مع كل حادثة جديدة يُضرم فيها المستوطنون النار في منزل فلسطيني، يعود شبح جريمة حرق عائلة دوابشة في قرية دوما في نابلس عام 2015 إلى الواجهة، وبينما تتسع رقعة الاعتداءات في الضفة الغربية، تتصاعد المخاوف من تكرار سيناريوهات مشابهة.
هذه الاعتداءات المتكررة لا تمثل مجرد أعمال عنف فردية، بل تبدو جزءًا من استراتيجية ممنهجة تهدف إلى ترهيب السكان الفلسطينيين وتهجيرهم تدريجيًا من أراضيهم، بالتزامن مع توسع المستوطنات وغياب أي مساءلة قانونية.
في هذا التقرير لـ”نون بوست”، يجيب عدد من المختصين في مجالات التوثيق وحقوق الإنسان والصحة النفسية عن الأسئلة الأساسية التي يطرحها الفلسطينيون:
- هل يمكن تكرار جريمة دوما في أماكن أخرى؟
- وما علاقة الحرق بالتهجير القسري والتوسع الاستيطاني؟
- وكيف يمكن التعامل مع الآثار النفسية على الأطفال والنساء؟
ارتفاع اعتداءات المستوطنين وتكريس سياسة الحرق المنهجية
مدير التوثيق والإعلام في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، أمير داوود، قال إنّ الازدياد الكبير وغير المسبوق في اعتداءات المستوطنين في الشهور الماضية لم يأتِ من فراغ، وإنما جاء في سياق أدى إلى وصول هذه الاعتداءات إلى مستوى ذروي مستمر لفترة طويلة. بمعنى أنه منذ السابع من أكتوبر وحتى هذه اللحظة، نشهد زيادة كبيرة في أعداد اعتداءات المستوطنين، واستمرت هذه الزيادة حتى الآن، لتشكل علامة فارقة في حجم الانتهاكات.
سياسة الحرق لم تبدأ اليوم، بل بدأت منذ اللحظة الأولى لوجود الاحتلال، إلا أن الوضع الحالي يمثل ذروة من ذروات الإرهاب فيما يتعلق بموضوع الحرق، فقد شهدنا مثلًا في العام 2015 عملية حرق عائلة دوابشة، وهي الحادثة التي دقت ناقوس الخطر حينها، والآن استعادت مجموعات المستوطنين أداة الحرق كأداة رئيسية ومنهجية في الاعتداء على الفلسطينيين. بعد السابع من أكتوبر 2023، سجلنا أكثر من 780 حريقًا أشعلها المستوطنون، سواء في منازل المواطنين أو في الحقول، أو في المركبات أو في ممتلكاتهم.
نحن نتحدث عن قصدية عالية في إلحاق الأضرار، ليس فقط في الممتلكات، بل أيضًا في الأرواح من قبل المستوطنين، وبالتالي أصبحنا نتحدث عن منهجية ثابتة، إذ إن هناك قادة ووزراء في دولة الاحتلال تباهوا بهذه المنهجية بالكثير من التصريحات الموثقة المرتبطة بالتحريض على حرق القرى، وعلى رأسها بلدة حوارة، حيث أطلق وزراء في حكومة الاحتلال تصريحات تدعو لمحو حواره وإحراقها عن بكرة أبيها. وفي ذات اللحظة، لم يتم محاسبة هؤلاء الوزراء، وبالتالي هذا يضيف طبقة جديدة من التعاون والتحريض والتوجيه من قبل المؤسسة الرسمية.
ومن الجدير ذكره أن قادة ميليشيات المستوطنين وصلوا إلى سدة الحكم في مطلع العام 2023، كاشفين عن التبادل الوظيفي الصريح بين المستوطنين والمؤسسة الرسمية.
اليوم، لم تعد عمليات الحرق والتدمير مجرد أعمال فردية، بل تُنفَّذ برعاية وحماية مباشرة من جيش الاحتلال، مدعومة بقرارات رسمية وتصريحات علنية، لتصبح أداة ممنهجة لتهجير الفلسطينيين وفرض السيطرة على الأرض، وبث الرعب بينهم بشكل يومي.
ما أوجه الشبه بين جريمة عائلة دوابشة وحوادث الحرق الأخيرة؟ وهل يمكن أن تتكرر في أماكن أخرى بنفس الطريقة؟
قال أمير داوود، إن جريمة دوما أظهرت وجود مجرمين فاشيين في دولة الاحتلال، وأن هذا النموذج كان في لحظتها يُراعى ويُطوَّر، ومن ثم توحش ليصل إلى ما نراه اليوم.
