كشف مركز الشهاب لحقوق الإنسان عن وفاة المعتقل السياسي إبراهيم أحمد عبد الرحمن، ( 60 عامًا) المعروف بـ“أبو تسبيح”، داخل سجن جمصة بعد رحلة معاناة طويلة مع المرض والإهمال الطبي، وكان قد اعتُقل منذ عام 2014، وبدأ وضعه الصحي في الانهيار بعد إصابته بانسداد خطير في المرارة تبيّن لاحقًا أنه ورم سرطاني، ورغم تدهور حالته الواضحة واحتياجه للعلاج العاجل، لم يحصل على الرعاية اللازمة في الوقت المناسب، ولم يُنقل إلى مستشفى المنصورة إلا وهو في أيامه الأخيرة، ليغادر الحياة بصمت خلف أسوار السجن.
لا يقف الأمر عند حالة إبراهيم وحده؛ فبحسب تقرير حديث للمركز يغطي شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2025، توفي ثلاثة محتجزين آخرين داخل السجون نتيجة الإهمال الطبي ذاته، هذه الأرقام تنقل صورة قاتمة عن واقع الاحتجاز في مصر، حيث يتحول المرض إلى حكم بالإعدام البطيء داخل زنازين محرومة من أدنى مقومات الرعاية الصحية، بينما تبقى مطالب الأسر والحقوقيين دون استجابة حقيقية.
وفي سياق متصل، أصدرت حملة “لا تسقط بالتقادم” التابعة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية ( مستقل) تقريرًا بعنوان: “الإفراج الصحي: الحق المهدور!”، وثّقت فيه وضع الرعاية الصحية في السجون ما بين سبتمبر/أيلول 2024 ونفس الشهر من عام 2025، مشيرة إلى أن الإهمال الطبي لم يعد مجرد خلل إداري، بل بات “أداة عقاب” تحصد أرواح معارضين سياسيين تحت غطاء القضاء والقدر، وهكذا، يتواصل النزيف الإنساني رغم الوعود الرسمية والتصريحات المتفائلة، فيما يظل المعتقلون يواجهون المرض بمفردهم… خلف الأبواب المغلقة.
20 حالة وفاة نتيجة الإهمال الطبي خلال عام
رصدت حملة “لا تسقط بالتقادم” وفاة 20 محتجزًا خلال عام واحد فقط، نتيجة الإهمال الطبي في السجون وأماكن الاحتجاز المصرية، ما بين سبتمبر 2024 وسبتمبر 2025. هذه الوفيات توزعت على عدة أماكن احتجاز، أبرزها سجن بدر 1 ( 3 حالات) )، سجن العاشر من رمضان ( 4 حالات)، قسم ثاني العاشر من رمضان ( حالتان)، قسم أول الزقازيق ( حالة) سجن برج العرب (حالة)، سجن المستقبل بالإسماعيلية ( حالة)، خلف كل رقم اسم وحياة أُغلقت أبوابها دون فرصة للعلاج أو النجاة.
الشهادات التي وثّقتها الحملة تكشف عن قصص مؤلمة لمرضى تُركوا يصارعون آلامهم بلا دواء، وعن تأخيرات قاتلة في نقلهم إلى المستشفيات، بل وصل الأمر في بعض الحالات إلى استخدام الحرمان من العلاج كوسيلة عقاب، لافتة إلى أن الأزمة لا تعود إلى نقص في الموارد، بل إلى غياب الرقابة والشفافية، وهيمنة الأجهزة الأمنية على القرار الطبي داخل السجون، ما يفقد الأطباء استقلالهم ويحوّل العلاج إلى امتياز قابل للحجب.
وفي السياق ذاته، أصدرت منظمة “صحفيات بلا قيود” في يونيو/حزيران الماضي تقريرًا بعنوان “سجون بلا مفاتيح: كيف تقتل الزنزانة العمر والأمل في مصر”، يكشف عن واقع قاسٍ يعيشه آلاف المعتقلين السياسيين منذ 2013. وبحسب التقرير، فقد توفي ما لا يقل عن 1160 محتجزًا خلال السنوات العشر الماضية، 74% منهم نتيجة إهمال طبي متعمد، بينما لا يزال أكثر من 60 ألف شخص خلف القضبان، بينهم صحفيون ومدافعون عن حقوق الإنسان ونساء وأطفال، كثيرون منهم بلا محاكمة عادلة.
خرق فاضح للقانون والمواثيق
تتشارك كافة التقارير في أن ما يُمارس داخل السجون المصرية من انتهاكات في صورة إهمال طبي، سواء كان متعمدًا أو جهلا، جريمة ضد الإنسانية، وخرق فاضح للدستور والقانون والمواثيق الحقوقية الدولية التي وقعت عليها الدولة المصرية،
فالدستور المصري — في مادته 55 — يؤكد على أن “كل من يُقبض عليه أو يُحبس أو تُقيد حريته يجب معاملته بما يحفظ كرامته، ولا يجوز تعذيبه أو ترهيبه أو إكراهه أو إيذاؤه بدنيًا أو معنويًا. كما لا يجوز حجزه أو حبسه إلا في أماكن مخصصة لذلك، لائقة إنسانيًا وصحيًا، مع التزام الدولة بتوفير وسائل الإتاحة للأشخاص ذوي الإعاقة، ومخالفة ذلك تعد جريمة يعاقب مرتكبها”
أما الالتزامات الدولية، مثل المادة 10 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وقواعد قواعد نيلسون مانديلا — المعتمدة دوليًا — فتضعان معيارًا واضحًا، محاسبة كل من يحرم السجناء من حقهم الطبي، وعليه، فإن ما يجري داخل المعتقلات المصرية لا يرقى إلا إلى انتهاك صارخ لكل معايير العدالة والإنسانية.
