بعد عام من تبييض السجون، بكل ما حمله ذاك الحدث من مشاعر متباينة بين فرح بخروج من كتب لهم النجاة، وغصة لا تهدأ تجاه مئات الآلاف من المفقودين، ما يزال حال ملف المعتقلين والاختفاء القسري في سوريا على حاله، فعائلاتهم ما زالت تنتظر بداية لمسار العدالة، وتجد نفسها أمام فراغ أكبر، وحقيقة أشد تشظياً، في ظل مؤسسات غائبة أو عاجزة عن القيام بدورها، ووسط سباق صحفي محموم ينشر وثائق مستولى عليها من أرشيفات أخذت من الشعب دون مراعاة لحقوق الضحايا وخصوصيتهم.
وهنا، تستعيد الذاكرة صوت أمٍ لمعتقل ارجنتيني قالت بعد سقوط الديكتاتور “أخذوا روحي، أعيدوها لي ” حين ناقشوها في التعويض والقصاص من الجناة. هذه العبارة تلخص جوهر العدالة كما يراها أمارتيا سِن، فهي تقليلٌ للظلم، واستعادة لما يمكن استعادته من المعنى. فالعدالة ليست نموذجاً مكتملاً ومثالياً، بل عملية تدريجية تهدف إلى إصلاح ما يمكن إصلاحه في حياة الناس. وفي سياق ما بعد النزاعات والأنظمة القمعية، تبدأ العدالة بإظهار الحقيقة، يليها الاعتراف بالمأساة، ثم ابتكار الآليات الأنسب للتعامل مع الإرث الثقيل من القمع والانتهاكات.
في هذا المقال، أعالج العدالة من زاوية السجون ووثائقها خلال عام من دون الأسد. وأراجع مستوى الاستجابة الرسمية والمؤسساتية المعنية بالملف. تستند المقاربة إلى فرضية مفادها أن العدالة لا تقاس بالتحولات السياسية، بل بقدرة المؤسسات على إنتاج الحقيقة. والادعاء المركزي هنا أن العدالة لا تبدأ بإعلان المسار القضائي، بل من نقطة أكثر بساطة وعمقاً، وهي الكشف عن حقيقة ما جرى، ووضع قواعد واضحة لكيفية التعامل مع إرث القمع.
ولأن العام الماضي لا يمكن النظر إليه بوصفه وحدةً زمنية متجانسة، فلا بد من تقسيمه إلى مرحلتين واضحتين: مرحلة ما بعد هروب الأسد وحتى إعلان مرسوم تشكيل هيئة العدالة الانتقالية، ومرحلة ما بعد الإعلان وصولًا إلى ذكرى التحرير. وهو تفكيكٌ ضروري لفهم مسار التعثّر ورصد الاستجابة المؤسساتية.

المرحلة الأولى: غياب المؤسسات وضياع جزء من الحقيقة
امتدت هذه المرحلة من تاريخ تبييض السجون في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، حتى 17 أيار/ مايو 2025 تاريخ صدور مرسوم تشكيل هيئة العدالة الانتقالية. في هذه المرحلة جرى التعامل مع السجون ووثائقها دون أي إطار مؤسساتي، في ظل انهيار للأجهزة الأمنية السابقة وصعود منظومة جديدة.
حيث فُتِحت السجون أمام الأهالي الباحثين عن أبنائهم، وللصحفيين والباحثين عن سبقٍ إعلامي، من دون ضبط أو حماية، ما أدى إلى إتلاف جزء كبير من الوثائق الأمنية التي تعود ملكيتها للدولة نيابةً عن المجتمع، وإلى استحواذ أطراف مختلفة على أجزاء أخرى منها في غياب أي إطارٍ للمساءلة. بعضهم تعمد إتلاف الأدلة، بينما استغلها آخرون إعلاميًا وسياسيًا. وذلك دون مراعاة أن الاستحواذ عليها يفقدها خاصيتها القانونية في ملاحقة المجرمين، ويكسر سلسلة الحيازة التي تمنحها قوتها القانونية، ويحرم فئة من الضحايا حقهم ضمن أي عملية قضائية ممكنة.
وبالتوازي مع ذلك، جرى العبث بمسارح الجريمة نفسها، مما أزال أدلة جنائية كانت ستساعد في التعرف على الضحية والجناة. فالسجون ووثائقها تمثل النافذة الوحيدة التي تربط الحاضر بزمان ومكان الانتهاك، وتصل مباشرةً باللحظة التي جمعت بين الضحية والجلاد. وأي عبث بها أو بسجلاتها هو، في جوهره، عبث بقدرة المجتمع على إعادة بناء الحقيقة لاحقًا، وتعقيد لبنية العدالة نفسها.