وفي هذا السياق، فإن إرهاب المستوطنين لم يبدأ اليوم، بل له جذور تمتد منذ وقت طويل، غير أن حدة توحشه تصاعدت بشكل كبير مع هذه الحكومة، ويظهر هذا النموذج بوضوح في الشوارع والحقول والقرى الفلسطينية، وفي التجمعات البدوية، والفارق الوحيد يكمن في أن جريمة دوما، للأسف، نجحت في إيقاع ضحايا فلسطينيين، عائلة آمنة أحرقت أحياء نتيجة المباغتة التي حدثت في عام 2015، ومع ذلك، فإن معظم القرى الفلسطينية اليوم أصبحت متنبهة لدور المستوطنين وللجرائم التي يمكن أن يصلوا إليها.
الآن المواطن الفلسطيني أصبح واعيًا ومتيقظًا، وفوق ذلك هناك الكثير من لجان الحماية والحراسة في القرى والبلدات الفلسطينية، تدق ناقوس الخطر قبل وقوع إرهاب المستوطنين، أي قبل الهجوم ذاته. ومن ثم تفشل الكثير من الهجمات، إذ إن هناك قصدية عالية لإحداث حرائق مشابهة، وأكثر تطرفًا وبشاعة من حادثة دوما. علاوة على ذلك، هناك قصدية للمستوطنين للقتل والحرق، إذ يريدون تنفيذ اعتداءات ربما لم يتخيلها الفلسطيني من قبل.
بدورها، قالت الباحثة الحقوقية في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، عائشة أحمد، مرتكبو هذه الجرائم هم مجموعات شبابية متطرفة، فيما شارك في الاعتداءات نفسها ما يُعرف بـ”فتية التلال”، وهي مجموعات دينية متشددة. هذه المجموعات تحركت ضمن شبكة واحدة تتلقى دعمًا مباشرًا من المستوطنات والبؤر العشوائية والقيادات السياسية والعسكرية، وقد تمت هذه الاعتداءات تحت حماية الجيش الإسرائيلي وتواطئه، الذي لم يتخذ أي إجراء لردع المعتدين أو حماية الفلسطينيين. ثم إن هذه الأعمال ليست أحداثًا منفصلة، بل تشكل جزءًا من استراتيجية انتقام منظّم وممنهج تهدف إلى استهداف الفلسطينيين في مختلف أماكن تواجدهم وفرض واقع استعماري جديد على الأرض.
وعند سؤالها عن إمكانية تكرار جريمة دوما، أجابت عائشة أحمد بأن كل شيء وارد، ولا شيء مستبعد أبدًا. نتيجة لذلك، تهدف هذه العمليات إلى العقاب والتوسيع، ومحاولة تهجير الفلسطينيين قسريًا من أراضيهم ومنازلهم. وتُستخدم هذه العمليات أيضًا لبث الرعب بين الفلسطينيين بشكل عام، إذ يُوظف موضوع السيطرة على الأرض بهدف الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الأراضي، سواء في المناطق المفتوحة أو الواسعة، لتهجير سكانها الفلسطينيين.
وهذه الأفعال والاعتداءات المتكررة ترتبط بحكومة اليمين المتطرفة، التي قامت بتسليح المستوطنين بآلاف قطع السلاح، ومن ثم منحتهم غطاءً سياسيًا وتشجيعًا مباشرًا من المستويات السياسية والعسكرية لفرض وقائع جديدة على الأرض بالقوة، رغم أن هذه العمليات هجومية بامتياز.
بالنسبة لهم، يدّعون أن الأمر يتعلق بحماية وجودهم، إلا أنّ الحقيقة هي أن المسألة مسألة وجود بالنسبة للفلسطينيين، فهذه موجات من الأعمال الهمجية والعنف المرتبطة بأيديولوجيا استعمارية توسعية واستيطانية، تهدف إلى تغيير أوضاع الفلسطينيين وإجبارهم على النزوح وترك أرضهم.
