عاش السوريون لعقود داخل دائرة خوف محكمة، فرضتها مؤسسات الخوف بكل امتدادها، وعلى رأسها الأجهزة الأمنية، التي كانت تمثل قلب “مملكة الخوف”، كانت هذه الأجهزة تراقب كل تفاصيل الحياة اليومية، من الحديث البسيط في المنزل إلى النقاش بين الزملاء في العمل، وتتحكم بما يُقال وما يُمنع، وكان الخوف يلاحق السوريين في كل مكان، حتى في حتى في المساحات الخاصة.
مع سقوط النظام وهروب بشار الأسد، انهارت هذه الشبكة الأمنية بالكامل، وتفككت كل أفرع المخابرات وأجهزة التحقيقات، وكسرت القيود التي كانت تمنع السوريين من الكلام، نتيجة ذلك بدأ السوريون لأول مرة منذ عقود يشعرون بحرية نسبية في قدرتهم على التعبير عن آرائهم، سواء في الشارع أو الأسواق أو الجامعات أو وسائل النقل العام، ومع هذا الانفتاح المتسارع أخذ الخوف يتراجع من الذاكرة العامة، مفسحًا المجال لعودة الصوت السوري إلى العلن.
عاد الفضاء العام خلال العام الأول إلى السوريين بعد غياب طويل، واتسعت دائرة النقاشات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي لم يكن بالإمكان تداولها سابقًا، مشيرًا إلى تحوّل اجتماعي عميق وعودة الخطاب العام إلى الواجهة بعد سنوات طويلة من الصمت القسري.
أصوات الشارع
يلمس الناس التغيير في الشارع قبل أي محلل سياسي، يقول أبو أحمد، والذي يعمل سائق حافلة منذ خمسة عشر عامًا، وهو يبتسم بثقة “والله يا بنتي، لم أرَ مثل هذا من قبل، صارت أحاديث الركاب عن الرئيس والحكومة والقرارات، أمراً طبيعيًا، كأن الناس استيقظت فجأة من كابوس طويل”.
توافقه أم يامن ربة المنزل وتصف ما تسمعه يوميًا في السوق:”الكل يتكلم بصوت عالٍ… يعترضون، يناقشون، كنّا كمن يعيش داخل صندوق مغلق لا يحق له التنفس، اليوم اختلف الوضع تمامًا”.
أما رهف، الموظفة في كلية الاقتصاد، فتروي مشاهد من حياتها اليومية، قائلة: “أركب سيارة الأجرة فيبدأ السائق فورًا بالحديث عن أخطاء الشرطة وضرورة تنظيم السير”، ثم يختتم حديثه: “الحمد لله… الفوضى وإعادة ترتيب البلد أهون بمئة مرة من الزمن القديم، الحمد لله على الخلاص”.
وتضيف رهف أن الأجواء داخل الجامعة تغيرت أيضًا: “حتى مع زملائي في المكتب وبين الطلاب، أصبح النقاش حول السياسات الاقتصادية وقرارات الحكومة أمرًا طبيعيًا، نطرح آراءنا بحرية ونتبادل النقد حول الأداء الإداري، دون شعور بالخوف الذي كان يسيطر علينا سابقًا”.
ترسم هذه الأصوات اليومية، القادمة من الباصات والأسواق وسيارات الأجرة، صورة واضحة لتحوّل اجتماعي كبير: انهيار الرقابة، وعودة السوريين إلى امتلاك صوتهم في فضاء كان مغلقًا لعقود.
المقاهي ساحات جدل حر
لم تعد المقاهي مجرد أماكن لتناول القهوة أو الشيشة فقط، بل تحولت إلى فضاءات عامة للنقاش والحوار في أحد المقاهي تتبادل رغد وليلى، الطالبتان في كلية الآداب، الحديث بصوت مرتفع عن خدمات المدينة والقرارات الأخيرة، فيما ينشغل باقي الزبائن بمناقشتهم الخاصة أو بالاستماع إلى ما يُحكى على الطاولات المجاورة.
تقول رغد: “أصبحت الجرأة في الكلام طبيعية، لم نعد نخاف أن نعبر عن رأينا حتى لو اختلفنا مع الآخرين”، وتضيف ليلى: “نعلق على الأخطاء التي نراها، ونناقش مستقبل المدينة والدولة، لقد كان شعارنا أن الحيطان لها آذان، ويبدو أن الحيطان الآن توقفت عن السمع”.
في زاوية أخرى، يحتدم النقاش بين الصحفية يارا التي عادت حديثًا من الخارج والأستاذ خالد حول أولوية إصلاح التعليم والخدمات العامة، بينما يشاركهما الأصدقاء بآرائهم حول مختلف القضايا اليومية والسياسية. وتشير يارا، التي ترى في الصحافة واجبًا رقابيًا على أداء الحكومة، إلى أن ما يجري اليوم يشكّل تحولًا لافتًا: “أنا سعيدة لأنني أرى حتى المعارضين للحكومة الجديدة يتحدثون بأريحية حول كل ما يعترضون عليه، لقد دفعنا ثمن هذه الحرية أرواح مئات الشهداء والمعتقلين”.