وقد ظهر ذلك بوضوح في تجربة البوسنة والهرسك بعد اتفاق دايتون، حيث أدى غياب حماية الوثائق إلى ضياع سجلات وحدات عسكرية كاملة كانت تُستخدم كمراكز للاحتجاز والاغتصاب والتعذيب. هذا الفراغ التوثيقي، كما تشير إليه أدبيات العدالة الانتقالية، جعل الحقيقة القضائية أقل قدرة على فرض نفسها أمام انتشار روايات متضاربة حول ما جرى بين الأطراف خلال الحرب، وأضعف القدرة على إسناد المسؤولية الجنائية الفردية في الإبادة الجماعية وغيرها من الانتهاكات الممنهجة التي حدثت ولم تُثبَت.
View this post on Instagram
المرحلة الثانية: جمود المؤسسات وغياب بوصلة الحقيقة
في 17 أيار/ مايو 2025 أنشئت الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، بتفويض واضح لكشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسمية التي ارتكبها نظام الأسد، وبناء الأسس الضرورية للمحاسبة والمساءلة. بهذا التفويض تتجاوز الحقيقة كونها هدفاً معرفياً لتصبح الشرط الأول للعدالة، إذ لا يمكن وضع خارطة طريق للمحاسبة ولا لتحديد مسؤولية الجناة ودرجاتها، ما لم تستعاد الحقيقة من مصادرها الأصلية، وهي: الأرشيفات الحقوقية والأمنية، ومواقع الاحتجاز، والسجلات الرسمية، إلى جانب سرديات الأطراف المتعددة من ضحايا وفاعلين.
وبالتقاطع مع تجارب العدالة الانتقالية في سياقات ما بعد عنف السلطة، يُفترض بالهيئة أن تطلق آليات لتحمي مصادر الحقيقة، ثم تكشف عنها، وأن تعتمدها للدفع بمسارات المحاسبة والذاكرة والاعتراف. وهو ما يتقاطع مع ما ورد في مرسوم تشكيلها، ويضع على عاتقها التعامل مع نتاج أشهر الفوضى السابقة لاستلامها مهامها.
أحيانًا تظهر الدول الخارجة من سياق قمعي تعثّرًا في عمل مؤسسات العدالة الانتقالية نتيجة ما يُسمى بـ”أزمة تعريف المهام” (Task Definition Crisis)، حين تُمنح اللجان تفويضًا من دون خارطة طريق تحدد من أين يبدأ العمل وكيف تُجمع الأدلة
لكن الأشهر الستة الماضية من عمل هيئة العدالة الانتقالية كشفت أن الهيئة وُلدت دون إدراكٍ لما تمتلكه من أدوات تساعدها على الوصول إلى الحقيقة، ودون المعرفة المؤسساتية اللازمة لصياغة آليات التعامل مع إرث القمع المرتبط بكشف الحقيقة. فلم تقم بالتعاون مع الوزارات المختصّة لاستعادة الأرشيفات الأمنية التي فُقد جزء كبير منها خلال فوضى التحرير، ولم تُعلن عن خطة لربط الوثائق التي ما تزال ضمن أملاك الدولة بملفات الاعتقال السابقة، إلى جانب عدم إصدارها سياسات واضحة تحمي السجون ومراكز الاحتجاز بالتعاون مع الوزارة المختصة، بوصفها مسارح جريمة تحمل أدلة لا يمكن تعويضها.
ومن الأمثلة على ذلك إبقاء سجن صيدنايا مفتوحًا أمام المؤثرين والإعلاميين، وتحويل وزارة الداخلية فرع الأمن العسكري في حلب إلى مركزٍ لاستقبال الشكاوى المدنية من دون معاملته كموقع جريمة.
أحيانًا تظهر الدول الخارجة من سياق قمعي تعثّرًا في عمل مؤسسات العدالة الانتقالية نتيجة ما يُسمى بـ”أزمة تعريف المهام” (Task Definition Crisis)، حين تُمنح اللجان تفويضًا من دون خارطة طريق تحدد من أين يبدأ العمل، وكيف تُجمع الأدلة، أو بسبب عدم امتلاكها صلاحيات واضحة. في مثل هذه الظروف، تتحول اللجان والهيئات إلى منصات لقاءات وتصريحات أكثر منها آليات لإنتاج الحقيقة.
دروس لتجاوز تعثر مهام لجان الحقيقة
تتقاطع تجربة سوريا اليوم مع تجارب بلدان مثل غواتيمالا وهايتي بخروجها من إرث قمعي طويل خلف فراغا معرفيا وأمنيا عند لحظة الانتقال. هناك، كما هنا، جرى تدمير السجون بما فيها من وثائق، ثم شُكّلت لجان الحقيقة أو “هيئات العدالة” بتفويض ومهام ضخمة تهدف إلى تغطية طيف واسع من الانتهاكات، لكن من دون منهج عمل واضح أو آليات وإمكانيات تنفيذية تتناسب مع حجم التكليف. فنشأت أزمة في تعريف المهام، عندما لم تعرف اللجان من أين تبدأ، ولا أي الملفات يجب أن تحتل الأولوية.
