في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، أثار تحقيق استخباراتي تركي تساؤلات واسعة بعدما بدا أنه يلامس خطوطًا سياسية حسّاسة في العلاقات مع الإمارات.
بيان رسمي أولي ثم تراجُع سريع في صياغته ثم إصدار توضيح إضافي، وتناول دولي للقضية بلهجة مختلفة.. كلها عناصر طرحت سؤالًا أساسيًا: ماذا جرى فعليًا في ذلك اليوم حتى تحوّل ملف خطير إلى حالة دبلوماسية تتطلّب احتواءً عاجلًا؟
ماذا جرى؟
- أعلن مكتب المدعي العام في إسطنبول أن تحقيقًا مشتركًا مع جهاز الاستخبارات الوطني (MİT) وشعبة مكافحة الإرهاب في الشرطة كشف شبكة تجسس متهمة بالعمل لصالح جهاز الاستخبارات الإماراتي.
- بحسب البيان، استخدمت الشبكة شريحة هاتف محمول تركية، للتواصل مع موظفين كبار في شركات صناعات دفاعية تركية، ومع هاتف تابع لوزارة الخارجية وبعض الدبلوماسيين الأجانب، بهدف جمع بيانات عنهم.
- حدد البيان أربعة مشتبه بهم، ألقي القبض على ثلاثة منهم في عملية متزامنة بإسطنبول، فيما صدرت مذكرة توقيف بحق الرابع لوجوده خارج البلاد.
- بعد ساعات، حذف مكتب المدعي العام البيان من حسابه على منصة إكس ونشر نسخة منقّحة أزالت كل إشارة صريحة إلى الإمارات أو جهاز استخباراتها، كما حُذفت تفاصيل بعض الأهداف الحساسة مثل تلك المتعلقة بالتجسس على وزارة الخارجية.
- بعد يومين، أصدرت النيابة بيانًا ثالثًا أكدت فيه أنه “لا علاقة للمشتبه بهم بدولة الإمارات”.
وأثار التغيير السريع لصيغة البيانات تساؤلات حول خلفيات هذا التراجع، خاصة أن البيان الأول كان تفصيليًا ويشمل معلومات واسعة.
وتأتي هذه التطورات في ظل علاقات مستقرة نسبيًا بين أنقرة وأبوظبي منذ 2021، بعد سنوات من التوتر، رغم بروز خلافات جديدة مؤخرًا على خلفية الحرب في السودان، حيث تدعم الإمارات مليشيات الدعم السريع، فيما تقوي تركيا تعاونها مع الجيش السوداني.
سوابق تثير شبهات أكبر
لدى الإمارات سجلّ سابق في قضايا التجسس داخل تركيا، لكنها لم تكن الطرف الوحيد في هذا السياق؛ إذ برزت “إسرائيل” إلى جانبها باعتبارهما أبرز دولتين ارتبط اسمهما بعدة حوادث من هذا النوع كشفتها السلطات التركية، أبرزها:
- في أبريل/نيسان 2019 اعتقلت تركيا شخصين في إسطنبول اعترفا بالتجسس على رعايا عرب لصالح الإمارات، في حادثة رسّخت لدى الرأي العام التركي صورة أبوظبي كفاعل نشط في حروب التجسس بالمنطقة.
- في أكتوبر/تشرين الأول 2021، فكك جهاز الاستخبارات التركي شبكة مكوَّنة من 15 شخصًا متهمين بالعمل لصالح الموساد، وبجمع معلومات عن طلاب فلسطينيين في الجامعات التركية، بما في ذلك فرصهم في العمل بقطاع الصناعات الدفاعية.
- بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 تسارعت العمليات المضادة للموساد بشكل ملحوظ، ففي 2 يناير/كانون الثاني 2024، احتجزت السلطات التركية 34 شخصًا يُشتبه بارتباطهم بالجهاز الإسرائيلي وباستهداف فلسطينيين يعيشون في تركيا.
- تقارير عبرية أطلقت على هذه العملية الأخيرة اسم “Operation Mole”، واعتبرتها ردًا مباشرًا على تهديدات “إسرائيل” باستهداف قيادات حماس في الخارج.
وفي وقت مبكر، حتى قبل توقيع “اتفاقات أبراهام” التطبيعية عام 2020، بدأت تتكشف في 2019 شبهات تجسس مشتركة بين “إسرائيل” – أميركا والإمارات عبر شركات وبرامج، أبرزها:
شركة DarkMatter الإماراتية: كشفت تحقيقات عن دورها بتشغيل برامج تجسس متطورة لصالح الدولة، عبر توظيف ضباط سابقين في وحدة 8200 الإسرائيلية الاستخباراتية، ما عزز التكهنات بالعمل المشترك لاستهداف مصالح خارجية.