استغاثات بلا آذان
يواصل سجناء الرأي في مصر، ومعهم عائلاتهم، إطلاق نداءات استغاثة لا تنتهي، يحذّرون فيها من الإهمال الطبي المتعمد الذي يهدد حياتهم خلف القضبان، أصوات مكلومة تصطدم بجدار من الصمت، بينما تواصل السلطة الأمنية تجاهل تلك المناشدات، تاركة المرض يتكفّل بإسكات أصحابها واحدًا تلو الآخر.
من بين هذه الحالات المؤلمة، المرشح الرئاسي السابق، الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، الذي يواجه وضعًا صحيًا حرجًا داخل محبسه بسجن المزرعة بطرة، أربع ذبحات صدرية متتالية خلال أقل من 3 أشهر لم تكن كافية لنقله إلى المستشفى أو وضعه تحت رعاية طبية متخصصة، رغم معاناته من أمراض مزمنة وتقدمه في العمر. ويُحتجز أبو الفتوح انفراديًا في ظروف توصف بأنها شكل من أشكال التعذيب غير المباشر، حيث يصبح كل يوم جديد معركة للبقاء.
وتتكرر المأساة مع مروة أشرف عرفة، المترجمة الشابة المحبوسة احتياطيًا منذ أكثر من خمس سنوات، والتي مثلت أمام المحكمة في أكتوبر 2025 وهي تعاني من صعوبة في التنفس ومضاعفات جلطة رئوية دون أي متابعة طبية تذكر.
وكذلك مع الحقوقية هدى عبد المنعم التي تجاوزت أزمتها الصحية حدود الخطر؛ جلطة في القدم، توقف في إحدى الكليتين، أزمة قلبية، وتشخيص حديث بالسكري، ورغم ذلك ما زالت خلف القضبان بعد انتهاء مدة عقوبتها الأولى، ورغم الاستغاثات فلا أذن تسمع ولا صوت يعلو فوق صوت الصمت وغض الطرف والضمير معًا.
إصرار على الانتهاكات.. الأرقام تتحدث عن نفسها
تفند الأرقام التي وثقتها التقارير الحقوقية وبشكل واقعي مزاعم السلطة المصرية، بعيدًا عن الشعارات الرنانة والمبادرات والوعود الرئاسية بشأن تحسين أوضاع السجون وتخفيف القبضة الأمنية، ففي الوقت الذي تصرح فيه المنصات الرسمية بتحسين ظروف الاحتجاز، تشير الأرقام الموثقة إلى استمرار سياسات القمع والإهمال المتعمد، لتروي قصة مغايرة تمامًا عما تحاول السلطة تقديمه للعامة.
وفقًا للتقارير الأخيرة، توفي 48 محتجزًا خلال الفترة من سبتمبر 2024 حتى سبتمبر 2025، 20 منهم نتيجة الإهمال الطبي المباشر. ففي عام 2024، سجلت 11 وفاة، منها 5 بسبب الإهمال الطبي، بينما بلغ عدد الوفيات في 2025 نحو 37 حالة، منها 15 حالة بسبب الإهمال الطبي، ما يعكس تصاعدًا خطيرًا في المعاناة الصحية للمحتجزين.
ومن جانبه، وثّق مركز النديم لمناهضة العنف والتمييز 77 حالة إهمال طبي داخل أماكن الاحتجاز خلال النصف الأول من عام 2025، تراوحت بين الحرمان من الرعاية الطبية الأساسية وتدهور حالة المحتجزين بشكل حاد.
وأوضح المركز أن الرقم الفعلي قد يكون أكبر بكثير نظرًا لصعوبة الوصول إلى كل السجون والمعتقلات، مشيرًا إلى أن شهر مايو/أيار وحده شهد أكبر عدد من الحالات (22 حالة)، يليه شهري أبريل/نيسان ويونيو/حزيران بواقع 20 حالة لكل منهما، لتبرز مأساة صحية متصاعدة خلف جدران السجون المصرية.
في الأخير.. تؤكد الأرقام الموثقة بشأن معدلات الوفاة داخل الزنازين والسجون جراء الإهمال الطبي أن المرض داخل المعتقلات لم يعد مجرد مصادفة أو تقصير إداري، بل أصبح أداة عقاب تُستخدم ضد المعارضين السياسيين وأصحاب الرأي، ليصبح السجن مسرحًا للموت البطيء تحت غطاء القضاء والقدر، بعيدًا عن أي مساءلة أو شفافية.
وفي هذا السياق، يتحول الإهمال الطبي إلى سلاح بارد تتقنه الأجهزة الأمنية، يتيح لها التخلص من المعارضين دون اللجوء إلى أحكام الإعدام التي قد تثير ضغوطًا وانتقادات دولية، فخلف هذه الأبواب الموصدة، يواجه المعتقلون المرض والصمت الرسمي معًا، بينما تتوالى استغاثاتهم وأصوات أسرهم دون أن تسمعها السلطة، لتظل الزنازين شاهدة على مأساة إنسانية مستمرة، تضرب بالقوانين والمواثيق الدولية عرض الحائط وتغلق نافذة الأمل أمام آلاف الضحايا.
