أسقطت قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها مدينة بابنوسة بولاية غرب كردفان في اﻷول من كانون اﻷول/ ديسمبر الجاري عقب حصارٍ استمر لما يقارب العام، وهجمات متواصلة استمرت لأسابيع على المدينة المحاصرة أسفرت عن موجات نزوح كبيرة، حيث أعلنت غرفة طوارئ بابنوسة في التاسع من كانون الثاني/ نوفمبر المنصرم نزوح 177,000 نسمة وخلو المدينة بنسبة كبيرة من المواطنين واﻷسر.
وأعلن الجيش في الرابع من كانون اﻷول/ ديسمبر الجاري وصول قوات الجيش المنسحبة من مدينة بابنوسة إلى اللواء 90 بهجليج. وأكدت مصادر عسكرية مطلعة في تصريحات صحافية أن الدعم السريع كانت قد استعانت بمرتزقة من دول أخرى كما استخدمت أجهزة تشويش حديثة في المعارك اﻷخيرة ببابنوسة تسببت في قطع اﻹتصال داخل غرفة السيطرة، بالتالي قطع تواصل قيادة الفرقة مع أفرادها ما تسبب في تعجيل سقوط المدينة.
دمار كبير في مدينة بابنوسة غرب كردفان بالسودان، بسبب الهجمات التي شنّتها قوات الدعم السريع. pic.twitter.com/EH9VQ2SYKm
— نون بوست (@NoonPost) December 3, 2025
الجدير ذكره أن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” قد أعلن في بيان دخول قواته في هدنة إنسانية ووقف للأعمال العدائية، لكن قواته لم تلتزم بهذه الهدنة حيث أستمرت هجماتها على مدينة بابنوسة ومواقع متفرقة في محور جنوب كردفان، كمدينة كادقلي، وهجومها الأخير في الرابع من كانون اﻷول/ ديسمبر الجاري عبر الطائرات المسيرة الاستراتيجية على روضة أطفال بمدينة كالوقي بجنوب كردفان الذي أسفر عن وفاة حوالي أطفال ومواطنين وفق مصادر محلية، وأكدت اﻷخيرة تتبع المسيرة الاستراتيجة المواطنين ومهاجمة تجمع المسعفين المدنيين بالروضة ومن ثم المستشفى في خرق واضح للقانون الدولي الإنساني.
– أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها الكاملة على مدينة بابنوسة في ولاية غرب كردفان ومقر الفرقة 22 مشاة التابعة للجيش السوداني. وفي المقابل، سارع الجيش السوداني بإصدار بيان نفى فيه هذا الإعلان، مؤكدًا أن قواته صدّت الهجوم الذي شنته المليشيات على المدينة.
– اعتبر الجيش السوداني أن… pic.twitter.com/iO4Yk6mWtg
— نون بوست (@NoonPost) December 2, 2025
وأبدى المفوض السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، قلقه في تعميم صحفي من تصاعد القتال في كردفان الكبرى بين الجيش السوداني والدعم السريع مشيرًا إلى أن ما يحدث في كردفان هو إعادة لما حدث في الفاشر، وقال: “يجب أن لا نسمح لكردفان بأن تصبح فاشرًا أخرى”، داعيًا الدول ذات النفوذ الضغط لوقف القتال ووقف تسليح الأطراف المتنازعة.
أهمية تغيير ديناميات النزاع
تقع مدينة بابنوسة في ولاية غرب كردفان، وتبعد عن العاصمة الخرطوم نحو 697 كيلومتراً. وهي مدينة ذات أهمية استراتيجية كبيرة، وذلك لما تتميز به من موقع جغرافي، وموارد اقتصادية، ما جعلها ساحة للتنافس خلال الحرب الجارية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع وتسبب في إطباق الأخيرة حصارًا عن المدينة إستمر لِـ قُرابة العام قبل إسقاطها.
تعد المدينة أحد أهم مراكز النقل والسكك الحديدية في السودان، ومن هناك يتفرع خط إلى الجنوب نحو مدينة واو في جنوب السودان، إضافة إلى خطوط تربط غرب السودان بشماله وشرقه. وضمّت المدينة أيضاً مرافق تعليمية، مثل جامعة غرب كردفان ما جذب طلاباً من عدة مناطق، وأضفى طابعاً حضرياً على المدينة. وبفضل هذه العوامل تحوّلت بابنوسة إلى مركز مهم على مستوى غرب ووسط السودان، ليس فقط من الناحية المدنية، بل أيضاً كمحرك استراتيجي.
