُطرح السؤال التالي: “ما هي القدرات الجديدة وعادات التفكير التي سيُظهرها ويستثيرها؟ وأي منها سيُقمع؟”.
أخبرتني إينيس لي، وهي خبيرة اقتصاد تقيم في لندن، أنها أصبحت غير قادرة في أحيان كثيرة على “بدء مشروع مهم دون استشارة الذكاء الاصطناعي أولًا”. كتبت في مدونتها على “سابستاك” أن “شات جي بي تي” و”كلود” أصبحا الآن أكثر إغراءً وتشتيتًا للانتباه من تطبيقات التواصل الاجتماعي مثل “يوتيوب” و”إنستغرام”، فهي تلجأ إليهما كثيرًا لإنجاز عملها، حتى مع شعورها بأن هذه العملية تُضعف مهاراتها في التفكير النقدي.
وقال لي مايك كينتز، وهو مدرس ومستشار في مجال محو أمية الذكاء الاصطناعي، إنه وجد نفسه أيضًا يعتمد على روبوتات الدردشة للمساعدة في كتابة رسائل البريد الإلكتروني. وكتب مؤخرا في منشور على مدونته: “المجالات التي كنت أشعر فيها بالثقة في مهاراتي وقدراتي – مثل كتابة رسائل بريد إلكتروني موجزة وشاملة ومتوازنة – أصبحت الآن مجالات ألجأ فيها باستمرار للذكاء الاصطناعي للحصول على ملاحظاته. لو كنت في 2015 لشعرت بانزعاج شديد”.
كتب ريكوارث أن المشكلة هي أن أدوات الذكاء الاصطناعي تعطي الانطباع بأنها “تستغل الثغرات في بنية الإدراك البشري”. فالدماغ البشري يحب توفير الطاقة، ويختصر الاختصارات المتاحة لتحقيق هذا الهدف. يقول ريكوارث: “بعض أنواع العمليات الفكرية يتطلب الكثير من الطاقة” بينما “يعرض الروبوت خدماته للقيام بالجهد الإدراكي نيابة عنك”. بعبارة أخرى، استخدام الذكاء الاصطناعي لكتابة رسائلك الإلكترونية ليس كسلًا بقدر ما هو تكيف طبيعي مع التطورات.
تمت هندسة روبوتات الدردشة لاستغلال هذا الميل البشري عبر تقديم إجابات مقنعة لأي سؤال، حتى لو كانت العديد من هذه الإجابات خاطئة أو مضللة. حسب كارل إريك فيشر، الطبيب النفسي المتخصص في الإدمان بجامعة كولومبيا، إذا سأل أحدهم الروبوت سؤالًا عن حياته العاطفية، فإن الإجابات – حتى إن كانت بعيدة تمامًا عن الصواب أو غير مفيدة – تمنحه شيئًا من الاطمئنان الذي يقلل من مخاوفه.
وقد أخبرتني إحدى العاملات في مجال التكنولوجيا، وهي في العشرينات من عمرها، أنها تجد نفسها أحيانًا تسأل “كلود” أسئلة تعرف أن الروبوت لا يستطيع الإجابة عنها. في إحدى المرات، كان أصدقاؤها يتنزهون في الخارج ولم تتلق عنهم أي أخبار، فسألت الروبوت: “ما هي احتمالية أن يكونوا بخير؟”. وفي مناسبة أخرى، بعد أن فقدت هاتفها، بدأت تسأل الروبوت عن احتمالات أن تُسرق هويتها.
وتضيف: “من الواضح أنه لن يعرف الإجابة. أعتقد أنني كنت أريد فقط أن أشعر ببعض الطمأنينة”. وفي مناسبة ثالثة، سألت “كلود” عمّا إذا كان ينبغي عليها الاتصال برقم الطوارئ عندما ظل جهاز إنذار الحريق يرنّ. فأجابها بألا تفعل، ووجّهها إلى خطوات إيقاف الجهاز.
سلطت شركة “أنثروبيك” الضوء على خطر قيام الطلاب بتفويض الأعمال الإدراكية إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي، وأقرت شركة “أوبن إيه آي” بأن الاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي بشكل عام يمثل مشكلة. قال سام ألتمان، الرئيس التنفيذي للشركة، في مؤتمر خلال الصيف الماضي: “أصبح الناس يعتمدون على شات جي بي تي بشكل مفرط. هناك شباب يقولون إننا لا نستطيع اتخاذ أي قرار في حياتنا اليومية دون أن نخبر شات جي بي تي بكل ما يحدث. هذا يبدو سيئًا جدًا بالنسبة لي”.
عندما تواصلتُ مع الشركة للاستفسار عن إجراءاتها بشأن الاستخدام القهري، قالت تايا كريستيانسون، المتحدثة باسم “أوبن إيه آي”، إن الشركة الناشئة تعمل بنشاط على تصميم ميزات تثني عن استخدام “شات جي بي تي” لتفويض عملية التفكير. وأشارت إلى الإصدار الأخير “وضع الدراسة”، وهو أداة تقدّم للمتعلمين إرشادات مفصلة لاستيعاب المفاهيم الجديدة، بدلًا من تقديم إجابات فورية.