يقول غزوان، العامل في أحد المقاهي الشبابية: “حتى الأحاديث اليومية اختلفت. صحيح أن اهتمامات الناس غالبًا تتركز على مواضيع المعيشة والغلاء، لكن لا يكاد يخلو حديث من مزاح أو اعتراض أو مديح حول الأوضاع السياسية في البلاد”، ورغم أن هذه الحوارات بدأت في المقاهي التي يرتادها المثقفون والعائدون من الخارج، فإن أثرها امتد تدريجيًا ليشمل شرائح أوسع من الناس.
من الخوف إلى الممارسة: كيف تهيأت الأرض للانفتاح؟
رغم أنّ أصوات الشارع تكشف حجم التغيّر إلا أنّ جذور هذا التحوّل تمتد إلى ما قبل سقوط النظام بوقت ليس بالقصير، في حديثه لـ”نون بوست”، يوضح الأستاذ عقيل حسين الإعلامي ومسؤول العلاقات العامة في إدارة الأمن العام في حلب، “إن اتساع مساحة التعبير ليس وليد لحظة انهيار النظام فقط، بل تشكّل نتيجه تجربة عميقة خلال سنوات سابقة في المناطق المحررة، حيث خاضت القوى المدنية حراكًا واسعًا للدفاع عن حرية الرأي، ونظّمت مظاهرات واعتصامات ضد أي محاولة للتضييق. ويشير إلى أن هذه التجارب أسست لخبرة مجتمعية مبكرة في ممارسة الحرية، ظهرت بوضوح في الحراك المدني في إدلب عام 2022 وامتدت خلال 2023، وكذلك في الاحتجاجات التي شهدها الشمال مرارًا ضد أي تجاوز على الحريات”.
ويضيف الأستاذ عقيل:”على الصعيد السياسي لم يعد هناك شيء محرّم أو خارج نطاق النقاش”، موضحًا أن السوريين باتوا يتحدثون في كل ما يتعلق بالبلد من السياسة والإدارة والاقتصاد والخدمات، بل وحتى القضايا الحساسة التي كانت تُعد من المحظورات المطلقة، مستشهدا بالأحداث الأخيرة في الساحل والسويداء، حيث جرى تداول النقد والنقاش والاعتراض بشفافية وعلنية، وبمستوى من الشدّ والجذب لم يكن ممكنًا تخيّله قبل سنوات قليلة، وهو ما يعكس أن الفضاء العام لم ينفتح فقط، بل أصبح يستوعب سجالات سياسية حقيقية من دون الخطوط الحمراء التي كانت تقيّده لعقود.
وعند سؤاله عن دور انهيار “مؤسسات الخوف” في فتح المجال للنقاش السياسي، أجاب أن:”غياب الأجهزة الأمنية من الأسباب الثانوية وليس السبب الجوهري، لأن الخوف الذي زرعه النظام عبر ستة عقود لا يختفي بمجرد سقوطه، مؤكدا أن العامل الأبرز هو تراكم خبرات السوريين الذين عاشوا في الخارج وتعرّفوا إلى مساحات أوسع من حرية التعبير، إضافة إلى التجارب التي راكمتها المناطق المحررة في السنوات السابقة”، ويختم عقيل حديثه مؤكدا: “نعم، هناك حالة من الحرية موجودة في سوريا اليوم”.
الإنترنت يفتح الباب… والكراهية تعبر معه
تُظهر وسائل التواصل الاجتماعي تحوّلًا واسعًا في حرية التعبير، فالمقاطع والمنشورات المتداولة اليوم تحمل نقدًا صريحًا لأداء الحكومة والسلطات المحلية دون خوف من تبعات أمنية أو ملاحقات، الأمر الذي عزّز شعورًا عامًا باسترداد أحد الحقوق الأساسية.
في المقابل، أفرز هذا الانفتاح غير المسبوق موجة موازية من تصاعد خطاب الكراهية بين السوريين، فقد أصبح الحديث عن الطائفة والدين والتحشيد لهما أكثر وضوحًا، بالتزامن مع انتشار ألفاظ جارحة تتجاوز حدود الاختلاف المقبول.
الرئيس أحمد الشرع في الذكرى السنوية الأولى للتحرير:
📌 تغيرت حكايات الناس عن سوريا وأهلها من الإشفاق إلى الإعجاب والاعتزاز وكل ذلك في عام واحد ولله الحمد
📌 النظام البائد أسس لكيان يقوم على اللاقانون ونشر الفساد وأمعن في إفقار الشعب وتجهيله وحرمانه من حقوقه
📌 نهاية معركتنا مع… pic.twitter.com/2DJEIAiJxk
— نون سوريا (@NoonPostSY) December 8, 2025
وتعود هذه الظاهرة إلى مجموعة من العوامل، تأتي في مقدمتها تعثّر مسار العدالة الانتقالية بالنسبة لمئات الآلاف ممن ما تزال جراحهم مفتوحة، ما جعل منصّات التواصل متنفسًا للغضب بدل انتظار حلول قانونية ومؤسسية، كما تعيش بعض المكوّنات السورية هواجس انتقام محتمل أو انتهاكات بحقها، الأمر الذي يفاقم الاحتقان الاجتماعي.