تصدت بابنوسة قبل عدة أيام لهجوم جديد من مليشيا الدعم السريع في ثالث محاولاتها للسيطرة عليها، حيث أتت هذه المرة بتعزيزات كبيرة مزودة بأسلحة متطورة ومدرعات إماراتية وطائرات مسيرة ومنظومة دفاع جوي صينية.
المزيد من التفاصيل في هذا التقريرhttps://t.co/ySxvVsZzsP@YouBasher ✍️ pic.twitter.com/gBOf3QwngH
— نون بوست (@NoonPost) November 19, 2025
ونظرا لموقع بابنوسة الجغرافي وبصفتها نقطة وصل بين شمال، غرب، جنوب وشرق السودان، فإن السيطرة العسكرية عليها تعني التحكم في خطوط الإمداد والحركة والنقل عبر أجزاء كبيرة من البلاد. بالاضافة إلى أن السيطرة عليها تمنح الجهة المسيطرة نفوذاً أوسع على غرب كردفان وربطها بدارفور، مما يجعلها مفتاحاً للنفوذ في الإقليم. لهذا السبب، باتت بابنوسة هدفاً استراتيجياً لكلا الطرفين في الصراع، وتتصاعد حولها المعارك بشكل متكرر.
تاريخ المعارك في المدينة
في 22 يناير 2024 بدأ ما يُعرف بـ”حصار بابنوسة”، حين شنت قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها هجومًا على مقر الفرقة 22 مشاة في المدينة، وفي البداية سيطرت القوات على عدد من مراكز الشرطة ونشرت لقطات من داخل المقر، ما أثار ذعراً بين السكان، لكن بعد هجوم مضاد من الجيش، تمكّنت القوات المسلحة من رفع الحصار مؤقتاً.
وفي نوفمبر 2025 أعلنت قوات الدعم السريع هجوماً جديداً على المدينة، مع قصف مدفعي مكثف لمواقع الفرقة 22 داخل بابنوسة، ثم أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها على المدينة ومقر الفرقة في الأول من كانون الأول/ ديسمبر الجاري معتبرة هذا الإنجاز نقطة محورية في السيطرة على غرب كردفان وربط دارفور بها.
ونشر عناصر يتبعون للدعم السريع مقاطع مصورة لهم وهم في بوابة هذه الفرقة العسكرية. بعض المصادر تفيد أن القوات المسلحة خسرت وجودها الميداني في غرب كردفان بعد سقوط بابنوسة، ما يجعل هذا الحدث مفصليا في خارطة النزاع.
صور ومقاطع ميدانية تكشف امتلاك مليشيات الدعم السريع أسلحة أوروبية وصلت إليها عبر شبكة تهريب واسعة تقودها الإمارات، رغم الحظر الدولي على تسليح السودان. pic.twitter.com/BLoQAPBOjY
— نون بوست (@NoonPost) December 5, 2025
هذه المعارك والقصف المتواصل دفعا آلاف السكان إلى الفرار، فبحسب تقارير، ونزح عشرات آلاف الأشخاص بعد أن أصبحت المدينة غير صالحة للسكن جراء القتال والدمار. كما أن بعض المنظمات الدولية أفادت بأن كثيراً من النازحين عاشوا في ظروف قاسية بلا مأوى ولا طعام ولا خدمات صحية، وسط صعوبة وصول الإغاثة بسبب الأوضاع الأمنية.
وتعد السيطرة على بابنوسة حدثاً مفصلياً في الصراع لتأثيرها على قطع أو تأمين خطوط الإمداد بين كردفان ودارفور ومناطق السودان المختلفة، بالإضافة إلى أنها رمز معنوي لوجود الفرقة 22 مشاة والذي يعد سقوطها خسارة معنوية كبيرة للجيش تغيير موازين القوى في إقليم كردفان.
انسحاب لإعادة التمركز
يرى الخبير الاستراتيجي والأمني اللواء، معتصم عبدالقادر، أن انسحاب الجيش من الفاشر وبابنوسة قد يعد من جانب فقدان للأرض لكنه من الممكن أن يُقرأ كذلك كتجميع وحفاظ على مقدرات الجيش من الموارد البشرية والتسليح والذخيرة والدلو بها إلى ميادين معارك أخرى تتوفر فيها كافة الموارد العسكرية وعلى وجه الخصوص اﻹمداد، فبالنسبة لمعتصم يؤدي الاستمرار في القتال في مناطق عسكرية لإبادة القوة الموجودة وبالتالي فقدان القوة البشرية والأسلحة والذخائر والمعينات، ويقول “هنا الانسحاب العسكري لا يقل أهمية عن الدفاع، الهجوم، الحفاظ على اﻷرض، واستلام أرض جديدة”.