هناك غموض في هذه النقطة. بالنسبة لـ”أوبن إيه آي” وغيرها من مطوري روبوتات الدردشة، يشكل الاعتماد أساس نموذج العمل. كلما زاد اعتماد الناس على الذكاء الاصطناعي في حياتهم الشخصية والمهنية، زادت أرباح هذه الشركات. (دخلت مجلة “ذي أتلانتك” في شراكة مؤسسية مع “أوبن إيه آي” عام 2024، لا يتدخل فريق الأعمال بالمجلة ولا “أوبن إيه آي” بأي شكل من الأشكال في الجانب التحريري).
ينفق العديد من المستخدمين المدمنين الذين تحدثتُ معهم مئات الدولارات شهريًا مقابل الاشتراكات في التطبيقات المدفوعة. لكن هذه الشركات تواجه بعض الضغوط المالية: ففي أكتوبر/ تشرين الأول، كتب نيك تورلي، رئيس “شات جي بي تي” إلى الموظفين أن “أوبن إيه آي” تمر بـ “أعظم منافسة شهدناها على الإطلاق”. وتفيد التقارير أن الشركة تأمل في إقناع نحو 200 مليون مستخدم بالتحول إلى الاشتراكات المميزة خلال السنوات المقبلة.
يرى فيشر أن إحدى الطرق التي يمكن لشركات الذكاء الاصطناعي اتباعها للحد من الاعتماد غير الصحي هو برمجة روبوتات الدردشة لتطلب من المستخدمين أخذ قسط من الراحة. ويضيف أن الروبوت يمكن أن يقول: “أعتقد أنك تفرط في التفكير في هذا الأمر. لماذا لا تخرج في نزهة؟”.
قدّمت شركة “أوبن إيه آي” خلال الصيف تذكيرًا يشجع المستخدمين على أخذ استراحات خلال فترات الاستخدام المطول. كما تجرب شركة “أنثروبيك” التدخلات أثناء المحادثات الطويلة. أخبرني كينتز أن “كلود” قاطع مؤخرًا محادثة محتدمة كان يجريها معه أثناء رحلة جوية إلى سياتل.
كان قد طلب من الروبوت أن يلعب دور الجمهور في عرض تقديمي كان يستعد له. بعض ملاحظات “كلود” كانت مفيدة، لكن كينتز شعر أنه انغمس في الأمر أكثر من اللازم، حيث دخل في جدال مع الروبوت وأصبح يدافع بشدة عن وجهة نظره. في النهاية قال له “كلود”: “أنت تدور في حلقة مفرغة وتحتاج أن تهدأ”، كما أخبرني كينتز.
وجد كينتز أن تدخل “كلود” كان مفيدًا، لكن روبوتات الدردشة تواجه أحيانًا صعوبة في تحديد السلوك غير الصحي. كان أحد أصدقائي يستخدم “كلود” لتحرير مقال عندما بدأ الروبوت يرفض المساعدة. كتب له: “يجب أن تتوقف. هذا لم يعد تحريرًا مثمرا”. وفي خضم المحادثة، قال الروبوت: “قدّم طلبك”، مضيفًا: “لن أستجيب لمزيد من الطلبات الخاصة بالتحرير الجزئي”. شعر صديقي بالانزعاج، فقد كان يطلب ببساطة المساعدة في القواعد اللغوية واختيار الكلمات.
وقد أبلغ آخرون عن تجارب مشابهة، حيث قوبلت طلبات أساسية للمساعدة باتهامات غير مبررة بالسعي وراء كمال مدمّر للذات. (وعندما سُئلت شركة “أنثروبيك” عن هذه الأمثلة، قال متحدث باسم الشركة إنهم يعملون على تدريب “كلود” ليتدخل عند الحاجة دون أن يكون قاسيًا أو متحاملًا بشكل مفرط).
في الوقت الحالي، يقوم بعض المستخدمين المدمنين على الذكاء الاصطناعي بجهود خاصة للتخلص من اعتمادهم عليه. بدءًا من اليوم، يبدأ بيدفورد استراحة جديدة لمدة شهر من الذكاء الاصطناعي، أطلقها رسميًا كتحدٍ تحت وسم #NoAIDecember (لا ذكاء اصطناعي في ديسمبر). يشجع موقع الويب الخاص بهذا التحدي الناس على إعطاء الأولوية لاستخدام ذكائهم الحقيقي بدلًا من الذكاء الاصطناعي. التحدي مفتوح للجميع، وقد انضم إليه آلاف الأشخاص. كينتز واحد منهم، رغم أنه يشعر بخيبة أمل لأن الاستراحة من الذكاء الاصطناعي تتزامن مع موسم الأعياد، وقد اعتاد على استخدام “شات جي بي تي” لمساعدته في التسوق وشراء الهدايا.
المصدر: ذا أتلانتك