وإلى جانب ذلك، فإن الإفلات من العقاب وغياب المحاكمات الجدية للمرتكبين يعززان استمرارية هذه الجرائم، الجهات المسؤولة لم تُحاسِب، عبر التاريخ، أي طرف بشكل جدي، ولم تُجرِ تحقيقات فعّالة لملاحقة مرتكبي هذه الاعتداءات، سواء في جريمة حرق عائلة الدوابشة عام 2015، أو في جرائم الحرق المتواصلة حاليًا، أو في الاقتحامات التي تطال المنازل الفلسطينية الآمنة، وما يرافقها من تكسير للمحتويات والاعتداء على السكان بالضرب ورشق الحجارة، إضافة إلى قطع الأشجار وحرقها، خصوصًا في موسم الزيتون، واتساع رقعة هذه الاعتداءات خلال موسم الزيتون تهدف إلى ترسيخ رواية المستوطنين بأن الأرض وما عليها من خيرات ملكٌ لهم.
الاستيطان والنار: سياسة ممنهجة لتهجير الفلسطينيين وحماية المستوطنين
أشار داود إلى أن اعتداءات المستوطنين، وفي مقدمتها عمليات الحرق، ليست أعمالًا عشوائية أو منفلتة، بل جزء من استراتيجية تهدف إلى خلق بيئة قهرية وطاردة للفلسطينيين.
كل إرهاب المستوطنين يهدف إلى ضرب عصب الاطمئنان في القرى الفلسطينية ودفع السكان إلى الرحيل، ولهذا تُستهدف التجمعات البدوية بشكل خاص، حيث جرى تهجير عشرات التجمعات في السفوح الشرقية. ثم إنّ الهدف المركزي لهذا العنف هو زعزعة شعور الفلسطيني بالأمان والانتماء للأرض، بحيث يتحول البقاء في قراه إلى عبء وخطر يومي، وما يجري ليس أحداثًا متفرقة، بل منظومة ممنهجة هدفها تفريغ الأرض من أصحابها.
ثم إنّ المستوطنين ليسوا قوة هامشية أو مجموعات متطرفة تعمل بمعزل عن الدولة، بل جزء وظيفي من المشروع الاستيطاني، والمؤسسة الرسمية في دولة الاحتلال توفر لهم الغطاء والرعاية والحماية الميدانية، لأن أهداف المستوطنين تتقاطع بالكامل مع أهداف الدولة التي تسعى في جوهر سياساتها إلى ترحيل الفلسطينيين وإعادة تشكيل الجغرافيا بما يخدم مشروعها الاستعماري.
ومن الضروري معرفة أن توزيع اعتداءات المستوطنين ليس اعتباطيًا، بل يخضع لمنطق سياسي واضح، إذ لا يمكن قراءة الخريطة الجغرافية لهذه الاعتداءات في الضفة الغربية بمعزل عن المشروع الاستيطاني الأوسع، فهناك مناطق يجري تفريغها بشكل متعمّد، وأخرى يُمنع الفلسطينيون من الوصول إليها، تمامًا بما يتوافق مع مخططات الاحتلال.
ومثالًا على ذلك ما يحدث في جنوب الخليل، إذ يتعرض سكان مسافر يطا لاعتداءات يومية، في إطار مخطط رسمي لتهجيرهم، بينما يتولى المستوطنون تنفيذ الدور القذر على الأرض. أما شرق رام الله، فتعمل المجموعات الاستيطانية على تكريس واقع يمنع الفلسطينيين من الوصول إلى شرق شارع آلون، تنفيذًا لمخطط معلن يهدف إلى السيطرة الكاملة على المنطقة.
واستكمالًا لهذه الصورة، يتكفل المستوطنون بتنفيذ هذه المخططات عبر الحرائق، وإطلاق النار، والاعتداءات المتكررة؛ ولا يمكن النظر إلى ما يقومون به إلا باعتباره امتدادًا مباشرًا لمخططات الدولة التي تجد من ينفذها على الأرض عبر عنف المستوطنين.
القضية الأساسية تكمن في أن دولة الاحتلال توفر حماية كاملة للمستوطنين، وتعمل على تفريغ أي عقوبة دولية من مضمونها، فعلى سبيل المثال، عندما يفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على بعض المستوطنين، مثل منع السفر أو حرمانهم من التحويلات البنكية، تسارع دولة الاحتلال إلى حمايتهم عبر دعم مالي مباشر، بما يفقد العقوبات أثرها، فضلًا عن مساعدتهم على السفر إلى دول لا تفرض قيودًا عليهم، وبهذه الطريقة، أسهمت دولة الاحتلال في إفراغ العقوبات الدولية من محتواها.
ثم إنّ دولة الاحتلال لا تكتفي بتقويض العقوبات، بل تعاقب أيضًا أي مؤسسة تحاول فرض إجراءات ضد المستوطنين، وهذا ما ورد في لوائح تنفيذية صادرة عن الحكومة، وباتت الدولة بكل مؤسساتها مجندة لحماية المستوطنين ومنع وصول أي عقوبة أو مساءلة إليهم.
