عاش السوريون على مدار سنوات الثورة رحلة لجوء طويلة بين مختلف البلدان، فحطت رحال أكثر من ثلاثة ملايين منهم في تركيا، البلد الجار على الحدود الشمالية، ليتراجع هذا العدد تدريجيًا خلال السنوات الماضية أمام عودة بعضهم إلى مناطق الشمال التي كانت محررة من نظام الأسد آنذاك.
وبعد تحرير البلاد وإسقاط النظام قبل نحو عام، تصاعدت وتيرة العودة ليصل هذا العدد إلى ما دون المليونين ونصف المليون حاليًا، إذ قال وزير الداخلية التركي، علي يرلي كايا، مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، إن عدد السوريين الذين عادوا من تركيا إلى سوريا بعد 8 من كانون الأول/ يناير 2024، بلغ 550 ألف لاجئ، في حين ما يزال نحو 2.4 مليون سوري لاجئين مسجلين وفق الإحصائيات الرسمية التركية، بعدما تجاوز العدد 3.5 مليون في ذروة أزمة اللجوء.
اكتسبت هذه العودة زخمًا أكبر بعد رحيل نظام الأسد وانتهاء التهديدات الأمنية والأفرع الأمنية التي كانت تسجل على لوائحها أكثر من ثمانية ملايين مطلوب على خلفية قضايا تتعلق بالثورة، ما ترك الطريق معبدًا أمام الراغبين بالعودة إلى ديارهم.
View this post on Instagram
تغييرات في الامتيازات
بعد انتهاء الموسم الدراسي الماضي، تضاعفت أعداد العابرين من تركيا إلى سوريا عبر الحدود المشتركة التي تربط البلدين، وفق ما نقلت صحيفة “Türkiye”، فإنه منذ منتصف حزيران/ يونيو الماضي، تضاعفت أعداد العابرين يوميًا عبر المعابر الحدودية إلى 2500 شخص، فيما كانت قبل تلك الفترة بحدود 1300 إلى 1400 شخص يعبرون الحدود يوميًا نحو سوريا، في حين سجلت الأسابيع الأولى بعد سقوط الأسد عودة نحو 1672 شخصًا يوميًا، بحسب ما نقلته قناة “CNN Türk” عن وزير الداخلية التركي.
وبحسب الأرقام الرسمية الصادرة عن إدارة الهجرة التركية في 27 من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وهي أحدث إحصائية حتى إعداد هذه المادة، فإن مليونين و371 ألف و412 لاجئ سوري يقيمون في تركيا، بموجب نظام “الحماية المؤقتة”.
بعدما كان السوريون على موعد مع تغييرات تتعلق ببطاقة الحماية المؤقتة وتحقيق قوننة أكثر لوجودهم على الأراضي التركية عبر الوثائق، غيّر سقوط النظام المخلوع المشهد، فرغم التأكيد الرسمي على عدم إجبار أحد على العودة إلى سوريا، ورغم مواصلة الكثيرين رحلة العودة، إلا أن تغييرًا حصل في نظام الحماية المؤقتة يعبّر بشكل أو بآخر عن متابعة هذا الملف الذي استهلك سياسيًا على مدار سنوات وتحوّل إلى ورقة انتخابية على يد المعارضة التركية.
وقبل أيام، نشرت وسائل إعلام تركية تعديلات على لائحة الحماية المؤقتة ألغت النظام القديم الذي كان ينص على تقديم العلاج المجاني في المشافي الحكومية للاجئين السوريين، بالإضافة إلى إقرار آلية جديدة ستدخل حيّز التنفيذ بداية العام المقبل، لتدرج السوريين الخاضعين للحماية المؤقتة ضمن نظام التأمين الصحي العام (GSS) المطبّق على الأتراك، وهذا يعني بالضرورة تحصيل رسوم مقابل الخدمات الصحية غير الطارئة.
ومن المقرر إعفاء غير القادرين ماليًا ممن يجري تقييم وضعهم من قبل صندوق المساعدات الاجتماعية، والنساء الحوامل والأطفال وذوي الإعاقة والرضّع واللقاحات الوقائية والخدمات الطارئة والإسعاف، من هذه التحديثات.
هذه الخطوة بالإضافة إلى عوامل أخرى، غيّرت نظرة كثير من السوريين لمفهوم الحماية المؤقتة، فبعد سقوط النظام اتجه كثيرون إلى استبدال وثيقة الحماية المؤقتة بإقامة سياحية تتيح لهم حرية أكبر في الحركة وتمنحهم مساحة أوسع في حياتهم الشخصية والعملية.
رغبة بالتحرك.. تجاوب مع العاطفة
لؤي شاب سوي يقيم في تركيا حوّل مؤخرا بطاقة الحماية المؤقتة، والتي تسمى “كيملك”، إلى وثيقة إقامة سياحية، موضحًا أن “الكيملك” يحصر اللاجئ السوري في تركيا، ولا يتيح للراغبين بزيارة بلدهم خيارًا من هذا النوع مالم تكن عودة طوعية باتجاة واحد لا تتيح قدومًا جديدًا إلى تركيا.