ويتنامى خطاب الكراهية ضمن بيئة إعلامية مفتوحة بلا ضوابط، حيث تنتشر عبر وسائل التواصل صور وتعليقات تحريضية تدعو للانتقام، تؤدي هذه الممارسات إلى تصعيد العنف وعرقلة جهود المصالحة، خصوصًا مع شعور شريحة من السوريين بأن السلطة الانتقالية تُفرط في التسامح وتترك بعض الجناة الكبار خارج دائرة المساءلة، الأمر الذي يرسّخ نزعات الثأر بدل بناء منظومة عدالة راسخة.
إلى جانب ذلك، كشفت تقارير صحفية أن التدخلات الخارجية لعبت دورًا بارزًا في مفاقمة المشهد، إذ نشطت بعد سقوط النظام حملات تضليل إعلامي واسعة استهدفت سوريا على منصات التواصل، عبر شبكات مرتبطة بإيران وحلفائها، إضافة إلى شبكات إسرائيلية، بالتوازي مع بيانات استفزازية أطلقتها شخصيات ادّعت تمثيل فئات من المجتمع، وطرحت مطالب مثيرة للجدل مثل الحماية الدولية أو الفدرالية أو حتى طلب الدعم “الإسرائيلي”.
إعادة تعريف “الخط الأحمر”: ما الذي أصبح مباحًا؟ وما الذي بقي محرّمًا؟
في سؤال “نون بوست” للباحث ومنسّق منصة “الذاكرة السورية”، أحمد أبازيد، حول إعادة تعريف “الخط الأحمر” بعد سقوط النظام، أجاب بأنّه لفهم اتساع حرية التعبير لا بدّ من التمييز بين مجتمعين في سوريا: مجتمع الثورة الذي كسر القيود منذ 2011 وتحرّر من الخوف مبكرًا، ومجتمع عاش في مناطق النظام سابقًا ووجد نفسه بعد سقوطه أمام سلطة جديدة أتاحت سقفًا من التعبير لم يكن موجودًا من قبل. يقول: “شهدنا عشرات الوقفات الاحتجاجية لأسباب خدمية أو سياسية نفّذتها فئات لم تكن مشاركة في الثورة أو كانت مؤيدة للنظام السابق، دون أن تتعرض للقمع، وهذا أمر مهم في تكريس هذه المساحة من الحرية”.
كما أكّد أن غياب القمع لا يعني بالضرورة وجود نقاش صحي، موضحًا: “هناك حالة من الاستقطاب الاجتماعي والسياسي تجعل الفضاء العام فضاءً متوحشًا وعنيفًا، قائمًا على الهجوم المستمر بين أطراف مختلفة، وقد يترجم ذلك إلى حالات من الانتقام والدموية على الأرض في ظل غياب المحاسبة على خطابات الكراهية وتأجيجها والتحريض”.
أمّا عن دور الدولة في الفضاء السياسي الجديد، فيقول: “أداء الدولة السياسية في موضوع حرية التعبير منسجم مع كونها دولة نشأت نتيجة الثورة، لكن هذا لا يجعل الفضاء العام في سوريا مكانًا صحيًا حتى الآن للنقاشات، بسبب الاستقطابات الفكرية والاجتماعية والطائفية. وما زلنا بحاجة إلى مساحات للنقاش السياسي”.
مضيفًا حول الرقابة غير المباشرة: “الدولة تمارس رقابة سلبية على النشاط السياسي من خلال اشتراط مرور الأنشطة على الأرض عبر الأمانة العامة للشؤون السياسية، رغم إمكانية إجراء نقاشات سياسية على وسائل التواصل أو في الإعلام. هذا التنظيم لا يقيّد النشاط السياسي فعليًا، لكنه يقيّده في المواقع الفيزيائية، وبرأيي يجب أن تكون هناك أنشطة سياسية مستقلة لا تمرّ عبر الدولة”. مضيفًا: “ورغم هذا، لم تُسجَّل حتى الآن أي حالات قمع رسمي للمظاهرات أو اعتقالات على خلفية الرأي، وهو أمر إيجابي ينبغي تسجيله وتكريسه في سوريا الجديدة”.
تُظهر تجربة العام الأول بعد سقوط النظام أن السوريين استعادوا فضاءهم العام وحقّهم في الكلام، لكن هذا الانفتاح ما يزال هشًّا ومحاطًا بتحديات الاستقطاب وغياب العدالة. ويبقى ترسيخ حرية التعبير مرهونًا ببناء مؤسسات تضمن الحوار الآمن وتمنع انزلاق الفضاء العام نحو الفوضى أو الانتقام.