إذ إنّ هذا ما حدث خلال العامين الماضيين عقب موجة العقوبات الأوروبية والغربية، فقد استنفرت دولة الاحتلال بالكامل للدفاع عنهم. وبعد تعيين يسرائيل كاتس وزيرًا للجيش، كان أول ما فعله إلغاء الاعتقال الإداري، رغم أنه كان عقوبة صورية بحق مجرمي المستوطنين، وقد أدى إلغاؤه إلى زيادة إرهاب المستوطنين، على الرغم من أن العقوبة كانت شكلية أساسًا.
تداعيات الاعتداءات على المدنيين الفلسطينيين وجهود الحماية المحلية والدولية
سُئل داود عن توقعاته لوتيرة الاعتداءات خلال الأشهر المقبلة، فأجاب بأن هذه الاعتداءات ستتزايد، وإذا لم تتزايد، فستبقى على ذات النسق، وهو نسق مرتفع وغير مسبوق. ثم إنّ دولة الاحتلال، حتى هذه اللحظة، لم تتعرض لضغوط حقيقية من أكبر دول العالم فيما يتعلق بوقف الإرهاب، وفي الوقت نفسه لا تزال تغذي إرهاب المستوطنين وتدعمهم وتحميهم، بل وتزوّدهم بالعتاد وتوفّر لهم الحاضنة التشريعية.
هذا الوضع يشير إلى عدم وجود أي مؤشر لانكفاء إرهاب المستوطنين أو تراجعه، بل على العكس، هناك تخوفات من ارتكاب جرائم كبرى بحق المدنيين الفلسطينيين. هذه الجرائم مسألة وقت لا أكثر، إذ يتمتع المستوطنون بكافة الإمكانيات والامتيازات التي تمكنهم من القيام بأي فعل دون مواجهة عقوبة محتملة، بينما لا يولي العالم ما يحدث في الضفة الغربية الاهتمام اللازم. وما يحدث في الضفة الغربية يُعد جريمة دولة، وجريمة إرهاب مرعي من قبل الدولة، بالنظر إلى أن ما حدث في قطاع غزة استجلب كافة الانتباهات، فيما تركت ساحة الضفة الغربية مكشوفة للظهر أمام إرهاب المستوطنين وإرهاب جيش الاحتلال.ثم إنّ المستوطنون يشعرون بالحماية والحصانة، حيث لم تقم دولة الاحتلال بأي شيء يردعهم، بينما المجتمع الدولي يتعامل بحالة نصف عين بالنظر إلى ما يحدث في الضفة الغربية.
فيما يخص كيفية تعامل المجتمعات المحلية مع هذه الهجمات، فإن العديد من القرى التي تعرضت للاعتداءات في الفترة الماضية نجحت في تشكيل لجان حماية ليلية. وهذه اللجان نجحت في كثير من الأحيان بإفشال هجمات المستوطنين، وآخر نموذج هو لجنة الحماية في سنجل، وهو نموذج يحتذى به.ثم إنّ العديد من اللجان السابقة نجحت أيضًا في صد اعتداءات المستوطنين، لتُظهر أهمية تكثيف الجهود وتوسيع نطاق تشكيل لجان الحماية لإحباط المزيد من الهجمات.
ومن الجدير ذكره أن الإرهاب المرعي من الدولة لا يمكن إبطاؤه أو إيقافه بضغطة زر، فهو هجوم منهجي يتعرض له الشعب الفلسطيني، وتدعمه دولة الاحتلال بالكامل لتمكين المستوطنين من تنفيذ اعتداءاتهم. ونحن نواجه مخطط دولة كامل، وليس فقط مستوطنين أفراد، وندرك حجم التعقيدات والصعوبات في التعامل مع هذه الظروف. ومع ذلك، الجهد الوطني والشعبي الفلسطيني يستحق التقدير والتحية، وخاصة ما تم تحقيقه في القرى المعروفة، مثل قرى رام الله في الخط الشمالي الشرقي، حيث يوجد لجان حماية، وكذلك في مسافر يطا وبيت لحم ومنطقة جنوب نابلس، التي تمتلك لجان حماية منذ أكثر من عشر سنوات ضد اعتداءات المستوطنين.