تطبيق “توتوك” للمحادثة: كشفت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية عن “تجسس” الحكومة الإماراتية على مستخدمي التطبيق الذي ابتكرته شركة “بريج هولدينغ” ومقرها أبوظبي، والتي يرجح أنها على صلة بشركة “دارك ماتر” المذكورة سابقًا.
مشروع Raven: بالتزامن مع انكشاف أمر دارك ماتر، جرى الكشف عن فريق سري يضم أكثر من 12 عميلًا سابقًا في الاستخبارات الأمريكية، جُنِّدوا لمساعدة الإمارات على مراقبة حكومات أخرى، ضمن مشروع عرف باسم “رافن”.
هل تقف “إسرائيل” خلف شبكة التجسس الإماراتية الأخيرة؟
“علي بوراك دارجلي” المتخصص بالشؤون الأمنية والضابط المتقاعد من الاستخبارات التركية، فتح باب التكهنات بشأن هذا الاحتمال في تغريدة على إكس، إذ قال إن “إسرائيل تقف إلى حدٍّ كبير خلف أنشطة التجسس التي تنفذها الإمارات في تركيا”.
جزم دارجلي أن “الإمارات، ولا سيما في الفترة الأخيرة، أصبحت واقعة تحت تأثير إسرائيل وسيطرتها”، وتوقع أنّ الإمارات سعت إلى جمع معلومات شخصية عن المهندسين الأتراك وخاصة أرقام هواتفهم.
ورأى أن الهدف يكمن في تنفيذ عمليات تجسس باستخدام برامج من نوع بيغاسوس، وبيّن أن أبوظبي تحاول الوصول إلى معلومات شديدة السرّية تتعلق بصناعة الدفاع التركية.
BAE’nin Türkiye’ye yönelik casusluk faaliyetlerinin arka planında, benim değerlendirmeme göre, büyük ölçüde İsrail bulunmaktadır. BAE, özellikle son dönemde, İsrail’in etkisi ve kontrolü altına giren bir yapı hâline gelmiştir. Bu çerçevede BAE’nin, Türk mühendislerin biyografik…
— Ali Burak Darıcılı (@BurakDaricili) November 27, 2025
لماذا تهتم “إسرائيل” بالصناعات الدفاعية التركية؟
- تعد تركيا اليوم منافس صاعد لـ”إسرائيل” في أسواق السلاح والتكنولوجيا العسكرية، خاصة في الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية قصيرة المدى وأنظمة الدفاع الجوي وأبرزها أخيرًا تطويرها منظومة “القبة الفولاذية” على غرار “القبة الحديدية” الإسرائيلية.
- تعزز هذا التنافس بفعل الطلب المتزايد على الطائرات التركية بدون طيار التي لعبت دورًا حاسمًا في عدة صراعات، من ليبيا وسوريا إلى أوكرانيا وقرع باغ وبلدان إفريقية أخرى.
- بعض الدول التي تشتري المسيّرات التركية أو تتعاون مع أنقرة دفاعيًا هي أيضًا جزء من المشهد الأمني الإيراني–الإسرائيلي أو العربي–الإسرائيلي (مثل دول في الخليج، وأخرى في إفريقيا حاضرة في التنافس على النفوذ).
- نمو صادرات الصناعات الدفاعية التركية إلى أكثر من 7 مليارات دولار في 2024، يجعل أي معلومات تفصيلية عن قدرات الشركات التركية، وخططها التصديرية، ونقاط ضعفها التقنية، ذات قيمة كبيرة لإسرائيل على مستويين:
- منافسة تجارية مباشرة
- تقييم ميزان القوى العسكري في الشرق الأوسط
ربما الأهم في هذه القضية ليس ما قيل في البيانات، بل ما لم يُقل. فالتراجع عن اتهام مباشر، ثم نفي العلاقة بدولة بعينها، لا يلغي حقيقة أن ساحة التجسس في تركيا أصبحت أكثر ازدحامًا، وأن الصناعات الدفاعية باتت هدفًا مركزيًا في صراع إقليمي معقّد. ومع تشابك الأدوار بين دول وشبكات وشركات، يبقى السؤال مفتوحًا: هل كان ما كُشف مجرّد طرف خيط… أم أن ما جرى احتواؤه سياسيًا يخفي تحته معركة أكبر لم يُسمح لها بعد بالخروج إلى العلن؟