ويعتقد الخبير الأمني والاستراتيجي أن عموم الأوضاع ومستقبلها في مناطق كردفان ودارفور تصب في صالح الجيش السوداني مستندًا في تحليله إلى تقدمات للجيش في ولايتي شمال كردفان وجنوب كردفان وفي مناطق تقع تحت سيطرة الحركة الشعبية.
وقال “الآن القوات المسلحة السودانية تمكنت من استلام مناطق كانت الحركة الشعبية تسيطر عليها لما يزيد عن الأربعين عامًا، وهناك تقدمات كبيرة جدًا وفي حال استمرار القوات المسلحة بهذا المستوى، وأرى أنها ستسترد كافة المناطق في ولاية جنوب كردفان في القريب العاجل وتحقق انطلاقات مهمة في دارفور وتحديدًا ولاية شرق دارفور الضعين لقربها من كردفان وبالتالي شمال دارفور”.
ويخوض الجيش السوداني معاركًا محتدمة في محور جنوب كردفان، وأكد بيان لمحامو الطوارئ قصف الجيش السوداني لمدرسة بمنطقة كمو التابعة لمحلية هيبان الواقعة تحت سيطرة الحركة الشعبية شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو وأسفر الهجوم عن مقتل وإصابة العشرات وفقًا للبيان فيما لم يعلق الجيش على الحادثة.
سيطرة لها تبعات
رى الباحث في الشأن الأفريقي، د.محمد تورشين، أن استيلاء الدعم السريع على بابنوسة يؤكد بأن الموقف العملياتي والعسكري الآن في صالح الدعم السريع على ضوء تقدم اﻷخير وسيطرته على مواقع مهمة كالفاشر، ويعتقد تورشين أن سيطرة الدعم السريع على المدينة سيؤثر على مسار العمليات في محور كردفان ويشجع الدعم السريع على إسقاط مدينتي كادقلي والدلنج وحتى اﻷبيض.
وبالنظر للوضع القائم في السودان يقول الباحث في الشأن اﻹفريقي أن مسألة تقسيم السودان من ضمن السيناريوهات المطروحة لكن لا يمكن ترجيحه جديًا. ومضى “من الممكن أن تستخدم الدعم السريع التقسيم كسياسة أمر واقع ولكن في الوضع الدستوري والقانوني لا يمكن تقسيم السودان بإرادة أو قوى أحادية وهذا معلوم في القانون الدولي الذي ينظم هذه المسائل”.
وبالحديث عن مدى فعالية الضغوط الدولية في تحجيم النزاع في السودان يقول د. تورشن أن الغرض منها محاولة التأثير عبر التلويح بالعقوبات لما أُرتكب من جرائم وانتهاكات من قبل الطرفين، لكن الغرض من الرسائل الامريكية التعاطي مع المصالح في السودان وتوجيه رسائل للحكومة بعدم التعاطي مع روسيا والصين، وفقًا لتورشين.
كشف مدير معمل البحوث الإنسانية في جامعة ييل، ناثانيال رايموند، شهادات صادمة عن الجرائم التي ارتكبتها مليشيات الدعم السريع بعد الفاشر، مؤكداً أن شبكته الميدانية أبلغتهم في الساعات الأولى بمقتل آلاف المدنيين قبل انقطاع الاتصالات بالكامل.
رايموند أوضح أن فريقه استُدعي من أوكرانيا… pic.twitter.com/E0Lgk4Xl48
— نون بوست (@NoonPost) December 4, 2025
وطرح مجلس الشيوخ الأمريكي مقترحًا لتصنيف الدعم السريع كمنظمة إرهابية، ومن جانبه اتهم وزير الخارجية اﻷمريكي ماركو روبيو قوات الدعم السريع بارتكاب فظائع بحق المدنيين في تصريحات صحافية ولم يستبعد تصنيف الدعم السريع كمنظمة إرهابية في سبيل إنهاء الصراع الدائر في السودان.
فيما أجازت دول البحيرات العظمى الأفريقية تصنيف الدعم السريع كمنظمة إرهابية قمتها التاسعة المنعقدة في 16 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي ودعت مجلس اﻷمن لإدانة جرائمها.