وتراكم هذه الخبرات المحلية يعزز القدرة على حماية الذات والمقدرات الوطنية الفلسطينية، ويجب التشديد على أهمية استمرار الجهد الشعبي والوطني لمواجهة هذا الإرهاب.
أما فيما يتعلق بالرسالة التي أريد إيصالها للمجتمع الدولي بشأن حماية المدنيين الفلسطينيين وممتلكاتهم، فعلى المجتمع الدولي أن يغادر مربع ازدواجية المعايير في التعامل مع الشعب الفلسطيني. حتى هذه اللحظة، يتعامل المجتمع الدولي بازدواجية معيبة تجاه الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين. وعليه الانتقال من مربع الكلام والشجب إلى مربع الفعل الحقيقي، الذي يفرض عقوبات على دولة الاحتلال ويقطع الشراكات معها. إذ لا يمكن لدولة الاحتلال التراجع عن مشروع الإرهاب بحق الفلسطينيين دون فرض عقوبات حقيقية، تشمل قطع العلاقات والشراكات وفرض عقوبات اقتصادية فعلية، فهذا هو السبيل لإجبار دولة الاحتلال على التراجع.
الشعب الفلسطيني أعزل ويواجه هجمة إرهابية مسلحة من كافة مكونات دولة الاحتلال، والجريمة المرتكبة في الضفة الغربية لم تحظ بالاهتمام الكافي من المؤسسات الدولية ودول العالم. لذلك من المهم تسليط الضوء على هذا التقاعس الدولي، الذي يمتلك الحقائق كاملة مثبتة وموثقة بشأن الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية.
انتهاك الأمان وحقوق الفلسطينيين في القرى
الباحثة الحقوقية في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، عائشة أحمد، ترى أن طبيعة هذه الاعتداءات واتساع رقعتها يفقدان الفلسطيني إحساسه بالأمان في كل مكان، سواء في المدن أو القرى أو المخيمات، وفي مختلف البلدات والتجمعات البدوية المنتشرة في محافظات الضفة الغربية. فالفلسطيني، يعيش في واقع يُستباح فيه حقه الطبيعي في العيش بأمن واستقرار داخل وطنه، ويواجه اعتداءات متكررة تهدد وجوده اليومي.
وكل اعتداء يخلّف أثرًا مباشرًا على الحقوق الأساسية للفلسطينيين، بدءًا من الحق في الحياة، مرورًا بالحق في الصحة والسكن وحرية التنقل بين المناطق، وصولًا إلى القدرة على كسب الرزق وممارسة الأعمال اليومية ضمن مستوى معيشي لائق. ولا يقتصر الأثر على هذه الحقوق فقط ، بل يمتد ليطال منظومة كاملة من الحقوق التي يُفترض، في ظروف إنسانية طبيعية، أن تُمارَس تلقائيًا دون عوائق. وهي حقوق تكفلها جميع المواثيق الدولية، بما فيها القانون الإنساني الدولي الذي يضمن الحماية للشعوب الواقعة تحت الاحتلال، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني.
الحماية المجتمعية والمساءلة الدولية في مواجهة اعتداءات المستوطنين
تضيف الباحثة الحقوقية بأنه على الصعيد الفلسطيني، بات من الضروري تعزيز منظومة الحماية المجتمعية ورفع مستوى الوعي المحلي، عبر تشكيل لجان حماية في مختلف المناطق المهدَّدة، سواء في القرى أو البلدات. وتعزيز وعي الفلسطينيين لمواجهة هذه الهجمات هو خطوة أساسية، خصوصًا مع تزايد خطورة اعتداءات المستوطنين في السنوات الأخيرة. كما تبرز أهمية التوثيق المنهجي لهذه الاعتداءات، من خلال إنشاء قاعدة بيانات شاملة تستند إليها الجهات الحقوقية أمام المحاكم والمحافل الدولية، على أن يتم التوثيق وفق معايير قانونية ودولية دقيقة، مع إعداد ملفات مفصلة لكل حادثة ورفعها من خلال منظمات حقوق الإنسان إلى المؤسسات الدولية المختصة، وعلى رأسها المحكمة الجنائية الدولية.
