كانت زيارتي الأخيرة لمسقط ومطرح رحلة مختلفة تمامًا؛ لم تكن مجرد زيارة لبلد يحتفل بعيده الوطني، بل كانت عودة إلى جزء قديم من طفولتي ظلّ ساكنًا في أعماقي منذ عام 1978. يومها كان والدي – أطال الله عمره – يعمل في مدرسة سلطان بن أحمد في حي الزبادية، وكانت تلك السنوات الأولى التي تعرّفت فيها على روح عُمان، وهدوئها، وطيبة أهلها.
حين ذهبت إلى المدرسة نفسها قبل أيام، وتوقّفت أمام بوابتها القديمة، شعرتُ وكأن الزمن قد فتح لي بابًا صغيرًا إلى الماضي؛ رأيت الطفل الذي كنته، يمشي مع أبيه في شوارع مطرح القديمة، يسمع ضحكاته، ويشعر بأثر تلك الأيام في تكوين شخصيته لاحقًا.
كان أبي يرى الحياة بنور التجربة، ونور الغربة التي تصنع رجالًا وذكريات، ونور المحبة التي وجدها عند العُمانيين، فصارت تلك السنوات جزءًا من تاريخ أسرتنا وذاكرتنا. عندها أدركت أن العلاقة بين مصر وسلطنة عُمان ليست علاقة سياسية فقط، ولا هي علاقة مصالح عابرة… إنها علاقة إنسانية، نُسجت من دفء الناس، والبساطة، والاحترام، والذكريات المشتركة التي تظلّ حية حتى بعد مرور العقود.
ومن هذا العمق الإنساني تبدأ الحكاية… ثم تمتد لتكشف لنا عن أربع مشتركات كبرى بين البلدين:
أولًا: حضارتان عريقتان قبل الإسلام
امتلكت مصر وعُمان جذورًا حضارية ضاربة في عمق الزمن. فمصر الفرعونية إحدى أعظم حضارات العالم القديم، بينما عرفت عُمان حضارة مجان الممتدة عبر التجارة وصناعة النحاس والموانئ البحرية. هذا الامتداد الحضاري صنع للبلدين شخصية قوية، ووعيًا تاريخيًا، وقدرة على التواصل مع الأمم الأخرى بثقة واعتزاز.
ثانيًا: وصول الإسلام إلى البلدين على يد الصحابي عمرو بن العاص
من أعجب نقاط التشابه أن الرجل نفسه الذي حمل الإسلام إلى مصر هو ذاته الذي حمله إلى عُمان.
الصحابي الجليل عمرو بن العاص لم يفتح بلدين فقط، بل فتح بابًا روحيًا واحدًا أضاء مصر وعُمان معًا، وجعل لحظتهما الأولى مع الإسلام لحظة مشتركة في الأصل والمصدر والروح.
ثالثًا: إرث إمبراطوري وتجارب انفتاح وحضور دولي
عرفت مصر عصور القوة، والدولة الحديثة، وحضورًا واسعًا في إفريقيا وشرق المتوسط. كما عرفت عُمان ازدهارًا بحريًا واسعًا امتد حتى سواحل شرق إفريقيا والهند، خاصة في العهد اليعربي ثم البوسعيدي. هذا الإرث الإمبراطوري منح الشعبين وعيًا استراتيجيًا، وقدرة على التواصل الحضاري، وفهمًا عميقًا لقيمة القوة الناعمة والانفتاح.
رابعًا: التدين المتسامح وروح الاستيعاب الحضاري
يمتاز المجتمع المصري بتدين هادئ يمزج بين الروح الإسلامية وعمق الشخصية المصرية عبر العصور.
وكذلك عُمان التي عُرف شعبها تاريخيًا بالتدين الوسطي، وبالابتعاد عن التطرف، وبالتمسك بالسكينة والتسامح وحسن الجوار. هذا التشابه في الروح الدينية خلق تقاربًا طبيعيًا بين الشعبين، وجعل التعامل بينهما قائمًا دائمًا على الودّ والثقة.
مشترَك خامس… لا يُكتَب في الكتب
إن جميع المشتركات السابقة – الحضارة، والدين، والتاريخ، والتسامح – تبقى ناقصة دون إضافة البعد الإنساني؛ فالبشر هم الذين يصنعون القرب، ويحفظون الذاكرة، ويحوّلون المكان إلى بيت، والغربة إلى قصة لا تُنسى.
وقوفي أمام مدرسة سلطان بن أحمد جعلني أدرك أن علاقة مصر وعُمان ليست فقط علاقة دول… بل علاقة أسرٍ عاشت هنا، وذكريات تكوّنت هنا، وقلوب وجدت رحمة ومحبة في هذه الأرض الطيبة.
وهذا ما يجعل علاقة البلدين علاقة فريدة، دافئة، وإنسانية، قبل أن تكون سياسية أو حضارية.