وفي كانون الثاني/ يناير من العام الجاري فرضت الحكومة اﻷمريكية عقوبات على القائد العام للجيش السوداني عبدالفتاح البرهان على خلفية اتهام الجيش السوداني استخدام الأسلحة الكيميائية في النزاع، لكنها لم تعزز ادعائها بأي أدلة آنذاك، فيما نشرت فرانس 24 مؤخرًا تحقيقًا قدم أول أدلة علنية على استخدام الجيش على غاز الكلور في أيلول/ سبتمبر 2024، وفقًا للتحقيق.
وعقب سيطرتهم على المدينة نشر أفراد من الدعم السريع فيديوهات من أمام مقر الفرقة 22 مشاة يؤكدون فيها توعدهم بالسيطرة على مدينة الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان كخطوة قادمة.
السيناريو الليبي
يقول المحلل السياسي، محمد عباس، إن سقوط بابنوسة كان مسألة زمن لأن الجيش فشل في كسر الحصار من الداخل أو فك الحصار عبر التعزيز الخارجي، وهو نفس السيناريو الذي سقطت عبره مدينة الفاشر، نتيجة لنقص الإمداد واشتداد الحصار على الجيش في الداخل في مقابل الإمداد المستمر والوضع المريح للمليشيا في الخارج.
وبالنظر إلى الواقع، حيث تسيطر الدعم السريع على الغالبية العظمى من دارفور وانتشارها الكبير في كردفان، يرى المحلل السياسي أن السودان أقرب للسيناريو الليبي حيث توجد دولة معترف بها شرعيًا وموجودة في بورتسودان وحكومة تمثل في الأمم المتحدة، بينما هنالك وضع ملتبس قائم، حيث توجد حكومة تأسيس في نيالا وهي حكومة غير معترف بها دوليًا، إلا أنها تمارس سلطتها الواقعية في مناطق سيطرة الدعم السريع. ويضيف عباس بأن “وجود حكومتين في منطقتين مختلفتين أمر خطير يهدد بنية ووحدة الدولة”.
ويرى عباس أن أي حديث عن تغيير شعارات البلاد من أي جهة من الجهات في هذا الوضع القابع في البلاد يشير لوجود جهات وجماعات ترغب في تقسيمها، ويتابع “من الواضح وجود ضغوط ومصالح دولية خلف تقسيم السودان وإن كان المجتمع الدولي يتحدث عن وحدة البلاد فإن التعامل الفعلي ليس كذلك، كما نشهد التغاضي عن الوضع القائم في إقليم دارفور وبناء على ذلك فإن أي حديث عن تغيير العلم أو تغيير اسم الدولة يصب في اتجاه تقسيم السودان”، وتكرس حكومة تأسيس بدورها لفصل غرب السودان بالرغم من ادعائها السعي للوحدة، وفقًا للمحلل السياسي.
أفاد موقع “ميدل إيست آي” نقلًا عن شهود وشبكة أطباء السودان أن ميليشيا الدعم السريع بالاشتراك مع فصيل الحركة الشعبية لتحرير السودان اختطفت 21 طفلًا تتراوح أعمارهم بين 14 و 15 عامًا وتم احتجازهم ضمن مجموعة تضم 150 شابًا ورجلًا بهدف تجنيدهم كمقاتلين في صفوف القوات شبه العسكرية.
— نون بوست (@NoonPost) December 2, 2025
ويصف عباس الضغوط الأمريكية على الطرفين بأنها وسائل ضغط سياسية أكثر من أنها تهدف للمحاسبة وإنصاف الضحايا، أو تحقيق العدالة الانتقالية في مستقبل السودان.
وكان القائد العام للجيش عبدالفتاح البرهان قد أقترح إعادة علم السودان القديم الذي رفع بعد استقلال السودان -من الأعلى أزرق ثم اصفر ثم اخضر- في خطاب في الأول من كانون الأول/ ديسمبر في بورتسودان. وبثت وكالة السودان للأنباء (سونا) تباعًا حديث ناجي مصطفى وهو محلل سياسي وأكاديمي محسوب على الإسلاميين وهو ينادي بتغيير أسم السودان واصفًا تغيير الاسم بالسنة الفلسفية التي قد تسهم في تحسين وضع السودان على غرار بوركينا فاسو، كما يقول.
وأثار تتابع التصريحات حول علم واسم السودان مخاوف مجموعة من المراقبين السودانيين عبر الوسائط حيث وصفوا التصريحات بـ “التمهيد لانفصال السودان”.