وفي جانب متصل، تبرز الحاجة إلى تعزيز التنسيق بين السلطة الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المحلي والهيئات المدنية والفصائل، بما يضمن استجابة موحَّدة وحازمة تجاه اعتداءات المستوطنين. إذ يقع على عاتق السلطة الفلسطينية أيضًا تكثيف الجهود الدبلوماسية، بالتعاون مع الجاليات الفلسطينية والسفارات في الخارج، بهدف مخاطبة المجتمع الدولي وفضح هذه الاعتداءات على أوسع نطاق، ودفعه إلى تحمّل مسؤولياته. وإنّ جميع هذه الجهات مطالبة بالارتقاء إلى مستوى التزاماتها القانونية والدولية، وبذل جهود فعلية لفرض ضغوط جدية على دولة الاحتلال لوقف اعتداءات المستوطنين و محاسبة منفذيها، وإنهاء حالة التواطؤ العلني من جانب الجيش والحكومة والمستويات السياسية والعسكرية.
وفي ما يتعلّق باللجوء للمحافل الدولية، فإن جرائم الحرق وغيرها من الاعتداءات، في ظلّ التواطؤ الواضح من دولة الاحتلال، سياسيًا وعسكريًا، إلى جانب التحريض والتشجيع العلني على تسليح المستوطنين ودفعهم لارتكاب اعتداءات بحق الفلسطينيين، تُصنَّف جرائم الحرق وغيرها من الاعتداءات ضمن جرائم الحرب بموجب القانون الدولي الإنساني ونظام روما للمحكمة الجنائية الدولية. ما يستوجب ملاحقة مرتكبي هذه الجرائم في مختلف المحافل الدولية دون أي تردد.
والمجتمع الدولي مُلزم بتحمّل مسؤولياته القانونية والإنسانية والأخلاقية وفق الاتفاقيات الدولية واتفاقيات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وأن يتصدى بحزم للاعتداءات المتصاعدة بحق الفلسطينيين، مع ممارسة ضغط فعّال وجاد على دولة الاحتلال لوقف هذه الممارسات وضمان حماية المدنيين. وعلى المؤسسات الحقوقية الدولية والدول الثالثة الأطراف، لا سيما تلك التي تسمح بمحاكمة مجرمي الحرب على أراضيها، ملاحقة المستوطنين المتورطين في جرائم حرب ومنعهم من التنقل بحرية أو دخول أراضيها.
ثم إنّ غالبية المستوطنين المتورطين يحملون جنسيات متعددة، بينها الفرنسية والأمريكية والبريطانية إلى جانب الإسرائيلية، ما يجعل تلك الدول ملزمة قانونيًا وأخلاقيًا بمحاسبتهم في بلدانهم الأصلية استنادًا إلى تورطهم في جرائم حرب ضد الفلسطينيين، وعدم السماح لهم بالتهرب من العدالة الدولية.
عمليات الحرق تترك ندوبًا عميقة لا تمحى، خصوصًا لدى الأطفال الذين يشهدون ألسنة النار وهي تلتهم منازلهم. لهذا كان من الضروري استضافة الأخصائية النفسية في مركز علاج وتأهيل ضحايا التعذيب، الاء هريش، ومحاورتها للتعرف على الصدمة النفسية التي يعيشها الأطفال والنساء الذين يشهدون حرق منازلهم.
الآثار النفسية لاستهداف الأطفال والنساء
سُئلت هريش عن الآثار النفسية، قصيرة وطويلة المدى، التي يخلّفها استهداف الاحتلال للأطفال والنساء عبر إحراق منازلهم، فأوضحت أنّ الأحداث العنيفة تخلّف بطبيعتها آثارًا نفسية عميقة، خصوصًا عندما تستهدف الاعتداءات منازل العائلات. وأنّ البيت ليس مجرد مكان للسكن أو سقف يأوي الأفراد، بل هو مصدر أساسي للأمان والاستقرار. لذلك، فإن التعرّض لاعتداء داخل المنزل يؤدي إلى فقدان هذا الشعور بالأمان، ما يترك انعكاسات نفسية واضحة على الأطفال والنساء.
ومن أبرز الآثار النفسية التي تظهر على الضحايا: القلق، والخوف الدائم، والكوابيس التي تنتشر بشكل أكبر بين الأطفال، إضافة إلى الأرق وصعوبات النوم. كما تؤثر هذه التجارب على التركيز والقدرة على التعلم، وهو ما قد يؤدي إلى مشكلات دراسية. والوضع الحالي المركّب، المتمثل بالاعتداءات المتكررة إلى جانب انقطاع التعليم والمشكلات المرتبطة به، يزيد من صعوبة التركيز والانضباط لدى الأطفال، وينعكس على سلوكهم.