في غواتيمالا، واجهت “لجنة التوضيح التاريخي” هذا التعثر مبكرًا، إذ كان عليها التعامل مع إرث عنف استمر 36 عامًا، متضمنا مجازر جماعية، وإخفاءً قسريا، وإبادة بحق السكان الأصليين، وعمليات قتل خارج القانون. ومع حجم الانتهاكات الكبير، واجهت اللجنة صعوبة في تحديد أولوياتها بين التوثيق، أو بناء سرد تاريخي للنزاع، أو تحديد المسؤولية المؤسسية. ولتجاوز هذا الارتباك، لجأت إلى حصر التفويض، فركزت على الانتهاكات الجسيمة ذات النمط الممنهج، واعتمدت منهجية تحليل بيانات العنف بدلًا من تتبع الحالات الفردية، وغطت فترة زمنية واضحة ومحددة. كما وضعت منهجية معلنة للعمل، الأمر الذي شكل نقطة تحول في قدرتها على الإنتاج المعرفي.
أما في هايتي، فقد تلقت لجنة الحقيقة تفويضا واسعا للتعامل مع العنف الذي تلا انقلاب 1991–1994، والذي شمل التعذيب والقتل خارج القانون والإخفاء القسري، إلى جانب الجرائم التي ارتكبتها المليشيات والأجهزة العسكرية. غير أن اللجنة لم تمتلك آليات عمل أو موارد تعينها على بدء التحقيق، ولم يُحدد لها بوضوح نطاق عملها. ولتجاوز هذا المأزق، قامت بحصر التفويض في فترة الانقلاب فقط، وركزت على الجرائم الجسيمة القابلة للتوثيق، وأغفلت الجرائم الاقتصادية والاجتماعية لعدم امتلاكها أدوات مناسبة لمعالجتها، كما طلبت دعما تقنيا من الأمم المتحدة لتعويض غياب الخبرات الوطنية.
تكشف هذه الدروس أن مواجهة إرث القمع لا تنجح باتساع التفويض والاستقلالية فقط، بل بدقة المنهجية المتبعة، ووضوح الأولويات، وتوفر الأدوات البشرية والمادية المناسبة.
الخاتمة، العدالة المؤجلة في سوريا
رغم التعثرات التي رافقت العام الأول، يبقى أن هيئة العدالة الانتقالية تحمل اليوم واحدا من أكبر وأهم الملفات التي سترسم ملامح سوريا المقبلة. فهو عمل لا يمكن اختصاره في سنوات قصيرة، بل سيمتد لعقود تتناسب مع إرث القمع. فخمسة عقود من حكم الأسدين خلّفت منظومة قمع وأرشيفا مُشظّى، وذاكرةً مثقلة لثلاثة أجيال، تجعل مسار العدالة مشروعًا ممتدا ومتعدد الأفرع والمجالات، يحتاج إلى تكوين مؤسسات متعددة للتعامل مع إرثه، والأهم أنه لا يحتمل الإخفاق أو الجمود أو انتظار اتضاح المشهد من تلقاء نفسه.
تقدم تجارب رواندا وألمانيا والبوسنة، التي تسعى الهيئات السورية (للعدالة والمفقودين) للتعرف عليها، نماذج ملهِمة تساعد على فهم ما يمكن للعدالة الانتقالية أن تكونه، لكنها تذكرنا في الوقت نفسه بأن العدالة في زمن الانتقال لها أبعاد سياسية وسياقية، تتبع خصوصية التجربة الوطنية، وتنبع من طبيعة الانتهاكات التي شهدها المجتمع وكيف ساهمت فيها الدولة. ففي الحالة السورية يبدأ مسارها بالنظر إلى الداخل، عبر ضبط الأرشيف القمعي، وحماية مسارح الجريمة باعتبارها النقطة صفر؛ نقطة التحضير لبدء العمل، والتي لم تُنجَز بعد. وإنجازها يفتح المجال للبدء بمسار كشف الحقيقة ويمهّد للمساءلة القضائية التي لن تنجح دونها؛ النقطة الصفرية التي لو لم يتم تأمينها فلن يكون بمقدور السوريين تحديد الخلل المؤسساتي الذي أنجب كل هذا الخراب.
من هذا المنظور، لا تُقاس كفاءة الهيئة المستقلة المعنية بالعدالة الانتقالية بقدرتها على تصوّر حلٍّ نهائي، بل بقدرتها على كسر دائرة الصمت وفتح الطريق نحو الحقيقة، وعلى استعادة الوقائع المغيّبة وإعادتها إلى المجال العام، ولا سيما في قضايا القتل تحت التعذيب والاختفاء القسري. فالعدالة بعد القمع والحروب لا تبدأ من المحكمة، بل من القدرة على تسمية الغياب، وعلى إعادة الفقدان إلى رواية موثقة بدل تركه رهينة الشك. عند هذه النقطة تحديدا تتحدد قدرة السوريين على بناء مستقبل مختلف، تُستعاد فيه رواية الضحايا، لتبدأ العدالة بالتنفّس للمرة الأولى.