الشاب أوضح لـ”نون بوست” أن “الكيملك” يتطلب إذنا للسفر بين الولايات التركية، وهي مسألة يعفى منها حملة الإقامة، ويمكنهم التحرك بين الولايات التركية بحريّة.
وحول الأسباب التي دفعته للتوجه إلى الإقامة السياحية في هذا الوقت أوضح الشاب أن هذا الخيار كان عالي الكلفة، ولا يوجد ما يحفّز على هكذا خطوة طالما أن البلاد كانت حلمًا بعيد المنال بالنسبة لمعارضي الأسد، مشيرًا إلى أن السلطات التركية شرّعت الباب مؤخرا أمام هذا المخرج القانوني بشكل أوسع، خصوصا أن “الكيملك” على وشك الإلغاء وإيقاف العمل به، بالاستناد إلى مؤشرات واضحة حيال ذلك، ومنها إلغاء التأمينات الصحية للاجئين، وفق رأي الشاب، الذي أكد أنه لم يغامر بإمكانية حصوله على الجنسية التركية بعد استبدال “الكيملك” بالإقامة، لأنه لا يبني آمالًا من هذا النوع في الأساس، على اعتبار أنه قضى ثماني سنوات من حياته يحمل وثيقة الحماية المؤقتة امتلك خلال ست سنوات منها إذن عمل، من شأنه منحه أولوية عند التجنيس، لكن لم يلمس أي بوادر من هذا النوع.
لؤي بيّن أن التكاليف الكاملة لاستخراج الإقامة من تأمين صحي وحجز موعد وأوراق بلغت نحو 400 دولار، دون أن تتضمن تكاليف تجديد أو استخراج جواز السفر، داعيا السوريين إلى صرف النظر عن “الكيملك” واستخراج إقامة كون “الكيملك” فقد امتيازاته، والإقامة تتيح ميزات أكثر اليوم بالنسبة للاجئ السوري، وفق قوله، لافتًا إلى أن تجربته في الحصول على الإقامة كانت مريحة وقليلة الكلفة ولم يتخللها منغصات إذ يمكن الحجز وتقديم الأوراق ثم الانتظار لفترة وجيزة قبل الحصول على الإقامة وتسليم وثيقة الحماية المؤقتة.
من جانبه، يرى ضياء، وهو شاب آخر استبدل “الكيملك” مؤخرا بوثيقة الإقامة السياحية، أوضح أن الأسباب الأساسية التي دفعته لهذا التغيير تتجلى في رغبته بزيارة بلده زيارة استكشافية، وإجراء زيارات متكررة على هذا الأساس، وهو امتياز مفقود في “الكيملك”، مشيرًا في الوقت نفسه إلى حالة عدم يقين تدفعه للحرص على الاحتفاظ بموطئ قدم خارج سوريا تخوفًا من أي مفاجئات غير متوقعة.
ضياء تحدث أيضًا لـ”نون بوست” عن حالة من التعلق العاطفي تربطه بتركيا، كونه يقيم فيها منذ عام 2016، وهي ظاهرة إنسانية مدروسة في علم النفس الاجتماعي والجغرافيا الإنسانية، وتشير إلى الروابط العاطفية والرمزية التي يكونها الإنسان مع مكان الإقامة حتى لو لم يكن بلده الأصلي، إذ تتأثر هذه الحالة بالذكريات والتجارب والمحطات الصعبة ولحظات النمو والإحساس بالأمان والتعرف على ثقافة جديدة، بالإضافة إلى ازداوجية الانتماء والمقارنة اللاواعية مع الوطن، وهو ما يضع بعض العائدين أمام ما يسمى صدمة العودة (Reverse Culture Shock).
من “الكيملك” إلى الإقامة السياحية
أمام خشية البعض من إجراء المعاملات الحكومية تقدّم بعض المكاتب والأفراد خدمات من هذا النوع لضمان وصول سلس وميسر للغاية المنشودة، ومن بينهم نور الباشا، وهو شاب يعمل في إصدار وتجهيز ملف الحصول على الإقامة، حيث أوضح الشاب لـ”نون بوست” أن الشروط الأساسية لتجيهز الملف وضمان قبول الطلب بنسبة قصوى هي وجود ختم دخول رسمي إلى تركيا عبر معبر حدودي رسمي بعد عام 2016، أي بعد توجه تركيا لفرض تأشيرة الدخول على السوريين.
كما يشترط أن يملك صاحب طلب الحصول على الإقامة جواز سفر ساري المدة ومصدّق من القنصلية، مع وجود “كيملك” اسطنبول حصرًا، وفاتورة باسم الشخص (هاتف أو ماء أو كهرباء)، أو تعهد نعمة مقدم من الشخص المضيف لصاحب الطلب، بالإضافة إلى ورقة تبليغات يمكن إصدارها عبر “ptt”، أو منصة “اي دولات” الحكومية بكل سهولة.