أما الآثار السلوكية فتختلف من طفل لآخر، فبعض الأطفال قد يُظهرون سلوكيات عدوانية ويستخدمون العنف للتعبير عن مشاعرهم والضغوط التي يواجهونها، فيما يلجأ آخرون إلى الانسحاب الاجتماعي بعد أن كانوا أطفالًا حيويين و مندمجين مع العائلة، فيتحولون إلى الانطواء والعزلة والخجل، وقد تتأثر صورتهم الذاتية وثقتهم بأنفسهم بشكل سلبي.
والآثار لا تقتصر على الجانب النفسي فقط، بل تمتد أيضًا إلى آثار جسدية مرتبطة بالحالة النفسية، مثل: التبول اللاإرادي، واضطرابات النوم والشهية، ومشكلات جسدية متعددة، وهي أعراض شائعة لدى الأطفال. أما بالنسبة للنساء والعائلات، فتتجلى التأثيرات في القلق المستمر والخوف الدائم من تكرار الاعتداء، ومشاعر الاكتئاب والحزن والعزلة، وتغيّر المزاج، إضافة إلى اضطرابات ما بعد الصدمة المصحوبة بشعور متواصل بفقدان الأمان وعدم الثقة بالمكان الذي يفترض أن يكون مصدر حماية لهم.
الضغوط النفسية تتزامن غالبًا مع أعباء مادية ناتجة عن الأضرار التي لحقت بالمنازل، ما يزيد من ثقل الضغوط على العائلات. ومع تصاعد هذا العبء على الأمهات والآباء، قد تتوتر العلاقات داخل الأسرة، وقد يؤدي استمرار الضغط دون تدخل أو تخفيف إلى نشوء خلافات وصراعات داخلية، قد تتطور في بعض الحالات إلى أشكال من العنف الأسري نتيجة تراكم التوتر وعدم القدرة على التعامل معه.
آليات مواجهة الصدمة النفسية للأطفال والعائلات بعد الحوادث العنيفة
الصدمة تجربة مفاجئة أو مؤلمة تتجاوز قدرة الفرد على التكيّف، وينتج عنها طيف واسع من الأعراض النفسية والسلوكية والجسدية والعاطفية. الأيام والأسابيع الأولى بعد الحدث تُعدّ مرحلة حساسة، إذ يحتاج الأطفال خلالها إلى بيئة حاضنة تشعرهم بالأمان. ويحدث ذلك من خلال الإصغاء لهم، وإتاحة المجال للتعبير عن مشاعرهم بلا ضغط، وتمكينهم من الحديث عن التجربة بالطريقة التي تناسبهم.
ما يساعد الأطفال على تفريغ مشاعرهم التعبير العفوي من خلال اللعب والرسم، كما أن استخدام لغة بسيطة تُلائم أعمارهم يسهّل فهم أثر الحدث عليهم. والاحتواء النفسي والجسدي ضروريان، إلى جانب توفير وسائل للتفريغ الانفعالي، مثل الرسم أو اللعب، مع الحرص على إبعادهم عن أي صور أو مقاطع أو أخبار قد تزيد من سوء حالتهم أو تعمّق مشاعر الخوف لديهم.
والدعم النفسي للعائلات لا يقل أهمية، فبعد التعرّض لحدث صادم ينبغي نقل الأسرة إلى مكان آمن يساعد أفرادها على استعادة حد أدنى من الاستقرار. ويُفضَّل منح كل فرد مساحة للتعبير عن تجربته بلا أحكام، بما يتيح له تفريغ مشاعره على نحو صحي. كما أن العودة التدريجية إلى روتين يومي بسيط، مثل تنظيم النوم والطعام وأوقات الراحة، تمنح الشخص شعورًا بأنه ما زال قادرًا على التحكم في جانب من حياته، مما يخفف من الإرباك الناجم عن الحدث المفاجئ.
النساء تحديدًا، قد يستفدن من شبكات الدعم الجماعي عبر المؤسسات المجتمعية، حيث يجتمع أشخاص مرّوا بالتجربة ذاتها، فيشاركون مشاعرهم وما واجهوه من سلوكيات خلال تلك الفترة، الأمر الذي يعزز الإحساس بالفهم المتبادل والدعم المشترك. تقنيات مثل الاسترخاء والتنفس العميق تساهم في تخفيف حدّة الأعراض المرتبطة بالصدمة، ولا تُنهيها بالكامل، لكنها تساعد العائلات على التعامل معها بصورة أفضل وأكثر توازنًا.
دور المجتمع المحلي في الدعم النفسي وحماية المدنيين
يلعب المجتمع المحلي دورًا أساسيًا وحاسمًا في دعم العائلات التي تتعرض لاعتداءات عنيفة، “اليد الواحدة لا تصفق”، والأسرة وحدها لا تستطيع مواجهة تبعات الصدمة من دون شبكة مساندة واسعة. والمجتمع المحلي يشمل العائلات المحيطة والجيران والمؤسسات الأهلية والمدارس والجهات المجتمعية المختلفة، وجميعها قادرة على تقديم دعم نفسي واجتماعي متكامل.
تنظيم لقاءات توعوية وورش عمل حول أهمية الصحة النفسية وأساليب العلاج يساهم في تحديد دور المجتمع بوضوح، فالدعم النفسي لا يقتصر على الجلسات العلاجية، بل يشمل توفير بيئة داعمة، وتنسيق الجهود بين المؤسسات النفسية والاجتماعية والمادية. ثم إنّ المجتمع يستطيع مساعدة العائلات عبر دعم الاحتياجات الأساسية في المراحل الأولى،كالملبس والمأكل والمسكن الآمن، وهو ما يمهّد لاحقًا لتقديم دعم نفسي فعال. ويجب تسليط الضوء على أهمية التكامل بين مختلف المؤسسات والخدمات، لضمان وصول المتضررين إلى أفضل دعم ممكن يلبي احتياجاتهم الحقيقية.
وفيما يتعلق بوجود قصور في توفير الدعم النفسي والاجتماعي للعائلات التي تعرضت لاعتداءات الاحتلال، فلا يمكن وصف الأمر بالتقصير، بل يمكن الحديث عن فجوة سببها عدة عوامل.
فالمؤسسات تعمل ضمن نطاق قدراتها وإمكاناتها، ومع ذلك تتزايد الأعداد المحتاجة بشكل كبير. مثالًا على ذلك مركز علاج وتأهيل ضحايا التعذيب، حيث بلغ عدد المستفيدين عام 2022 نحو 1754 شخصًا، وارتفع العدد عام 2023 إلى 3610، ووصل عام 2024 إلى 6254 مستفيدًا، ما يعكس تزايد الاحتياجات بصورة حادة، خصوصًا بعد أحداث 7 أكتوبر.
جزء من هذه الفجوة يعود إلى التحديات الميدانية، فطبيعة عمل العيادات المتنقلة تتطلب الوصول إلى مناطق تماس تشهد مواجهات، وهذا يعرّض الطواقم لصعوبات حقيقية في التنقل والدخول. كما يؤثر عامل الوصمة الاجتماعية، إذ إن الكثير من الأفراد ما زالوا يفتقرون للوعي الكافي بأهمية طلب الدعم النفسي بعد التعرّض لحدث صادم، مما يجعلهم يترددون في طلب المساعدة أو يرفضونها. وتقديم الخدمة يتطلب وجود رغبة وقبول من الطرف الآخر، وإلا يصبح من الصعب إيصال الدعم إليهم، الأمر الذي يزيد من تعقيد الوضع ويحدّ من فاعلية البرامج النفسية.
رسالتي واضحة للمجتمع المحلي والمؤسسات الحقوقية، الشعب الفلسطيني يعيش في مواجهة مستمرة مع الصدمات، وأن هذه الصدمات لم تتوقف. ولهذا، يصبح من الضروري توحيد الجهود والخدمات لضمان الوصول إلى الفئات الأكثر هشاشة وتهميشًا. والتعاون والتكامل وتبادل الدعم بين جميع الجهات، لأن الدعم النفسي عنصر جوهري يساعد الأفراد على تجاوز الأزمات التي يمرون بها، ويحفظ صمود المجتمع بأكمله.
من دوما إلى القرى المستهدفة اليوم، يتكرر المشهد ذاته، نار تشعلها مجموعات استيطانية، ومنازل فلسطينية تلتهمها النيران في ظل غياب الردع وسياسة التراخي الرسمي. لم يعد الحرق مجرد “عمل انتقامي”، بل تحوّل إلى ممارسة متعمدة تهدف إلى تفريغ مناطق فلسطينية كاملة لصالح المشروع الاستيطاني. ومع استمرار التحريض السياسي وتصاعد العنف، يحذّر المختصون من أن السيناريو الأخطر قد يتكرر في أي قرية فلسطينية، ما يجعل العائلات تعيش يوميًا بين نارٍ مشتعلة وخوفٍ دائم، في معادلة تجمع بين عنف بلا محاسبة وخطر مستمر على حياتهم وممتلكاتهم.