ومن الضروري أن يملك صاحب الطلب قيد سكن وعنوانا ثابتا للإقامة، مع الإشارة إلى أن تقديم الطلبات الفردي والشخصي ممكن لكن من المستبعد القدرة على الحصول على موعد، وهنا يأتي دور المكاتب التي تضمن الحصول على موعد رسمي، كما تشمل الأوراق أيضًا بالإضافة إلى حجر الموعد، تأمينًا صحيًا وبدل فيزا، تبلغ كلفته حوالي ثماني آلاف ليرة تركية (200 دولار تقريبًا)، مع الإشارة إلى أن الأسعار غير موحدة بين المكاتب، وتتراوح بين نحو 150 دولار إلى نحو 250 دولارًا.
الشاب أكد أن الوصول للموافقة غير مضمون وقد يحصل رفض للطلب في حالات نادرة، لافتًا إلى إمكانية الحصول على الإقامة في غضون أسبوعين بعد استكمال كل الإجراءات القانونية، لتكون مدتها في الغالب عامين.
كما تحدث نور الباشا عن إقبال كبير على مسألة تحويل وثيقة الحماية المؤقتة إلى إقامة سياحية، من الأفراد والعائلات، وخاصة بعد توقف الامتيازات الطبية عبر وثيقة الحماية، مبررًا هذه الخطوة بالإبقاء على خط عودة وخيار آخر أمام السوريين العائدين إلى بلدهم، حتى لا يشعر الشخص أنه محاصر مجددًا وبحاجة تأشيرة للعودة إلى تركيا أو بلد آخر، ما يعني امتلاك حرية الاختيار.
ورغم التوجه لإلغاء الامتيازات الطبية، لا يرى سعد، في هذه الخطوة محفّزًا على عودته إلى مدينته، حلب، التي خرج منها لاجئًا قبل عشر سنوات، موضحًا أنه لا يلجأ عادة إلى المشافي الحكومية المجانية ولم يزرها سوى عدة مرات، حيث يفضَل علاج زوجته وأطفاله الثلاثة في مشفى خاص أو في مركز طبي سوري يتيح سهولة أكبر في التواصل وشرح الحالة الطبية بدقة.
وعند سؤاله حول الانتقال إلى الإقامة السياحية أجاب سعد بأنه لا ينوي إجراء تغيير قانوني في حالة لجوئه، كما لا يفكر بالعودة حاليًا إلى سوريا، إذ ينتظر مزيدًا من التحسينات هناك لتشجعه على اصطحاب العائلة للعيش في حلب.
إلغاء تدريجي لـ”الكيملك”
يرى المحامي، غزوان قرنفل، أن التوجه التركي لإلغاء الإعفاءات الطبية للاجئين يأتي ضمن سياق إعادة تنظيم وجود اللاجئين والمقيمين على الأراضي التركية والذي سيفضي لإنهاء حالة الحماية المؤقتة تدريجيًا عبر تدابير من هذا القبيل خصوصًا أن المبررات القانونية لتلك الحماية لم تعد قائمة برحيل نظام الأسد، كما أشار إلى أن هذه الخطوة تعكس انكماشًا في الدعم المالي الدولي لتركيا فيما يتعلق بملف اللاجئين.
يرى المحامي قرنفل أنه خلال عام تقريبًا قد تلغى حالة الحماية المؤقتة، منوهًا إلى أن السلطات التركية تشجّع على استبدال هذه الحماية بالإقامة السياحية التي يملك القليل من السوريين فقط رفاهية استخراجها لامتلاكهم ختم دخول رسمي، وهذا يعني اضطرار مئات آلاف اللاجئين إلى العودة لبلدهم، مشيرًا لاحتمالية إلغاء الإقامة السياحية وعدم تجديدها أصلًا لمن يستبدل “الكيملك”، ما لم يكن هناك مبرر قانوني يسوغ استمرار وجود السوري بتركيا، بالإضافة إلى التدقيق على فترات غياب حامل الإقامة السياحية عن تركيا، والتي يفترض ألا تتجاوز 90 يومًا خلال العام، كما اعتبر إصرار بعض السوريين على الاحتفاظ بوثيقة الحماية أملًا بالحصول على الجنسية يعني ملاحقة الوهم، كون هذا الملف لم يعد من اهتمامات الحكومة التركية.
ورغم حالة التضخم الاقتصادي وارتفاع الأسعار في تركيا، والتي تنعكس على مختلف نواحي الحياة، من إيجارات منازل وأسعار سلع ومواد استهلاكية، يواصل اللاجئون السوريون بملايين منهم، في تركيا ودول أخرى في الإقليم والعالم تحقيق إسهامات اقتصادية في البلدان التي يقيمون فيها، في خطوة تحمل في طياتها رسائل إيجابية تعبّر عن إمكانية انخراطهم في مشوار الإعمار والتنمية لبلادهم حين يعودون إليها.
